“قناعٌ بلون السماء” لباسم خندقجي: الكتابة خارج الأسر

تضيق المسافة بين الواقع والمتخيَّل لدى الكاتب الفلسطيني الأسير باسم خندقجي في روايته الجديدة “قناعٌ بلون السماء”، الصادرة حديثاً عن “دار الآداب”. إنّه أمرٌ شائع في الرواية الفلسطينية، لكنّ خندقجي يذهب بعيداً فيه؛ حين يلجأ إلى بنية سردية لافتة في معمار الرواية؛ إذ يبدأ النصُّ بتوثيقٍ صوتيٍ، بصوت نور الشهدي -الشخصية الرئيسية- على هاتفه النقّال، يُسجّله لنفسه ويضع فيه أفكاراً عن خطّة روايته ومصادر معلوماته، والتي يُحاول أن يُقدّم فيها سيرة روائية لمريم المجدلية، رفيقة درب يسوع المسيح، التي اصطفاها، بحسب بعض الكتابات التاريخية، ومنحَها تعاليم سرّية لم يمنحها لأفضل تلاميذه، حتى بطرس نفسه.

تُشكّل حكاية مريم المجدلية خلفية في رواية نور الشهدي، والذي سينتقل بعدها إلى تسجيل ملاحظة لرفيقه الأسير مراد، الذي يُشاركه همومه الكتابية والبحثية والشخصية؛ مثل قراره كتابة الرواية ومبرّراتها، والأسلوب الروائي الذي سيعتمده، وإمكانية النشر من عدمه.

يضعنا ذلك في صلب رواية أُخرى داخل الرواية، ضمن عوالم تبدو أشبه بدرس في فنّ كتابة عمل روائي؛ فعلى مدار صفحات “قناع بلون السماء”، التي تتنقّل بين أحداث تجري زمن كتابة الرواية وأُخرى من ماضٍ مغرق في القِدم، يستمرّ خندقجي، على لسان نور الشهدي، في تسجيل خياراته في الكتابة وتطوير خطّته السردية، ويُضمّنها معلومات وحقائق واقتباسات من أناجيل متنوّعة تخدم السيرة الروائية لمريم المجدلية، وتتقصّى الحقيقة التي جرى طمرُها تحت الأكاذيب.

السردية الفلسطينية بوصفها استمراراً لتاريخ فلسطين

خلال ذلك، تُعرّج الرواية على روايات قريبة من هموم نور الشهدي؛ مثل ثلاثية “أولاد الغيتو” للروائي اللبناني إلياس خوري، والتي صدر الجزء الأخير منها بعنوان “رجلٌ يشبهني”، وهو ما يحيلنا إليه خندقجي حين يستعير ثنائية الإسرائيلي الإشكنازي “أُور” والفلسطيني اللاجئ “نور”، عوض استخدام مفارقة الغيتو الإسرائيلي مقابل الغيتو الفلسطيني، والذي تحوَّل إلى استعارة فلسطينية للهولوكوست، بما يُشبه المرآة حين ينظر فيها الإسرائيليون إلى أنفسهم.

تشتبك عناصرُ الرواية عندما يَستخدم نور الشهدي هوية إسرائيلي يُدعى “أُور شابيرا”، وجدها صدفة في جيب سترة جلدية اشتراها من سوق العتيق، قناعاً له يتسلّل عبره إلى مستوطنة “مشمار هعيمق” التي أُنشئت في عشرينيات القرن العشرين على أراضي مرج بن عامر، وقد ساعدته في ذلك ملامحُه الإشكنازية؛ فهو أشقر له عينان زرقاوان بلون السماء.

الصورة

غلاف الكتاب

ينتحل نور صفة خبير في الآثار؛ حيث يختلق سيرة ذاتية يعتمد، في جزء منها، على خبرته كدليل سياحي للمواقع الأثرية في القدس، ويُساعده الشيخ مرسي، الصوفي العريق، في وضع صورته على هوية أور، وفي صياغة سيرة ذاتية مقنعة يَدعمها إتقانه اللغتَين العبرية والإنكليزية، ثمّ يتقدّم للانضمام إلى حملة تنقيب في تلال مجدو، بعد أن وصلته -بوصفه عالم الآثار أور شابيرا- رسالة عبر بريده الإلكتروني، تتضمّن عرضاً للمشاركة في بعثة تنقيب تبحث عن آثار للفيلق الروماني تعود إلى القرن الثاني الميلادي، وقد صادف وقوع هذا الفيلق قرب قرية مجدل، مسقط رأس مريم المجدلية، عند مستوطنة مجدو التي أُقيمت على أنقاض قرية شوشة وجرى محوُها إبان النكبة، بعد إبادة غالبية سكّانها وزرع غابة سياحية مكانها. ينضمّ نور إلى البعثة قبل يوم من انتهاء المهلة المحدَّدة، لكن ليس بوصفه “متشائل” إيميل حبيبي، بل بوصفه إسرائيليّاً.

يطرح خندقجي، في الرواية، سؤال الهوية عبر ثنائية نور/ أور، على خلفية الاشتباك اليومي بين الفلسطينيّين ومحتلّيهم الإسرائيليّين والنزاعات السياسية والعسكرية التي شهدتها فلسطين ماضياً وتشهدها حاضراً وستشهدها مستقبلاً. يُخيّم هذا السؤالُ على حياة نور الشهدي في المخيّم، بوصفه لاجئاً يعيش آلام اللجوء والتهميش وأسئلة الهوية الشخصية والجماعية. ويقوده ذلك إلى التباس متعدِّد الأوجه، يُسبّبه صمت والده، الأسير المحرَّر الذي خاب أملُه في قيادته ومجتمعه اللذين تخلّيا عنه وعن عائلته خلال أَسْره؛ وفي ذلك رؤية نقدية لممارسات القيادات والفصائل الفلسطينية، ولاتفاق أوسلو، وإضاءة على واقع عائلات الأسرى والشهداء.

رواية تتخفّف من ثقل المعاناة وتتحفّز للتفكير لا البكاء

وعبر ذلك، تطرح الرواية الأسئلة الكبرى التي تعوق التحرُّر من وطأة الاحتلال والتغيير الاجتماعي المطلوب لتحرير فلسطين والشعب الفلسطيني على مدى خمسة وسبعين عاماً هي عمر النكبة “المستمرّة”؛ فالنكبة لا تأتي فقط من الاحتلال (الاستعمار الإحلالي)، بل من التقاعس عن القيام بالواجب الوطني حيال الأسرى وعائلاتهم، ومن سياسات السلطة الفاسدة، وهو ما يُزعزع إرادة النضال واستكمال التحرير. مع ذلك، تبتعد “قناع بلون السماء” عن كليشيهات السياسة والنضال.

يأتي خندقجي على ذكر أحداث قريبة زمنياً، مثل أحداث حي الشيخ جرّاح و”هبّة الكرامة” في أيار/ مايو 2021. لكنّ ذلك يأتي في سياق سلس يتوافق مع الطبيعة الفنّية للسرد الروائي، بعيداً عن السرد التوثيقي المقحَم الذي يلجأ إليه بعض كتّاب الرواية الفلسطينية.

كما يستعير من سيرة مريم المجدلية التي، وكما يقول نور الشهدي، شوّهها دان براون في روايته “شيفرة دافنشي”. جرى تناوُل قصّة مريم المجدلية، بل والمريمات اللواتي أحطن بيسوع الناصري في دعوته، في العديد من الروايات؛ كلٌّ من زاوية مختلفة؛ ففي رواية “على ضفاف نهر بييدرا هناك جلست فبكيت”، تناول باولو كويلو دور مريم العذراء المحوري في الدعوة المسيحية، وزعم، أو خمّن، أنّ الكنيسة المسيحية أقصت دورها التاريخي وحصرته في الأمومة، وذلك لاستلاب نسوية الدعوة التي نزلت بالأساس -بحسب الرواية- على مريم العذراء وليس على ابنها يسوع، وهو ما حوّل المسيحية إلى ديانة ذكورية هدفُها السلطة واستلاب المرأة، فيما زعم دان براون حدوث زواج بين يسوع ومريم المجدلية وإنجابهما “ابنة” كانت محور بحثه الروائي، وهو ما نزع عن يسوع صفة الألوهية وأثار حفيظة الفاتيكان. أمّا إلياس خوري فتناول، في روايته “مملكة الغرباء”، المريمات في حياة يسوع اللواتي كسرن غربته.

النكبة سيرورة لا تكفّ عن الحدوث في أبسط تفاصيل الحياة

لكنّ خندقجي اختار أن يتلمّس البحث في الهوية عبر بطل روايته نور الشهدي وقِناعه أور شابيرا، على خلفية اضطهاد مريم المجدلية وتهميش دورها التاريخي، مُشكّلاً مساراً إلى هوية وطنية تتطوّر وفق المتغيّرات وتتعايش مرغمة مع الآخر؛ نقيضِها. يتلمّس ذلك من خلال مونولوغ بين نور وأور، وكيف يتبادلان التأثّر بين واقع الاحتلال والاشتباك اليومي معه وبين الضرورات اليومية للعيش على أرض واحدة، ويحاول أن يُعبّر -من خلال التهميش الذي طال حقائق حكاية المجدلية والتزييف الذي نسجته الحركة الصهيونية على أرض فلسطين الانتدابية- عن السردية الفلسطينية بوصفها استمراراً لتاريخ فلسطين.

في خلفية هذا السرد الروائي، يقف الصمت الذي يمارسه والد نور الشهدي حائلاً بينه وبين ابنه الذي يرث هذا الصمت. يفهمه ولا يفهمه ويهجوه في آن معاً، ربّما ليُدين الصمت الذي يغلّف الذات الفلسطينية من الداخل ويحيط بها من “الخارج العربي والدولي”، بما يجعل من النكبة سيرورة لا تكفّ عن الحدوث، في أبسط تفاصيل الحياة وفي أكبر فظائع جرائم الإبادة.

تتخفّف رواية “قناع بلون السماء” من ثقل المعاناة، بحيث تبدو مُحفّزة للتفكير لا البكاء، ضمن مناخ معرفي وفلسفي ينمّ عن ثقافة واسعة توفّرت لباسم خندقجي في سنوات الأسر؛ حيث تعكس التفاصيل السردية قراءات متنوّعة وعميقة قلّما تتوفّر عند كثير ممّن يعيشون خارج جدران السجن ويملكون الوقت وحرية التحرُّك والبحث.

لم تخلُ الرواية من رمزية المرأة ومحوريتها في عملية التحرّر والانعتاق، ليس فقط من خلال حكاية مريم المجدلية، بل أيضاً من خلال شخصية “سماء إسماعيل” الحيفاوية، والتي شاركت في حملة التنقيب عن الفيلق الروماني، لتُنقّب أكثر في الأكاذيب الصهيونية وتُفكّكها، ولتبني سردية فلسطينية مغايرة، عبر مواجهة شُجاعة مع آيلا الإسرائيلية جعلت نور الشهدي يشعر بالخجل من نفسه لارتدائه قناع أُور ليبحث عن الحقائق. يقع في حبّها، هي التي لم تكن بحاجة إلى قناع، ويتخلّى عن قناعه.

اعتدنا أن يكون السجن محوراً أو خلفية فيما يمكن إدراجه ضمن “أدب السجون”، سواء كان ذلك رواية أو سيرة ذاتية. لكنّ باسم خندقجي، المحكوم بثلاثة مؤبّدات قضى منها تسعة عشر عاماً، خرج بنا من الأسر إلى رحاب رواية تنعتق من صندوق أدب السجون، ومن الأطر والتابوهات والمسلَّمات المكرورة التي أطبقت علينا داخل سجون من نوع آخر لا نجرؤ فيها حتى على طرح الأسئلة.




بطاقة

تختلف تجرُبة باسم خندقجي (مواليد 1983) الأدبية عن كثيرٍ غيرها من تجارب الكتّاب الأسرى؛ فهو لا يكتب عن السجن الذي يقضي فيه ثلاثة أحكام مؤبَّدة منذ نهاية 2004. وقبل “قناع بلون السماء”، صدرت له ثلاث روايات: “مسك الكفاية: سيرة سيّدة الظلال الحرّة” (2014)، و”نرجس العزلة” (2017)، و”خسوف بدر الدين” (2018)، ومجموعتان شعريتان: “طقوس المرّة الأُولى” (2019)، و”أنفاس قصيدة ليلية” (2013).

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *