عن فتحي بلعاوي…أبو الوطنية

في الذكرى الخامسة والعشرين  لوفاة والدي رحمة الله عليه في 23 حزيران عام 1996 ، اخترت ما كتبه في نعيه،  احد قامات فلسطين الادبية والوطنية ،  الاستاذ احمد دحبور، والذي غادرنا هو الاخر،  رحمة الله عليه، وذلك  في جريدة ” الحياة الجديدة ” الفلسطينية ، فى زاويته ” كلام آخر”

 

أبو الوطنية ..

بقلم : أحمد دحبور

بدعابة غير مسبوقة في قسوتها , قفز أبو غسان من القطار وأصبح ” مرحوماً ” قبل أن نصحو من المفاجأة , ولسوف نصحو فنسأل عنه ليشاركنا العزاء , ولاغرابة , فأبو غسان , أبو الوطنية , وحده القادر على ان يكون المعزي والفقيد في وقت واحد لأنه هكذا , ببساطة , رجل الواجب والمناسبات .

لنقل ان العام هو 1974 , وإن المكان هو مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في قطر , فإذا كان هناك الاستاذ فتحي البلعاوي , فإن ذلك اللقاء هو الأول بيننا , يومها كنت في وفد فلسطيني ثقافي , وكنا ننتظر محاضراً جليلاً طال تأخره حتى تململ القوم , فقام رجل من الحاضرين , انيق مهيب , تشع في عينيه ومضة ذكاء جارحة , واقترح ان نلهي انفسنا بما يشغلنا عن تأخر المحاضر , وقال : هناك موضوعان يشغلان الناس حتى ينسوا أنفسهم , الحية التي تسعى والحي الذي يرزق , أما حديث الحية فقد سمعناه طويلاً من أجدادنا وجداتنا , ورويناه لأولادنا وبناتنا , وأما الحي الذي يعنيني , فهو صاحب الجرح الحي …. الانسان الفلسطيني .

تحدث يومها أبو غسان واستفاض , واَتى المحاضر المتأخر محرجاً , وحلف على أبي غسان ان يواصل الحديث , فوافق الحشد بحماسة , وجعل الرجل يتحدث ويتحدث , عن ذل اللجوء , عن مهانة المطارات , عن لعنة البطاقة الحمراء , عن اتحاد الطلبة في الخمسينات , عن ياسر عرفات ومحمد يوسف النجار , وعن مسرحية مثلوها في قطر تؤرخ لفلسطين , وعن التعليم , والشعر , وفجأة سمعت اسمي …. أنه يتحدث عني ويرحب بي , هكذا كان التعارف , دون وسيط ودون مناسبة تذكر , وحين انفض السامر دعاني الى البيت , حتى اذا تعللت بالأصدقاء , قال قولته المرتبطة بإسمه الشعبي , يا زلمة … خلي عندك وطنية وليأت الشباب معك …

من الصعب , في لحظة كهذه , ان يملك الحبر الساخن رسم صورة شخصية وافية له , ولكن الأكيد ان الملمح الأول من ملامحه التي لا تبارح الذاكرة , هو ذلك القدر من الذكاء الفطري في تقدير المواقف والرجال , كان ذا سخرية رقيقة تلخص المشهد كله , بل إن ” الوطنية ” التي شكلت نصف اسمه الشعبي , قائمة على سخرية دفينة ممن يتبجحون بها , وكان لا يتحدث عن تاريخه بل يترك للاَخرين تلك المهمة , وربما كانت المرة الأولى التي اسمع فيها شيئاً عن دوره الشخصي , تلك التي أسهب فيها الأخ ابو عمار سارداً تاريخ سنوات التأسيس , ويبدو أن بين الرجلين واقعة , او قصة , او مناسبة يحتفظان بها ويفتخران بحيثياتها فيما بينهما او لحسابهما الإنساني الخاص – وهو ما يحدث بين الأصدقاء الحميمين , فقد سأله الأخ أبو عمار غير مرة وهو على منصة الخطابة : أتذكر حكومة التسعة يا فتحي ؟ وكان أبو غسان يهز رأسه بشيء من خجل التواضع والاعتزاز الضمني .

ونسأله : ماهي حكاية حكومة التسعة هذه ؟ فيجيب كما نتوقع : يا زلمة , خلي عندك وطنية وتعال نغير الموضوع … ومع انه لم يتحدث في هذه القضية مرة واحدة , الا انني حد ست أنها تمت الى مرحلة اتحاد الطلبة في القاهرة , عندما كان اولئك الفتيان يحلمون بإستعادة فلسطين , وقد تكون الواقعة تتعلق بالوحدة الوطنية الفلسطينية التي كان للمرحوم دورا فيها , وتسأل هذا الرجل المؤسس : لماذا لست في موقع الحدث ما دمت من ذلك الرعيل ؟ فيجيب دون تردد : بدأتها بين الطلبة , والطلبة هم الأمل , وانا من قبيلة الأمل … لهذا لا أحب ان أتخلى عن دوري في أطار التربية والتعليم .

وتكون حرب الخليج , ويتوافد على تونس عدد من الاساتذة والشخصيات الوطنية الفلسطينية من الخليج , ويكون بينهم الاستاذ فتحي البلعاوي , أبو غسان , ولعله من القلائل , إن لم يكن الوحيد , الذي لم يتحدث بمرارة عن ترك الخليج على النحو الذي سارت فيه الأمور :

بلادي , وإن جارت علي , عزيزة …………………………………. وأهلي وإن ضنوا علي , كرام

هكذا كان يردد , فهذا الفلسطيني من قمة رأسه حتى اخمص قدميه , حسب التعبير العربي التقليدي , كان عربياً من عمق روحه حتى فضاء فلسطين اللا متناهي …

وفي تونس , يفاجئنا الشاب الوديع منذر البطة برحيله الفاجع المفاجئ , وكان من الذين ابعدوا أثر حرب الخليج , فيبادر ابو غسان الى إقامة العزاء في مدرسة القدس , فقد كان المبعدون ابناءه , والمرحوم منذر أحد أعز الأبناء , ومدرسة القدس التي يديرها أبو غسان هي بيته الحميم المؤقت الى ان نعود الى الوطن , أفلا تجرى وقائع العزاء بالابن الحبيب في البيت الحميم ؟

المشهد ذاته تكرر في الوطن , في غزة تحديداً , فيوم استشهد اسامة البورنو , اقيم حفل العزاء في مدرسة فلسطين , وكأن أبو غسان على الموعد , ولكنه – يا للعجب , كما يقال ! – لم يعرف أن يتحدث , وهو الخطيب البليغ , فقد أخذه الوجد الى حياة المدرسين , وكان المرحوم الشهيد البورنو مدرساً فمدير مدرسة , فإذا بكلمة أبي غسان تتوغل في شجون التعليم , حتى كأنه يعقد حواراً مع الشهيد أو كأنه – بعد الحفل التأبيني – سيأخذ الشهيد من يده ليكملا حواراً بدأ منذ زمن بعيد …. حول شؤون التدريس ومتاعب المدرسين .

ولكن من الذي يكمل حوارك مع فلسطين يا أبا غسان , يا أستاذنا وأخانا الكبير , يا أبا الوطنية … رحمك الله وكان في عون الوطنية من بعدك , فللوطنية , وحدها , أن تقبل بك العزاء من أسرتك ووطنك .

 

( 29/6/١٩٩٦ الحياة الجديدة )

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *