تفكيك مفهوم اللاسامية


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

تدرك الحركة الصهيونية مدى خطورة علم الآثار على روايتها “التاريخية” و”الدينية”، التي بَنَت عليها دولة إسرائيل، وحازت بموجبها على الدعم الدولي، واستطاعت من خلالها تجميع شتات نصف يهود العالم.
وهذه الرواية تعتمد المنهج التوراتي الأسطوري. لذلك، ومنذ بداياتها سعت الحركة الصهيونية للالتفاف على علوم الأركيولوجيا، وتطويعها لدعم وجهات النظر اليهودية، عبر السيطرة على مراكز الأبحاث والدراسات في الغرب، والسيطرة على مراكز الإعلام وصنع القرار، وتشويه سمعه أي باحث أو مؤرخ يتوصل لحقائق تاريخية تتناقض مع الرواية الصهيونية، واستغلال أسطوانة “معاداة السامية”؛ كما فعلت على سبيل المثال مع البروفيسور توماس طومسون عالم الآثار في جامعة ماركويت الأميركية؛ حيث طُرد هذا العالم من الجامعة العام 1992 بسبب آرائه المعارضة للتوراتيين التقليديين، حين أوضح في كتابه “التاريخ المبكر للشعب الإسرائيلي من الكتابة والتنقيبات الأثرية” أنَّ مجمل التاريخ اليهودي يستند إلى قصص من صنع الخيال.
وكذلك ما حدث مع المفكر الفرنسي روجيه جارودي مؤلف كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية” حيث حوكم بتهمة النيل من الجنس اليهودي العام 1995، كما تمكنت الدوائر الصهيونية في فرنسا من استصدار قانون “جيسو” العام 1990، والذي يعتبر أن إعادة النظر في الهولوكوست جريمة ضد الإنسانية!
ونتاجاً لهذا الإرهاب الفكري، صار أي بحث عن المحرقة وعلاقة الصهيونية بالنازية، أو أي نقد للفكر الصهيوني وربطه بالعنصرية، وحتى أي نقد لدولة إسرائيل وسياساتها وممارساتها يُصنف على أنه “معاداة للسامية”!
وصارت مقولة “اللاسامية” سيفاً مسلطاً في وجه كل باحث عن الحقيقة أو شاهد للحق. أو “يهودي كاره لنفسه” إذا كان الباحث يهودياً.
مصطلح “اللاسامية” ابتدعه الصحافي وليام مار العام 1879، ومعناه الحرفي “كراهية العرق السامي”.
وتعرّف دائرة المعارف اليهودية “اللاسامية” بأنها أي حركة منظمة ضد اليهود.. و”الساميون” هم سلالة سام بن نوح، شقيق “حام”، و”يافث”، وفق الأسطورة التوراتية، وبالتالي فإن العداء للسامية يعني عداء الشعوب اليافثية والحامية للشعوب السامية.
بمعنى أنّ فكرة “معاداة السامية” قائمة على التمييز بين عرقين: العرق الآري والعرق السامي، وإلصاق صفات معينة متميزة لكل عرق. وإذا ما صح هذا التصنيف فالعرب هم أصل السامية، وهم ساميون قبل اليهود بمئات السنين، وبالتالي كيف لهم أن يعادوا عرقهم! فضلاً عن خرافة سلالة سام؛ فقد تم استبعاد بقية الشعوب التي من المفترض أنها سامية، واختزال الساميين باليهود فقط، والترويج لمقولة أن اليهود عاشوا تاريخياً في مجتمعات كارهة للساميين!
نلاحظ هنا أنّ الصهيونية لم تتعامل مع “اللاسامية” كرد على المشكلة اليهودية في العصر الحديث؛ بل أسقطت مفهوم “اللاسامية” على التاريخ اليهودي القديم والوسيط، وأعادت كتابته من وجهة نظر مفهوم معاداة السامية، حتى أصبح التاريخ اليهودي بمجمله لا يُفهم إلا من خلال معاداة السامية، أي أنَّ مجمل علاقات الجماعات اليهودية مع الشعوب التي عاشوا بينها أو اتصلوا بها تُفسر فقط داخل إطار نظرية معاداة السامية. وبالتالي أصبح التاريخ اليهودي هو تاريخ العداء للسامية، فكل من عادى اليهود أو تسبب في معاناتهم فهو معادٍ للسامية. وبالتالي يصبح الفهم الأساسي للتاريخ فهماً عنصرياً يضع اليهود في كفة والبشرية بكاملها في الكفة الثانية، بل يصبح التاريخ العام للبشرية هو تاريخ العداء لليهود، أو ما أصبح يسمى بتاريخ اللاسامية.
واللافت للانتباه أنّ اليهود الذين اخترعوا هذا المصطلح لا ينتمون إلى الساميين، بل هم أوروبيون يعيشون في أوروبا، وأصولهم تعود إلى قبائل الخزر، وهي قبائل آرية!
وتقوم مقولة “اللاسامية” على مجموعة من الشعارات (وهي عبارة عن مغالطات)، مثل: “نقاء العرق اليهودي”، وهذه مجرد خدعة ابتكرتها الدعاية الصهيونية، ولا يمكن لها أن تصمد أمام حقائق التاريخ، أو أبجديات المنطق وعلوم الاجتماع، أو حتى العلوم البيولوجية.. فكيف لطائفة متعددة الأصول والمنابت أن تصبح فجأة ذات أصل نبيل؟ وكيف لها أن تحافظ على نقائها العرقي في منطقة خبرت الفاتحين والغزاة الذين كانوا يتعاقبونها تباعاً؟ وكانت مسرحاً للأحداث التي لم تتوقف يوماً، ونقطة جذب للهجرات الجماعية التي ظلت تفرض تداخلاً للبنى الاجتماعية وانصهار القبائل فيما بينها، وبالتالي تذويب حدود الأعراق البيولوجية.
كما تقوم “اللاسامية” على مقولة “وحـدة الأصل للشعب اليهودي”، و”التاريخ اليهودي المتصل”.. وهي مقولات متهافتة فندها كبار المؤرخين، بمن فيهم مؤرخون يهود وإسرائيليون. وكذلك شعار “شعـب الله المختار”.. وهو شعار استعلائي ينم عن عقلية متعصبة أنتجتها فئة منغلقة على ذاتها وضعت نفسها فوق باقي الأمم.. وأيضاً شعار “الأرض الموعودة”، والذي يصور الإله وكأنه ينحاز إلى عرق، ويفضل ملة على أخرى فيمنحها قطعة أرض!
وهنا، من الضروري فهم البيئة الاجتماعية والسياسية التي أنتجت مصطلح “اللاسامية”، حيث نشأ بداية في أوروبا، والتي كانت تفرض على الجماعات اليهودية العيش في “غيتوهات” مغلقة ومنعزلة، في أجواء تسودها نظرات الشك والكراهية. وهذه ظاهرة غربية لم يكن لها شبيه في الشرق، لا في الشرق السامي (العربي القديم) ولا في الشرق الإسلامي، وذلك لأن كراهية اليهود في الغرب أتت نتيجة لمشكلة طورها الغرب وسماها المشكلة اليهودية.
بينما لم يمثل اليهود مشكلة بالنسبة للشعوب الشرقية. والغريب أنّ العرب أكثر الشعوب التي اتهمت بالعداء للسامية! رغم أن التاريخ العربي والإسلامي كله يشهد على العلاقات الطيبة مع اليهود، حتى أن المؤرخين اليهود الموضوعيين ينظرون لحياة اليهود في العالم العربي والإسلامي بوصفها العصر الذهبي في التاريخ اليهودي.
هذا كله يؤكد أن “اللاسامية” عدا كونها مغالطة كبرى، هي مسألة سياسية وظفتها الحركة الصهيونية لخدمة أهداف سياسية؛ فمثلاً، منذ البداية اتخذتها ذريعة لفصل الجماعات اليهودية في أوروبا عن المجتمعات المسيحية التي كانت تعيش بينها، تمهيداً لإنضاج الفكرة القومية الموجهة لإنشاء وطن قومي لليهود.
واليوم، ونحن في مستهل الألفية الثالثة من عمر الحضارة الإنسانية، عصر العولمة وانفتاح الشعوب على بعضها، هل ما زال مقبولاً أن تنطلي هذه الكذبة على عقول البعض؟

عن الأيام الفلسطينية

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: عبد الغني سلامة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *