فلسطين: فلنسمِّ الأشياءَ بمسمّياتها!


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

مؤخّرًا، وصل الحالُ في تبرير البعض لاتفاق أوسلو وللعلاقة بالعدوّ الصهيونيّ أنْ صَوّر “التنسيقَ الأمنيّ” معه وكأنّه “انتصارٌ” وطريقٌ للتحرير والكرامة. يتفاخر حسين الشيخ، وزيرُ الهيئة العامّة للشؤون المدنيّة الفلسطينيّة، بما أخبره إيّاه مسؤولٌ إسرائيليّ عن “التزام إسرائيل” بالاتفاقيّات.[1] هذا المنطق المخجل يأتي في وقتٍ أمعن فيه العدوُّ في انتهاك جميع الاتفاقيّات، وفي وقتٍ يعاني فيه الشعبُ >الفلسطينيّ سمومَ الاحتلال والقمع كلَّ ساعة.

وجاءتنا مباشرةً “صدمةٌ” ثانيةٌ تمثّلتْ في إعادة السفيريْن الفلسطينيّيْن إلى الإمارات والبحرين، على الرغم من عدم تراجع هاتيْن الدولتيْن عن خطوات التطبيع والخضوع للكيان الصهيونيّ.

كغالبية الفلسطينيين، أشعرُ بالغضب عندما أرى السلطةَ الفلسطينيّة ورئيسَها لا يريدان الإقرار بأنّ اتفاقَ اوسلو لم يكن أقلَّ من كارثةٍ وطنيّةٍ عمّقتْ من مأساة النكبة، وبأنّ إسقاطَه الكامل أمسى ضرورةً وطنيةً ملحّةً لوقف المزيد من الكوارث والنكبات التي تنتظرنا. إنّه اتفاقٌ لم يَحْمِ الشعبَ ولا الارض، بل استباح كلَّ المحرمات، فلماذا التمسّكُ به بعد 27 عامًا من توقيعه واستمرار “المرحلة الانتقاليّة” إلى اليوم؟

حالةُ محمود عباس تشبه حالةَ ترامب، الذي لا يريد أن يعترفَ بهزيمته في الانتخابات. فهل هي حالةٌ من الثقة المفرطة بالذات، أمْ حالةٌ مفزعةٌ من الوهم وخداعِ النفس؟ في رأيي أنّها تعبّر عن ثقة عباس المطْلقة بأنّه القائدُ الوحيد الذي سيجلب “الدولةَ الفلسطينيّة” مهما قزمتْ، ولو لم تكن أكثرَ من روابطِ قُرًى أو بانتوستانات.

لا تريد السلطةُ مواجهةَ الحقيقة الساطعة، المتمثّلة في أنّ الغالبيّة الساحقة من الشعب الفلسطينيّ، وخصوصًا شعبنا داخل مناطق 1948 وفي الشتات، تقف ضدّ مآلات اتفاقيّات أوسلو وضدّ أداء السلطة. فهل هناك سببٌ ليتمسّك الإنسانُ بسجنه، سوى خوفِ البعض من “الفوضى” و”الدخول في المجهول”؟ إنّ مَن يشجّع السلطةَ على الاستمرار في هذا المسار اللاوطنيّ المدمِّر هو الفئةُ القليلةُ التي راكمتْ ثروتَها وسلطتَها من خلال مكاسب أوسلو الشخصيّة، ومن خلال تعاونها مع سلطاتِ الاحتلال، أمثال حسين الشيخ وبشّار المصري وبضع عشراتٍ غيرهما.

يجب أن يتوجّهَ نضالُنا اليوم إلى العمل على إلغاء كامل بنود اتفاقيّات أوسلو ونتائجها، والإقلاعِ عن لعبة التفاوض العبثيّ وفرض الحلول من خلالها أو من خلال استخدام منظّمة التحرير، التي يجب إخراجُها كلّيًّا من مسار أوسلو والسلطة في الأرض المحتلّة. ومن أجل العمل على تحقيق ذلك، علينا أن ننضمَّ إلى مناشدة د. ممدوح عكر في مقالته التي نشرها في 21 تشرين الثاني: “من الواضح أنّ انهيار الموقف الرسميّ الفلسطينيّ، بهذا الشكل المفاجئ والمهين والخطير، يَفْرض علينا أن نمتلك شجاعةَ الاعتراف بأنّ قيادتَنا الرسميّة، الممسكةَ حاليًّا بزمام القرار الوطنيّ، لم تعد تمتلك لا أهليّةَ ولا قدرةَ الاستمرار في التفرّد بالقرارات المصيريّة…” ويختم عكر مقالته بالقول: “هل تدرك قياداتُنا أنّه لم يعد لها من دور تاريخيّ في هذه اللحظة سوى إنجاز هذه الخطوة، فهل تمتلك إرادةَ القرار نحو ذلك؟”[2]

منذ اتفاقيّات أوسلو والقضيّةُ الفلسطينيّةُ في تراجعٍ مستمرّ، ووضعُنا الداخليّ متخبّط وهشّ لأسبابٍ عدّةٍ أهمُّها: تغييرُ ميثاق منظّمة التحرير، وتهميشُ دورها كهيئةٍ جامعةٍ لكلّ مكوّنات الشعب الفلسطينيّ وتنظيماتِه المختلفة، وعدمُ وضع الإستراتيجيّة والبرامج الجامعة، ولا إعادةُ بناء المنظّمة لتكون الجبهةَ الوطنيّةَ المتّحدة التي تقود النضالَ الفلسطينيّ.

المنظمة مختطَفة، منذ سنوات، من قِبل القلّة المتنفّذة. أين بقيّةُ التنظيمات؟ أين الإصلاح؟ نظامُنا السياسيّ لا يقلّ تخلّفًا وديكتاتوريّةً وفسادًا عن أسوأ الأنظمة العربيّة. لنرَ من يقودها: محمود عبّاس وأنصارُه من حركة فتح (غالبيةُ قاعدتها لا رأي لها)، وبعضُ التنظيمات التي يكاد وجودُها الفعليُّ لا يُذكر، هذا فضلًا عن بعض المستقلّين، والمنتفعين على الساحة.

ماذا فعلت السلطةُ بعد تصريحات حسين الشيخ؟ بدلًا من إقالته، حاول رئيسُ الوزراء محمد اشتيه امتصاصَ النقمة وتبريرَ إعادة “التنسيق الأمنيّ” مع العدوّ بذريعة الحاجة إلى المال، مضيفًا كلامًا مكرَّرًا منذ 27 عامًا: “العلاقة التي تربطنا مع إسرائيل علاقةُ شعبٍ محتلّ مع دولة احتلال، وهناك اتفاقيّاتٌ موقّعةٌ لم تكن إسرائيلُ تحترمُها… ولا يمكن أن يتوقّعَ أحدٌ أن يتمّ الالتزامُ بها من طرفٍ واحد، من قِبلنا.”[3] فإلى متى يستمرّ الخضوعُ من جانب الطرف الفلسطينيّ الرسميّ؟

وبكلماتٍ قليلةٍ معبّرة يصف د. عكر اتفاقيّاتِ أوسلو بالآتي: “خسرنا فيها من لحمِ ودمِ قضيتنا أرضًا واستيطانًا وقدسًا وشهداءَ وأسرى، و[حصدْنا] هدمَ بيوتٍ وتبعيّةً متواصلةً ومتعمّقة. كما خسرنا، بسبب أوسلو الملعونة تلك، وحدتَنا الوطنيّة، وهمّشنا بها منظّمةَ التحرير وقضيّةَ اللاجئين، جوهرَ وأساسَ قضيّة شعبنا، وتخلّينا من خلالها عن فلسطينيّينا في مناطق 48.”[4]

من البداية كان واضحًا أنّ “اسرائيل” أرادت من الاتفاقيّات تعزيزَ استيطانها والتخلّصَ من كلفةِ الاحتلال المباشر. فلماذا لم نُنهِ الاتفاقيّات حالما رأيناها تفعل ذلك، خصوصًا حين استانفت الاستيطانَ في جبل أبو غنيم؟ لماذا لم ننهِها عندما تجرّأتْ ودبّرت اغتيالَ الشهيد ياسر عرفات (ولو بأيدٍ فلسطينيّة)؟

لقد استغلّت “إسرائيل” المرحلةَ الانتقاليّة وسلطتَها على الحدود والأرضِ والاقتصادِ والمياه وكلّ المرافق الاساسيّة للإمعان في توسّعها وفاشيّتِها وعنصريّتها. واستمرّت السلطةُ في التنسيق الأمنيّ الذي غطّى على قمعِ أسرانا الأبطال واغتيالِ مناضلينا وأطفالِنا ونسفِ البيوت وتهويدِ القدس؛ كما تُواصل سياسةَ اللامبالاة (وأحيانًا التواطؤ) حيال الحصار الإجراميّ على قطاع غزّة، وحيال اللاجئين وحلمِهم بالعودة إلى الوطن.

دعونا نستعرض المزيدَ من مصائب اوسلو:

أولًا: أعطت اتفاقيّاتُ أوسلو الانطباعَ لدى الكثير من الدول والجهات في العالم أنّ الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 قد تحرّرتْ، مع أنّ الأمم المتحدة تعتبرها محتلّةً من وجهة نظر القانون الدوليّ. ولهذا خفّ الحديثُ عن خروق “إسرائيل” لاتفاقيّات جنيف الأربع التي تُعنى بحماية المدنيّين وحقوقِهم الأساسيّة في حالة الحرب والاحتلال.

أين نحن اليوم من هذه الحقوق؟ اتفاقُ اوسلو أضعفنا دوليًّا (لا داخليًّا فقط)؛ فقد فتح البابَ واسعًا أمام عشرات الدول الصديقة لتقيم العلاقاتِ مع الكيان الصهيونيّ، ما عزّز نفوذَه وتأثيرَه في العالم. وأمّا التباهي بقرارات الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة الداعمة لفلسطين ولإقامة الدولة الفلسطينيّة، فلا جديدَ في الموضوع. وعلينا ألّا ننسى القرارَ المهمّ الذي صدر سنة 1975 وساوى الصهيونيّةَ بالعنصريّة، ووافق عرفات على قرار إلغائه في الجمعيّة العامّة مقابل “وعودٍ” أميركيّةٍ فضفاضةٍ بالاعتراف بمنظّمة التحرير وبدعم المفاوضات.

ثانيًا: في أيّ عمليّة سلام، عادةً ما تكون قضيّةُ إطلاق سراح جميع الأسرى القضيّةَ الأولى. إلّا أنّ العدوّ لم يطلق سوى 1200 أسير، وبقي حينها حوالي 3500 أسير في السجون، ودخل آلافُ المناضلين المعتقلات منذ ذلك، ويصل عددُهم اليوم إلى أكثر من 4800 أسير، وأكثر من 170 طفلًا، كلُّهم يفتقدون إلى الحدّ الأدنى من الأوضاع الإنسانيّة والاحترام لحقوقهم كمعتقلين سياسيّين وفق اتقاقيّات جنيف. والآن أصبحت القضيّةُ المقدّسةُ، المتعلّقة بواجب دعم أسْر أبطالنا الأسرى، خاضعةً للشروط الإسرائيليّة المُهينة.

ثالثًا: يشكّل التصعيدُ المرعبُ للاستيطان الاستعماريّ أكبرَ إدانةٍ لأوسلو. ففي حين كان عدد المستوطنين 110,066 مستعمرًا سنة 1993، وصل اليومَ إلى أكثر من 671 ألفًا، منهم أكثرُ من 229 ألفًا في القدس وحدها (هناك حوالي 130 مستوطنة “رسميّة” و100 مستوطنة غير رسميّة).

رابعًا: وُقّعت اتفاقياتٌ اقتصاديّةٌ مع “إسرائيل” تعطيها السيطرةَ الكاملةَ على اقتصادنا وحدودِنا ومياهِنا ومواردِنا الطبيعيّة. ودُمج معظمُ العائدين بأجهزة السلطة، والغالبيّةُ بلا مهمّات، لنصبح من أكبر البيروقراطيّات في العالم نسبةً إلى عدد السكّان؛ أيْ بتنا أمام بطالةٍ مقنّعةٍ كبيرة.

وبعد سنواتٍ قليلةٍ صدر قانونُ التقاعد المبكّر (60 عامًا) للكوادر العسكريّة والمدنيّة التي تحمل رُتبًا عسكريّةً؛ ما يعني الاستغناءَ عن خبراتٍ مهمّةٍ في حقل تخصّصها وتجربتها النضاليّة.

وفي فترةٍ لاحقة شُجّع الموظّفون على الاقتراض غير الضروريّ من البنوك.

والمعيب أنّ ميزانيّةَ الأجهزة الأمنيّة تزيد عن 28% من الميزانيّة العامّة، وتزيد عن ميزانيّة وزارتَي الصحّة والتربية مجتمعتيْن! وفي المقابل، ارتفعتْ نسبةُ البطالة ونسبةُ العمّال في المستوطنات وداخل الخطّ الأخضر. والنتيجة؟ علينا الآن أن نستجدي لقمةَ العيش من الدول المانحة وبشروطها، وأن نخضعَ لسياسات العدوّ الجائرة.

فهل وضعت السلطةُ الخططَ التفصيليّة لمواجهة التصعيد الإسرائيليّ-الإمبرياليّ وضمورِ دائرة الأصدقاء في السنوات الأخيرة؟ طبعًا كلا!

الحوار والمصالحة؟

ثمّ إنّ محمود عبّاس عوّق محاولاتِ المصالحة الجادّة مع حركة حماس، وعوّق كلَّ محاولات الوحدة الوطنيّة الحقيقة مع سائر التنظيمات. كان يناور ليؤجِّلَ الاجتماعات، ويُصرّ على عقدها في مكانٍ لا يمكن أن يصلَه الجميع. وضَرب بعرض الحائط القراراتِ الصادرةَ عن المجلس المركزيّ بوجوب إعداد خطط فكّ الارتباط مع الاحتلال الإسرائيليّ على المستويات السياسيّة والإداريّة والاقتصاديّة والأمنيّة.

وتوالت هذه القراراتُ بعد العام 2015، ولا تنفيذ! وتَرافق هذا المسارُ، المنتهِكُ للوحدة الوطنيّة، مع مزيدٍ من الممارسات اللاديمقراطيّة: حصارًا، وقمعًا لحرّيّة الرأي، وتعطيلًا للمجلس التشريعيّ ولجهاز القضاء.

الانتقالات السياسيّة والأوهام المتتالية

سيكون من المفيد مستقبلًا دراسةُ سهولة انتقال هذه “القيادة” من نكبةٍ إلى أخرى وتخطّي ما قبلها كليًّا؛ بما يشير إلى حالةٍ مقلقةٍ من فقدان الذاكرة: فقد ابتدأنا بتحرير فلسطين وعودةِ اللاجئين، ثم انتقلنا إلى تحرير الأرض المحتلّة عام 1967، فإلى إقامة دولةٍ مستقلّة، وصولًا إلى أوسلو ومآسيها. وكانت هناك مطالبةٌ (متأخّرة) بوقف الاستيطان، وبعدها إدانةٌ صوتيّةٌ مدوّية لقرار ضمّ القدس وصفقة القرن وقانون “يهوديّة الدولة.” والآن نسيت السلطةُ كلَّ ذلك، وما يهمّها اليوم هو وقفُ عمليّة الضم. وقد هدّدتْ بإلغاء أوسلو إنْ تمّ الضمّ لأنّه “احتلال،” كما قال عبّاس والشيخ. لكنْ ماذا عن باقي فلسطين؟ أليست كلُّها محتلّة؟!

وعلى الرغم من انحياز الولايات المتحدة الكامل إلى العدوّ، فقد بقيت الأوهام. ولهذا أُصيبتْ هذه القيادة، الفاقدةُ للاستراتجية والرؤيا، بصدمةٍ وخيبةِ أمل من ترامب “صديقها” حين أعلن صفقةَ القرن. والآن تضع كلَّ آمالِها وأوهامِها مع الرئيس المنتخب جو بيْدن، وكأنّه تشي غيفارا الذي سيأتي لدعم قيام الدولة الفلسطينيّة، متناسيةً أنّ “إسرائيل” هي المخفرُ المتقدّم للإمبرياليّة.

كيف وصلنا إلى هنا؟ أهميّة توضيح الرؤى

نعرف أنّ نضالنا معقّد ومن أصعب النضالات؛ فعدوُّنا مركّبٌ ومكوّنٌ من الصهيونيّة والإمبرياليّة والرجعيّة العربيّة، وبلادُنا مستهدَفة بسبب موقعها الإستراتيجيّ وثرواتها النفطيّة. ولكنّ أهمّ أسباب الانهيار الراهن هو افتقارُنا إلى القيادة المناسبة الحكيمة، وإهمالُ بلورة الرؤى والبرامج، وغيابُ الوحدة الوطنيّة، وتهميشُ دور التنظيم والمؤسّسات والتثقيف الثوريّ.

لا شكّ في أنّ حركة المقاومة الفلسطينيّة ضعفتْ وتشرذمتْ بعد العدوان الصهيونيّ على لبنان سنة 1982. ولهذا كانت المعارضةُ العارمةُ لأوسلو، في الغالب، سياسيّةً وفكريّةً وخطابيّة. لكنّ أهمّ معارضة كامنة هي معارضةُ الأكثريّة الصامتة التي تمثّل غالبيّةَ الشعب في الداخل والخارج، وهي تشعر أنّ هذه السلطة كيانٌ مسخٌ لا يمتّ بصلةٍ فكريّةٍ أو عاطفيّةٍ إليهم ولا إلى تاريخهم النضاليّ الطويل.

في البداية عارضت اتفاقياتِ اوسلو التنظيماتُ الأساسيّة، باستثناء حركة فتح (وإنْ رفضتْها القاعدةُ الكبيرةُ، وخصوصًا في المنفى). وعارضها كذلك الآلافُ من الشخصيّات الوطنيّة، ومن المثقّفين، وبعضُهم استقال من موقعه الرسميّ في المنظّمة. وكُتبتْ عشراتُ الكتب ومئاتُ المقالات للتنبيه إلى خطرها الوجوديّ على القضيّة الوطنيّة.

غير أنّ مشاركةَ بعض الكوادر المنتمية إلى التنظيمات الرافضة لأوسلو في مؤسّسات السلطة (وإنْ في مواقعَ غيرِ متقدّمة)، ثمّ المشاركةَ في انتخابات المجلس التشريعيّ (المرتبط وجودًا وصلاحيّةً باتفاقيّات أوسلو)، أعطى الانطباعَ بأنّ هذه التنظيمات تحاول “التأقلمَ” مع الأمر الواقع. وتعقّدت الأمورُ عندما فازت حركةُ حماس بغالبيّة المقاعد في المجلس التشريعيّ. وحدثتْ بعدها المواجهةُ السيّئةُ الذكر بينها وبين حركة فتح، وتمّ الانقسام. وبدا الوضعُ محزنًا وسرياليًّا: فهناك سلطتان أو دولتان في وطنٍ محتلٍّ ممزّق الأوصال، لا تملك أيٌّ منهما أيَّ سلطةٍ فعليّةٍ أو سيادة. واشتدّت معاناةُ شعبنا، وبخاصّةٍ في غزّة، وازداد المشهدُ تعقيدًا. وفي هذا الصدد أنقلُ ما جاء في نداء “ملتقى فلسطين”: “إنّ القيادة الفلسطينيّة تستغلّ واقعَ تجزئة شعبنا، وتشتُّتِه، وخضوعِه لأنظمةٍ مختلفة، بحكم اللجوء والاحتلال والهيمنةِ الإسرائيليّة والافتقادِ لإقليمٍ واحد، لفرض خياراتها الأحاديّة والمضرّة…”[5]

لا أقلّلُ هنا من أهمّيّة نضال أيّ تنظيمٍ، ولا من تضحياتِ قواعده، ولا من استمرار شعبنا في النضال بكافّةِ إمكانيّاته. لكنّني أحاول تحديدَ بعض مكامن الخلل الأساسيّة التي ساعدتْ، من دون قصدٍ ربّما، على نفخ الحياة في مسار أوسلو المترنّح. المشكلة أنّه لم تكن هناك إلّا وسائلُ ضغطٍ محدودةٌ جدًّا، وأصبحت المعارضةُ الفلسطينيّة وبعضُ الشخصيّات المسموع صوتها تركّز مطالباتِها على نقد “السياسات الخاطئة،” وتحتجّ بشكل متكرّر على عدم تنفيذ قرارات المجلس المركزيّ أو اجتماع قيادات المقاومة المطالبة بإنهاء التنسيق الأمنيّ، ودومًا كانت تطالب بـ”المصالحة وإنهاء الانقسام”! وعلى الرغم من خطورة الوضع، فإنّه لم يجرِ التحسّبُ والتحضيرُ لكافّة السيناريوهات، وكلُّها سيّئة. فما زال الكثيرون يأملون بـ”تراجع” عبّاس عن نهجه المدمِّر، وبإنهاءِ اتفاقيّات اوسلو وأوهام التفاوض والتفريط، وتحقيق المصالحة.

ولكنْ مع التطوّرات الأخيرة تصاعدتْ وتيرةُ انتقاد أداء السلطة والمخاوف من عودتها إلى التنسيق الأمنيّ والمفاوضات. وصدرتْ بياناتٌ جيّدة تشدِّد على إدانة نهج القيادة، مثل البيان الذي يحمل عنوان: “مئات الشخصيّات يطالبون القيادةَ والقوى بإنهاء الانقسام ويحذّرون من تجريب المجرَّب.”[6]

لكنْ لا أدري لماذا أصبحت “المصالحة/الانقسام” بين حركتيْ فتح وحماس العنوانَ والهدفَ، لا تعزيز الوحدة الوطنيّة مع كافّة التنظيمات بحسب اتفاق القيادات في بيروت (أيار/مايو 2020)! فهل القضيّة هي الصراعُ على السلطة؟ المصالحة وإنهاء الانقسام يتحقّقان فقط على أرضيّة البرنامح الوطنيّ الجامع.

كما أصدر “ملتقى فلسطين” نداءً جيدًا طرح فيه بعضَ الحلول للمأزق الراهن. ولكن، إذ أوافقُ البيانَ على أهمّيّة الإعلان عن انتهاء اتفاق أوسلو، فإنّي أستغرب أن يناقضَ تحليلَه بالذات عن مساوئ التحوّل إلى سلطة، فيطالِبَ بما هو أهمُّ تعبير عنها: “… بانتخاباتٍ للمجلس الوطنيّ والتشريعيّ وللرئاسة بالتوازي وفي أقرب وقتٍ ممكن”![7]

الخطوات المطلوبة

إنّ تصاعدَ الخطاب الساعي إلى الوصول إلى تحديد الرؤى والأوليّات لمنع الوصول إلى الهاوية ضروريّ، ويجب أن يتواصلَ ويتّسع. وهناك تحرّكاتٌ واعدةٌ بدأتْ تنمو، وبخاصّةٍ بين الشباب في الداخل والخارج. غير أنّ شعبَنا لم يتحرّكْ بقوّةٍ بعد، ولكنّه غاضبٌ جدًّا، وهو متمسّكٌ بأرضه وصموده، ولن يخضعَ لأوهام المستسلمين.

أكرِّر: يجب العملُ على إلغاء أوسلو ومخرجاتها. وأضيف: يجب إلغاءُ السلطة بشكلها الحاليّ، وإحلالُ قيادةٍ فلسطينيّةٍ وطنيّةٍ موحّدةٍ مكانَها (كما كانت عليه الحالُ خلال الانتفاضة الأولى ومرحلة السبعينيّات والثمانينيّات)، وبالتالي يجب تعزيزُ دور البلديّات.

وأرى أيضًا وجوبَ رفع شعار “لا لانتخاب المجلس التشريعيّ (ورئيس السلطة)” لأنّه يعزِّز أوهامَ “الاستقلال”؛ ذلك لأنْ لا صلاحيّات تشريعيّةً للمجلس المذكور في القضايا المهمّة في ظلّ سيطرة العدوّ، وغيابِ السيادة، وانعدامِ الفصل بين السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، وزوالِ مقوّمات الحريّات الديمقراطيّة — وأوّلُها حرّيّةُ التعبير والتنظيمِ والتجمّعِ والتظاهر.

هذه خطواتٌ ضروريّةٌ لتعزيز وحدة شعبنا وصموده ولتحصين وضعنا أمام محاولات “إسرائيل” فرض أعوانها ممثِّلين للسلطة وقادةً على الشعب الفلسطينيّ.

ختامًا

أشعرُ بالحزن والغضب، شأنَ الملايين من أفراد الشعب الفلسطينيّ، وأنا أرى التفريطَ بأرضنا وثوابتِنا الوطنيّة وبالرصيد الهائل من تضحيات مئة عام من النضال ضدّ الصهيونيّة. اليوم نخون الأمانات، ونخذل آلافَ الشهداء الذين فارقونا بأمل تحرير الوطن وتوفير العدالة والكرامة لشعبنا. نخذل أسرانا الأبطالَ، ولا تُبكينا عذاباتُ أطفالنا في سجون المحتلّ الفاشيّ، وأطفالنا المحرومين أبسطَ حقوقهم، وأوّلُها طفولتُهم. هذا الرصيد كان من المفروض أن يقرِّب طريقَنا إلى الحريّة والنصر، لا أن يبعدَنا أميالًا عنهما ويضاعفَ من معاناتنا ونزيفنا.

هذه أيّام قاتمة وحزينة. لكنْ مهما حاولوا إخضاعَ شعبنا الفلسطينيّ أينما كان، فسيلتقط أنفاسَه ولو بصعوبة، وستدبُّ الحياةُ مجدّدًا في جسده المرهق. لن يكسروا إرادتنا؛ فشعبُنا عنيد وحيّ!

*عن “الآداب”

هوامش:

[1] الهيئة العامّة للشؤون المدنيّة، الصفحة الرسميّة، مقابلة مع تلفزيون فلسطين، 17/11/2020

[4] مصدر مذكور سابقًا.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: جهان حلو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *