ما قبل اليوم التالي للحرب

ما زال اليوم التالي للحرب على غزّة بعيدًا، وما زالت تقديرات المدى الزمني لها متفاوتة؛ فبعضهم يتحدّث عن ثلاثة أشهر، ويتحدّث آخرون عن عام أو يزيد. ولا يقتصر الخلاف حول زمن الحرب، وإنما يمتد إلى مداها الجغرافي، فهل ستنحصر في شمال غزّة، حيث دار الجزء الأكبر من رحاها، أم ستمتدّ إلى وسط القطاع وجنوبه كما هو مرجّح؟ مع أنهما لم يسلما من القصف الجوي والمدفعي، على الرغم من دعوة الجيش الإسرائيلي سكان الشمال إلى النزوح إليهما بوصفهما منطقتين آمنتين، ويعيش فيهما حاليا نحو مليونَي فلسطيني، ويقول العدو الصهيوني إن ثقل المقاومة الفلسطينية الأكبر موجود فيهما. ولا يقتصر الأمر على غزّة والضفة الغربية الملتهبة وحدهما، فاحتمالات اتساع الجبهة تزداد لتشمل شمال فلسطين وجنوب لبنان اللذين ما زالا محكومين بقواعد اشتباك مسيطَر عليها من الطرفين، ولعلها تصل، في لحظة مقبلة، إلى إيران ذاتها، فضلًا عن اندلاعها بوتيرة متفاوتة في جبهات أخرى، انطلاقًا من اليمن وصولًا إلى القواعد الأميركية في سورية والعراق بين حين وآخر.

توافق الجميع، بعد “7 أكتوبر”، على أن ما بعد هذا اليوم لن يكون كما قبله. تحدّث عن ذلك بنيامين نتنياهو وجو بايدن، وردّدته كتائب عز الدين القسّام، وثمة فرق بين ما يقصده كل منهم، وما يسعى إلى تحقيقه في اليوم التالي للحرب، اليوم الذي لا يمكن التنبؤ به من دون معرفة مسارات الحرب ومآلاتها، إذ لا تزال، بعد مرور أكثر من 55 يومًا على نشوبها، في بداياتها.

ثمّة سيناريوهات عدة بدأ الحديث عنها في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية، والتي تفترض غالبيّتها سلفًا تراجع المقاومة وسيطرة القوات الإسرائيلية على قطاع غزّة، وتدور بشأن كيفية إدارة غزّة بعد الحرب، وتحديد الجهة التي ستديرها، والمدّة التي ستمكث القوات الإسرائيلية فيها، والقوات الدولية أو العربية التي ستتولى مهمة حفظ أمنها ونزع سلاحها. وهي سيناريوهاتٌ تفترض القدرة الإسرائيلية على تصفية المقاومة الفلسطينية، أو الحدّ من قدراتها، لتبدأ لاحقًا مرحلة جديدة تتمثل بحصارها وتجفيف مواردها، وفرض وصاية دولية على غزّة، وتعيين إدارة مؤقتة ثلاث سنوات، قد تشمل الضفة الغربية أيضًا، بعد أن تراجعت الثقة بالسلطة الفلسطينية، وتردّد الحديث عن سلطة فلسطينية متجدّدة لا يعلم أحد فحواها وطبيعتها، وعن دور رمزي للرئيس محمود عبّاس.

ما زال الموقف العربي يرفض البحث في اليوم التالي للحرب، ويصرّ على أولوية وقفها، وهو موقفٌ متأثر بحراك الشعب العربي الذي يزداد تأججًا

ما يخطّط له الآخرون ليس قدرًا، وإذا كانت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يتحدّثان عن إعادة ترتيب أوضاع الإقليم بعد “7 أكتوبر”، فإن ما بعد هذا اليوم أثبت بشكلٍ جلي أن الاستمرار في تجاهل تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني لم يعُد ممكنًا، وأن بيع وهم حلّ الدولتين واستئناف المفاوضات لا ينطوي إلا على استمرار الاستيطان والسعي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وأن نتيجة هذه الحرب لن تحدّدها أماكن وصول الدبّابات الإسرائيلية، أو حدود القصف والتدمير، وإنما سيتحكّم فيها استمرار المقاومة وبقاؤها في غزّة وفي فلسطين كلها، وقدرتها على إجراء عملية تبادل كبرى لإنهاء عذابات الأسرى الفلسطينيين، الأمر الذي ينطوي على هزيمة العدو الذي أكّد مرارًا قدرته على تحرير أسراه بالقوة، وتحت الضغط والقصف والتدمير.

قبل اليوم التالي للحرب، علينا أن نراقب الحراك في مدن الغرب ومؤسّساته الأكاديمية، وعمق التغيير الطارئ في الشارع الغربي، والإدانة المتزايدة للجرائم الإسرائيلية، ووصف الحرب بأنها جريمة إبادة جماعية، ووصم الكيان الصهيوني بأنه نظام أبارتهايد وتمييز عنصري. وعلينا، في الوقت الذي نراقب دعم الإدارة الأميركية المتواصل للعدوان، أن نلتفت إلى المتغيّرات في موقف الإدارة الأميركية المنحازة للاحتلال، وشعورها المتزايد بارتباك الأهداف الإسرائيلية وصعوبة تحقيقها، وازدياد الغضب العالمي عليها، وهو ما سيؤدّي إلى تراجع النفوذ الأميركي في العالم، وسيؤثر في فرص الرئيس بايدن في تجديد ولايته الرئاسية.

صحيحٌ أن الوضع صعب، والمعركة طويلة وقاسية، لكن تباشير النصر باتت واضحة

ما زال الموقف العربي يرفض البحث في اليوم التالي للحرب، ويصرّ على أولوية وقفها، وهو موقفٌ متأثر بحراك الشعب العربي الذي يزداد تأججًا، ويجب الانتباه إلى عدم الانجرار وراء الدعوات الأميركية إلى الانخراط في ترتيبات مشبوهة تمنح الاحتلال فرصة ادّعاء تحقيق إنجاز ما، والتوقّف عن التبرّع بتقديم حلول، مثل اقتراح دولة فلسطينية منزوعة السلاح، أو فترات انتقالية، أو الاستعداد للمشاركة في قواتٍ أجنبيةٍ على أرض فلسطين. وفي المقابل، يجب تصليب الموقف الفلسطيني الداخلي، والسعي إلى بناء أوسع إطار وطني ليحمي المقاومة، ويمنع أي ترتيبات مشبوهة، ويعزل كل من يروّجها، أو يطمع في المساهمة فيها.

سيشهد اليوم السابق لليوم التالي للحرب، وربما قبله، نهاية نتنياهو السياسية، وعجزه عن تقديم صور انتصار مهزوزة، تحفظ له بعضًا من مكانته السابقة. وسيشهد المجتمع الإسرائيلي نزاعات داخليه، وتبدأ الأسئلة في الظهور حول المسؤولية في ما حدث في 7 أكتوبر، ومسؤولية من أوصلوا إسرائيل إلى هذه المرحلة عبر سنوات من الاحتلال والحصار والقتل والترويع. وقد تنقشع الغمامة السوداء المعقودة على عيون آلاف الإسرائيليين، وقد نشهد تظاهرات كبرى في ساحات تل أبيب وشوارع القدس تطالب بوقف الحرب ومحاسبة المتورّطين فيها، كما سيتعرّض المجتمع الإسرائيلي المتّحد حاليا حول الحرب إلى انقسام واسع، وستُثار أسئلة وجودية كبرى.

صحيحٌ أن الوضع صعب، والمعركة طويلة وقاسية، لكن تباشير النصر باتت واضحة، وما أُنجز لا يعدو أن يكون خطوة واسعة في مسيرة الألف ميل باتجاه فلسطين عربية وحرّة.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *