مسارات الحرب في مرحلتها الثالثة

نقف اليوم على أبواب مرحلة ثالثة للحرب الطويلة القاسية في غزّة، التي بدأت مرحلتها الأولى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بـ”طوفان الأقصى”، وامتدّت نحو 20 يوماً، استخدم فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي فائض قوّته النارية الهائلة في عملية قصف جوّي ومدفعي متواصل، سادته روح الثأر والانتقام. أما المرحلة الثانية، فيمكن تأريخها ببدء العملية البرّية في الـ 28 من الشهر نفسه، بعد استكمال تعبئة الاحتياط، وحشد أكثر من نصف مليون جندي لاجتياح شمال غزّة وفصله عن جنوبها، ومن ثمّ الانتقال إلى الوسط، وخانيونس، وأجزاء من الجنوب. 
خلال المرحلتين، قُتل وجُرح وفُقد أكثر من 120 ألف فلسطيني، في غضون 199 يوماً، مع عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق أهدافه المُعلَنة في القضاء على المقاومة أو بسط سيطرته على القطاع، رغم توغّله فيه، وإقامته مناطق عازلة ونقاط ارتكاز، وفصل أجزائه بعضها عن بعض، وتدمير المؤسّسات الصحية والتعليمية، وإرغام أكثر من مليون ونصف مليون غزّي على النزوح من الشمال والوسط إلى الجنوب، في حرب إبادة جماعية، بالنار والحصار والتجويع. كذلك فشل الاحتلال في إقامة أجسام إدارية من بعض المتعاونين معه، ولم ينجح في بلورة أهداف قابلة للتحقيق أو وضع رؤية لليوم التالي للحرب، وأدّت سياساته إلى عزلة الكيان الصهيوني على المستوى الدولي، ومحاكمته في محكمة العدل الدولية، وظهور خلافات علنية بينه وبين الإدارة الأميركية، شريكته في الحرب منذ بدايتها، والمتوافقة معه على أهدافها، المختلفة معه حول أسلوب إدارتها لضمان عدم تحوّل أي نصر تكتيكي قد يحققه إلى هزيمة استراتيجية، على حدّ وصف وزير الدفاع الأميركي الجنرال لويد أوستن، تحسّباً من أن تصبح إسرائيل دولة منبوذة على الصعيد العالمي، وتُلحق بسلوكها الذي تمارسه أضراراً تمسّ مصالح الدول الغربية، وتهدّد أمن الإقليم واستقراره.

أصبح مرجّحاً تنفيذ عملية عسكرية في رفح، مع تعديلات مرتبطة بالملاحظات الأميركية على نمط عمليات الجيش الإسرائيلي

إطلاق تسمية “مرحلة ثالثة” على الفترة المقبلة من الحرب يعني أنّها مرحلة جديدة لها سمات مختلفة عن المراحل التي سبقتها، إذ ستمتزج فيها العمليات العسكرية بالمناورات السياسية، وتتداخل معها، كذلك ستستغرق وقتاً أطول. والمتوقّع في الأسابيع الأولى منها إجراء تغيير تدريجي في نمط القتال الصهيوني، من الاعتماد على كثافة النيران واستخدام وحدات كبيرة في العمليات، إلى استخدام وحدات عسكرية تصل إلى كتيبة أو لواء لضرب أهداف مختارة، بحيث تستغرق العملية الواحدة بين ساعات إلى أيام، معتمدةً على عنصر المباغتة، ومستفيدةً من المعلومات الاستخبارية، ومعزَّزَةً بدعم جوّي ومدفعي ضمن نطاق محاور العملية، سعياً لتدمير البنية التحتيّة للمقاومة، حاشداً (جيش الاحتلال) قوّاته في الحزام العازل، ونقاط الارتكاز التي أقامها في مواضع داخل القطاع المجزأ إلى مُربّعات يسيطر على نقاط العبور فيها، مستمراً في فرض الحصار والتجويع اللذين قد يشهدان انفراجات محدودة كلما ازداد ضغط الرأي العام العالمي، والهدف جعل غزّة منطقةً غير قابلة للحياة، مع سعيه لتهجير المدنيين. لكنّ ذلك لن يكون مهمّة سهلة، إذ تقدّر الاستخبارات الأميركية في تقريرها الذي قدّمته إلى الكونغرس أنّ الجيش الإسرائيلي سيحتاج أعواماً خمسة كي يتمكن من تفكيك البنية التحتية للمقاومة، وهي أعوام ستكون حُبلى بمفاجآت شتَّى من الصعب التنبؤ بمساراتها، خصوصاً بعد فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، وانسحاب جيشه من أغلب المناطق في الشمال والوسط، وتمكّن المقاومة من إعادة تنظيم مجموعاتها وجهازها الشرطي والإداري فيها. وهو ما يعني أنّ الحرب لا تزال في بدايتها، وأنّ المرحلة الثالثة منها قد تكون الأطول والأخطر.
أصبح مرجّحاً تنفيذ عملية عسكرية في رفح، مع تعديلات مرتبطة بالملاحظات الأميركية على نمط عمليات الجيش الإسرائيلي، وهي ملاحظات متعلّقة بالأسلوب العملياتي، ومدى اتساع العملية، وضرورة تقليص الخسائر في صفوف المدنيين، فالولايات المتحدة لا تعترض على أهداف العملية، لكنّها تقترح تكتيكات مختلفة لتنفيذها، وخطّة واضحة لإجلاء المدنيين، وانتخاب أهداف لمهاجمتها، وأن تنفّذ على مراحل بدلاً من أن تكون عمليةً شاملةً، كذلك تحاول تجسير الخلاف بين مصر والكيان الصهيوني الذي يسعى للسيطرة الكاملة على الحدود المصرية الفلسطينية، في محاولة لعزل مصر تماماً عن قطاع غزّة وشؤونه مستقبلاً، وهو ما يغاير الرؤية الأميركية لمستقبل القطاع. جوهر الخلاف الأميركي الإسرائيلي بشأن عملية رفح لا يتجاوز العدد المتوقع للشهداء الفلسطينيين الناجم عنها، ومن المرجّح أن يُعدّل الجيش الإسرائيلي من خططه لتقترب من الرؤية الأميركية، بحيث تكون هذه المرحلة مزيجاً من سمات المرحلتين؛ الثانية لاستكمال العملية البرّية، والثالثة في تغيير الأسلوب العملياتي.

لعلّ ما تفكّر فيه القيادة الإسرائيلية أنّ هذا هو الوقت المناسب لشنّ حرب واسعة على الجنوب اللبناني، للحدّ من القدرات العسكرية لحزب الله

ستشهد المرحلة الثالثة من الحرب استمرارَ المحاولات الإسرائيلية للقضاء على بُؤَرِ المقاومة في الضفّة الغربية، كما يحدُث كلّ يوم في مخيمات بلاطة وطولكرم وجنين، وستشهد أيضاً المزيد من تغوّل الاستيطان واعتداءات المستوطنين. وفي المقابل، ستزيد خلايا المقاومة ومجموعاتها من فعّالياتها، مع استمرار العمليات الفردية وتناميها، بحكم استمرار الحرب في غزّة. كذلك سنشهد تصاعداً في الحراكات الشعبية ضدّ الاحتلال. السلطة الفلسطينية ستراوح مكانها، لكنّها قد تجد نفسها على مفترق طرق أمام الإجراءات الإسرائيلية، ووهم حلّ الدولتين الذي تهاوى أمام الـ”فيتو” الأميركي على منح فلسطين عضويةً كاملةً في الأمم المتحدة، من جهة، ووعود الإدارة الأميركية بإعادتها إلى غزّة بعد إصلاحها وتأهيل أجهزة أمنها، من جهة أخرى، وهو ما سيدفعها إلى تقديم تنازلات إضافية للاحتلال ثمناً لبقائها المؤقّت، إلى حين استكمال المشروع الصهيوني بتحويل الضفّة إلى كانتونات منفصلة، ويجعلها هي أو أجزاءً منها تصطفّ نهائياً في خندق مُضادّ للمشروع الوطني الفلسطيني، وهو ما قد يُؤْذِن بنهاية مرحلة امتدّت منذ إعادة إحياء “أوسلو”. وهنا يقع على عاتق الجزء الأكبر من كوادر حركة فتح، وما بقي من فصائل لم تنغمس في أطر التنسيق الأمني، البدء بمرحلة جديدة يتبيّن فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود في المشروع الوطني الفلسطيني، بما يكفل وحدة الشعب والأرض والقضيّة، والتمسك بالرواية التاريخية للشعب العربي الفلسطيني.

الخلاف الأميركي الإسرائيلي على وسائل تحقيق أهداف الحرب المُعلَنة بتصفية المقاومة، وإعادة ترتيب أوضاع الإقليم، لا على الأهداف ذاتها

ما زال المجتمع الإسرائيلي مُوحّداً بشأن الحرب، والخلافات تدور حول أولويّة استعادة الأسرى، ومن ثمّ العودة إلى العملية العسكرية أو استمرار زخمها، إذ لم تشهد ساحات تل أبيب تظاهرةً واحدةً كبرى تطالب بوقف الحرب، وبنيامين نتنياهو يسعى لاستمرارها أملاً في تحقيق صورة نصر ما، واستمرار حياته السياسية أو الحصول على تقاعدٍ مريح منها، وهو وحكومة حربه، بمن في أعضائها بيني غانتس، يسعون لتوسيع العملية العسكرية في جبهات أخرى. وإذا كان ثمّة قيود فرضتها الولايات المتحدة تتعلّق بوقف التصعيد بين إيران وإسرائيل، إلا أنّ هذا لن يمنع تصعيد القتال مع حزب الله، وعلى مواقع انتشار الحرس الثوري الإيراني وحلفائه في سورية والعراق، بل قد يدفع به إلى الأمام، بحيث تتصاعد الحرب مع حلفاء إيران في المنطقة، ولعلّ ما تفكّر فيه القيادة الإسرائيلية أنّ هذا هو الوقت المناسب لشنّ حرب واسعة على الجنوب اللبناني، للحدّ من القدرات العسكرية لحزب الله، ومحاولة تغيير المعادلة السياسية في لبنان، إذ أصبح ذلك قاب قوسين أو أدنى، وقد يرافق عملية رفح أو يأتي بعد نهايتها.  
ثمّة حدود للخلاف الأميركي الإسرائيلي، فهو خلاف على وسائل تحقيق أهداف الحرب المُعلَنة بتصفية المقاومة، وإعادة ترتيب أوضاع الإقليم، وليس على الأهداف ذاتها، لكنّه خلافٌ مُرشّح تصاعده مع تأثير الحرب في الانتخابات الأميركية، ومع اقتراب البحث في اليوم التالي للحرب، فتصطدم الإدارة الأميركية بارتباك الموقف الإسرائيلي منه وعدم وضوحه، وهو ما يجعل الإدارة الأميركية تسعى لبلورة أفكار مشتركة تخدم الكيان الصهيوني وتنقذه من نفسه، وتضمن له مكاناً مؤثراً وفاعلاً على خريطة الإقليم، بعد تطبيع علاقته مع النظام العربي الذي تسعى (الإدارة الأميركية) لأن يكون له دور ما في إدارة قطاع غزّة، ونزع سلاح المقاومة، بدعوتها إلى تشكيل قوّات عربية ودولية للقيام بهذه المهمات، لتتمكن من أن تُحقّق بالسياسة ما لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيقه بالحرب. ولأجل هذا، تغدو هذه المرحلة أخطر مما سبقها، وتحتاج إلى مضاعفة الجهود العربية والدولية لإنهاء الحرب، وتصعيد الحراكات الشعبية، وعزل الكيان الصهيوني، ووقف الإبادة الجماعية، ليُكلّل ذلك صمود المقاومة، وتمسّك أهالي غزّة بالبقاء في ديارهم، وتطلعات الشعب الفلسطيني إلى الحرّية.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *