علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة(4)
المعارك الأثرية على الكتاب المقدس و الأرض في إسرائيل و فلسطين من 1967-2000 –
ترجمة: محمود الصباغ
الفصل الرابع: ما بعد الماضي , ونحو المستقبل
مقدمة
ما دور ووظيفة علماء الآثار والباحثين في المجال العام؟ إن معظم ما ينتجه علماء الآثار لا يقرأه، للأسف، وعلينا الاعتراف بذلك، سوى الآثاريون أنفسهم فقط. فما هي نوع صور الماضي الموجودة في المجتمع بصورة عامة؟
سوف أؤكد من جانبي على دور علم الآثار باعتباره ممارسة اجتماعية أكثر من كونه ممارسة علمية. أو لنقل ذلك بعبارة أخرى، إذا لم يتم أخذ عواقب إنتاج المعرفة الآثارية كممارسة اجتماعية على محمل الجد، فسيكون من الصعوبة بمكان الحفاظ على صورة علمية وجادة له، فتؤثر أبحاثنا التي ننتجها علينا- باعتبارنا جزء من ها العالم- بسبب دمج إنتاج المعرفة في بناء المجتمع، وبهذا المعنى، نحن غير قادرين على إنتاج معرفة “نقية” عن الماضي.
سلطة الماضي
” ليس علم الآثار بشيء إن لم يكن بحثاً نقدياً”، هذا ما يقوله مايكل شانكس وكريستوفر تيلي (Shanks & Tilley 1987: 213). وينبغي على العلم أن يكون أناركيا في مشروعه الذي يبنى عبر آلية التفكيك. وحيث أن المعطيات متغيرة، فسوف تبرز معطيات جديدة، وتكون المقاربات والعرفة الجديدة الأخرى أساس انحيازنا، فضلاً عن نقاط انطلاق مختلفة. وعلى الممارسة العلمية أن تكون نقدية وتفكيكية إذا ما أرادت أن تكون بناءة. والحقيقة المعاصرة ستكون أحد أفضل التفسيرات المرضية، أو فهم المشكلة ضمن أفق بحثنا في لحظة معينة، ولكن هذا يتغير مع الوقت. وما يتبقى هو نواة مؤقتة من الحقائق المعاصرة في عالم تعددي.
العلم ذو طبيعة ديناميكية متواصلة، وهو ممارسة اجتماعية متغيرة كما أنه ملتبس التعريف. ويتعين على العلم، في أساسه الواضح، أن يكون نقدياً وإلا فسوف يتم الاحتفاظ بالأفكار والنماذج القديمة مهما كانت الحجج التي نستخدمها في الخطاب الحالي والسجال. الجزء “العلمي” من العلم هو جزء متشابك منه، بوصفه ممارسة اجتماعية، وأعني بهذا أن المعرفة المنتجة، على سبيل المثال من قبل الآثاريين، تحولت من مجال إلى آخر، من الآثاريين إلى شرائح أخرى من المجتمع. وبهذا التحول يفقد الآثاريون إلى حد كبير قدرتهم على التحكم بالكيفية التي يتم فيها استخدام معرفتهم. نحن ننتج الماضي، ولكن لا نتحكم فيه. البعض الآخر قد يستخدم المعرفة كأداة مختلفة لأهداف أخرى، في هذه الحالة تكون [هذه الأهداف] النزعة القومية. ويمكن تفسير دور العلم كممارسة اجتماعية بالاستناد إلى أعمال ميشيل فوكو (Foucault 1990, 1997). فالمشكلة لا بد من تحليلها في ضوء الدور الذي يلعبه علم الآثار في المجتمعات المعاصرة من وجهة نظر خارجية، وليس فقط كخطاب داخلي للعلماء في ما بينهم.
فما هو دور علم الآثار؟ أو بعبارة أخرى، ترى أيؤمن غير الآثاريين بما نقوله نحن الآثاريون عن الماضي؟ (إلى حد ما على الأقل؟) أستطيع أن أزعم بأن الإجابة هي “نعم”. ويفترض بالآثاريين أن يعرفوا الكثير عن علم الآثار وعن الماضي. ولذلك فنحن نمتلك -آمل ذلك- مصداقية أكثر من الشخص العادي ومن الناس عموماً في ما يتعلق بتأويل الماضي بصدق وبطريقة أفضل من التأويلات الأخرى عن الماضي، كما هي على سبيل المثال تفسيرات إريك دنكين لظاهرة معينة، فإذا كنت مصيباً في هذه الافتراضات، فإن المجتمع سيقبل تأويلاتنا للماضي بسبب وجود نوع من الثقة في العلاقة بين علماء الآثار والمجتمع، أو بعبارة أخرى، هناك ثقة بين المعرفة المنتجة والمعرفة المستخدمة والمستهلكة .
يثق المجتمع، فيما يتعلق بالماضي، بعلماء الآثار. وهذه مسؤولية كبيرة. والنقطة البارزة في هذه الحجة هي أن علماء الآثار ينتجون معرفة، هذه المعرفة تمت بصلة إلى السلطة. المعرفة هي شرط لإمكانيات علاقات السلطة، لأن السلطة تخلق وتتسبب في ظهور موضوعات جديدة من المعرفة وكتل المعلومات، وإذن فالسلطة ليست سلبية فقط، بل أيضاً إيجابية ومرتبطة بإنتاج المعرفة على حد سواء (Miller & Tilley 1984:6). وعلى ضوء هذا التعريف ليست السلطة مجرد مجموعة مؤسسات أو آليات بوصفها منظومة عامة للهيمنة تمارسها جماعة على جماعة أخرى. من المهم التمييز بين السيطرة على power over والقدرة على power to: [فـ “السيطرة على” هي علاقات القوة من الأعلى إلى الأسفل، وتتضمن هذه العلاقات السيادة و الهيمنة وتفترض خاسراً و راًبحا ضمن مجموعة متنازعة] . [و”القدرة على” تعني امتلاك صلاحية القرار والقدرة على حل المشكلات]. بينما [القوة بـ power with: هي: التركيز على المشاركة المجتمعية، وهي القدرة على اتخاذ القرار والوصول إلى مراكز صنع القرار والتأثير فيها]. وعلى هذا تكون السيطرة عبارة عن آليات تمكن الوكيل (فرداً أو مجموعات) من جعل وكيل آخر يقوم بفعل شيء لا يرغب في فعله هذا الآخر. وكما يقول ميللر و تيلي، تعد السلطة مكون من مكونات جميع عمليات التفاعل الاجتماعي وميزة مضمرة في جميع الممارسات الاجتماعية، وبالتالي تعتمد “السلطة “التي تصور على أنها لحظة جدلية في التفاعل على المصادر وتخلقها وتظهر من خلال آثارها؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن يعزى هذا الأمر إلى الأفراد والجماعات والمؤسسات وما إلى ذلك” (Miller & Tilley 1984:7)
وسوف أجادل في هذا السياق بقدرة علم الآثار على التأثير في المجتمع سلباً أم إيجاباً. ولكن ثمة تباين في علاقات القوة. فمن يستحوذ على الماضي يسيطر، بدوره، على الحاضر والمستقبل. وبرغم قدرة علماء الآثار على إنتاج معرفة عن الماضي، فهم يمتلكون القدرة فقط على تغيير الماضي، وخصوصاً ضمن خطاب أكاديمي داخل الأوساط الآثارية، ولكن ليس ضمن المجتمع، فهنا تدار السيطرة على الماضي من قبل مؤسسات اجتماعية أخرى كالحكومات على سبيل المثال. وغالباً ما تبرز تناقضات بين من لديهم القدرة على تغيير وبناء الماضي وبين من يسيطرون على الماضي في المجتمع. نحن نتحدث عن مواضٍ مختلفة.
وليس صعباً التمييز بين “خطاب المؤلف”، أي سجاله الخاص، وبين “خطاب النظام”، أي الكتابات الأثرية المعتمدة رسمياً. وبالتالي سوف ينصب الاهتمام -حينها- على “خطاب النظام” عندما يتعلق الأمر بالنزعة القومية وعلم الآثار على حد سواء (Fabiao 1996: 90). وثمة مصلحة مشتركة من نوع ما بين علم الآثار الكتابي وإسرءيل كدولة قومية، تتمثل هذه المصلحة في تبني طراز معين من التفسير والتأويل الآثاري، وفي هذه الحالة لا توجد فروق بين “خطاب المؤلف” و”خطاب النظام”. ويمنح هذا التكامل من السجال العلمي واهتمام الدولة في علم الآثار السلطة للاستخدام السياسي والإيديولوجي للماضي. ويلعب علماء الآثار دوراً سلبياً بصورة عامة -بوصفهم منتجين للمعرفة- في مراقبة إدارة واستخدام أو سوء استخدام معرفة الماضي من قبل الآخرين. ونظراً لأنه لدينا القدرة على تغيير الماضي، وبالتالي المجتمع المعاصر، وحيث أن هناك نوع من علاقات الثقة بين الآثاريين بوصفهم علماء وبقية المجتمع، فسوف يكون من واجبنا ومن مسؤوليتنا أن نرفع صوتنا عالياً كلما أسيء استخدام الماضي. يقوم الآثاريون ببناء الماضي. ولكن “الماضي” المستخدم كحالة جدل وسجال في المجتمع لأغراض مختلفة ليس بالضرورة مطابقاً للماضي الذي قام بإنشائه الآثاريون. وفي هذا الصدد، ستكون القدرة على الآليات التي يقوم الآثاريون بتنفيذها بمثابة جزء من علاقات تعتمد على بعضها البعض وتنطوي على أنشطة تقع في إطار الموضوعات الإنسانية. ومما لا شك فيه أن البنى هي من خصائص النظم الاجتماعية أو المجموعات وتتواجد النظم الاجتماعية فقط في وخلال عمليات البناء، كنتاج أفعال عدد غفير من البشر. و يمكن تعريف “البنية” بأنها “مجموعات أو مصفوفات تخص مصادر الحكم التي تحكم التحولات”، وبالتالي” البنية هي التمكين و التقييد” (Giddens 1982: 35-37) .ويمنح الآثاريون حيزاً للماضي مرتين، أولاً في إنتاجهم للمعرفة وثانياً في استخدام هذه المعرفة. وبهذه الطريقة فمن المرجح، على الأقل في بعض الحالات، إمكانية تجنب ومنع سوء استخدام الماضي. إن ماضٍ مجيدٍ لجماعة إثنية سيكون أداة إيديولوجية قاتلة في مجتمع متعدد الإثنيات. ويمكن إلقاء المزيد من تحليل الاختلافات بين القدرة على الماضي والسلطة على الماضي بواسطة مفهوم قدمه فوكو وهو مفهوم الأرشيف (Foucault 1997) ويعين الأرشيف وظيفة وحالات النظام، ويحدد مستويات الممارسة التي تؤدي إلى ظهور حالات عديدة من البيانات كأنها أحداث عادية، مثل العديد من الأشياء التي يمكن التعامل معها والتلاعب بها “[الأرشيف] هو النظام العام لتشكيل وتحول البيانات” (Foucault 1997: 130) . وهذا يرتبط بالحلقة الثانية من الحيز المعطى من قبل الآثاريين، أو الكيفية التي من المفترض أن يتم فيها استخدام المعرفة. والنقطة الرئيسية هي أنه بعد فترة طويلة من اختفاء فرضيات معينة من الخطاب العلمي، فهي ستبقى على الأرجح في المجتمع كما لو أنها تمثل بيانات علمية. وهذه المشكلة تثير مخاوف أساسية عن دور العلم في المجتمع. ويوضح نورمان .ج. فنكلشتين هذه المشكلة، وإن في سياق آخر لا يعني جوهرياً علم الآثار ولكنه معني بمضامينه، كما يلي: أثارت دراسة جوان بيترز التي صدرت في العام 1984 بعنوان “منذ الأزل” عن نشوء الصراع على فلسطين-إسرائيل اهتماماً هائلاً، فقد حظي الكتاب بإشادة الجميع. [منح الكتاب في نيسان\أبريل1985، جائزة الكتاب اليهودي القومي المرموقة في فئة “إسرائيل”. وكانت فرضية بيترز تقول بأن نسبة كبيرة من أصل 700000 عربي الذين كانوا يقيمون في فلسطين والتي أصبحت إسرائيل قد استقروا فيها في الآونة الأخيرة، وكانوا قد هاجروا إليها بسبب الفرص الاقتصادية التي أتاحها الاستيطان الصهيوني. وبالتالي، ووفقاً لها، كان للمهاجرين اليهود الكادحين حقوقاً بذات القدر أو أكثر في الأرض مما هو للفلسطينيين “القادمين الجدد” (Finkelstein, N. G 1995: 21-23). ويتمثل جوهر أطروحة جوان بيترز في أن من يطلقون على أنفسهم فلسطينيين قد زورا أنسابهم. إلا أنه وابتداءً من العام 1985 وما بعده اعتبر باحثون آخرون هذا الكتاب بأنه مثير للسخرية، وهراء ومزور بصورة ملفتة، ربما باستثناء ما يمكن اعتباره سلاح دعاية في إسرائيل، بسبب التزوير و التلاعب بجميع البيانات الواردة فيه (Finkelstein, N. G 1995: 23-50).
تسود المعرفة في المجتمع بمجرد ما يتم إنتاجها حتى بعد ما يرفضها العلماء. وتلعب المعرفة كأرشيف في المجتمع حيث يملك العلماء فقط القدرة على آلية التغيير، ولكن لا يملكون السلطة على آلية التحكم. وقد تكون آليات القدرة هذه ضعيفة مقارنة مع آليات الذين يتحكمون في المجتمع والماضي. والمثال على ذلك هو ما تقوله بالضبط فرضية جوان بيترز، التي رفضت من قبل أقرانها الباحثين ومع ذلك، ما زالت هذه الفرضية سائدة “كمعرفة” و”كحجة” لعقد من الزمن. وفي العام 1993 لاحظ بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود الإسرائيلي، بلهجة باحث علمي، بأنه: مع بداية الموجة الأولى من الهجرة الصهيونية في العام 1880 والتي استمرت من خلال موجات متتالية، وبعد الحرب العالمية الأولى، تحولت [فلسطين] بسرعة (..) ومثلما ازداد المهاجرين اليهود من حيث أعدادهم، كذلك أيضاً تسبب ذلك في زيادة سريعة في عدد السكان العرب. لقد هاجر الكثير من العرب إلى البلد استجابة إلى فرص العمل والحياة الأفضل التي خلقها الاقتصاد المتنامي من قبل اليهود (op. cit. Finkelstein, N. G. 1995: 49-50).. وهذا يوضح دور العلم كممارسة اجتماعية في المجتمع. فلا يكفي فقط إنتاج المعرفة، وهذا هو أحد أسباب نقدي هنا، فأنا أريد تقويض بعض من الحجج والتأويلات التي قدمها علماء الآثار قبل أن تنتهي هذه لتصير أرشيفاً كمصدر لآلية السيطرة. على الرغم من أن ملاحظاتي هذه تأتي ربما بعد فوات الأوان، غير أنه من المهم توضيح المشاكل المتعلقة بالممارسة التأويلية الأثرية الكتابية والإسرائيلية القومية .
حاصور والمدن الإسرءيلية
لاتزال الطرائق المستخدمة من قبل الآثاريين الكتابيين سائدة أيضاً بين علماء الآثار القوميين الإسرائيليين، وبدلاً من تكرار النموذج التاريخي-الثقافي بأمثلة من قبل علم الآثار الإسرائيلي، سأكتفي بالإشارة إلى الكيفية التي تم فيها نسب جماعات إثنية إلى الماضي, حيث يعرف “الكنعانيون” باسم “سكان أرض كنعان، الذين يتكلمون لغة مشتركة ودين مشترك وثقافة مادية مشتركة (Wigoder 1986: 208). إسرءيليو الماضي أصبحوا إسرائيليو اليوم، وفلسطينيو اليوم هم أحفاد الجماعات الأخرى، لكن هذا، في الحقيقة غير مهم لأنهم محرومين من الوصول إلى الماضي الذي يمكن أن يمنحهم الشرعية الإقليمية. لقد نال الإسرائيليون أرضهم الموعودة وفرّوا من العبودية إلى الحرية، ليس مرة واحدة في التاريخ، بل مرتين.
ابتدأ النشاط الأثري في إسرائيل مباشرة بعد قيام الدولة في العام 1948 م. وبدأت الحملة التنقيبية الأولى بإشراف بنيامين مزار في تل قسيلة (في الأعوام 1948،1951،1965) في ضواحي تل أبيب [موقع الخربي أو ما يعرف بالخان شمال يافا على ضفاف نهر الأعوج]. ويعود الفضل في تطور العمل الأثري بتلك السرعة إلى جهد الآثاريين الإسرائيليين وكذلك إلى البعثات الاستكشافية الأجنبية وكان مؤسسو علم الآثار الكتابي الإسرائيليين- أمثال، مزار، يفين، يادين، أفيغاد وأهاروني- من أتباع نهج أولبرايت إلى حد كبير، حول دور علم الآثار في ما يتعلق بالدراسات الكتابية. (Mazar 1993: 15). وكانت عمليات التنقيبات الواسعة في حاصور بين عامي 1955 و 1958 بإشراف يغال يادين بمثابة ورشة عمل لجيل كامل من الشباب الآثاريين (Mazar 1993: 16). واختار الجيل الأول من الآثاريين الإسرائيليين مواقع تنقيب ذات فائدة يهودية أو كتابية مثل حاصور (بهدف حل مشكلة غزو الأراضي المقدسة)، ومجدو (مدينة سليمان)، ومصعدة (مسّادة أو مسعدة) وكهوف صحراء يهودا منذ زمن بار كوخبا (Broshi 2001: 30-31). وكان عالم الآثار الإسرائيلي البارز البروفيسور يغال يادين، مثله مثل موشيه ديان، جنرال سابق ورئيس أركان الجيش. وقد وجه خطابه ذات مرة للشبان الإسرائيليين قائلا سوف يكون “الإيمان في التاريخ” بديلاً عن الإيمان الديني: ومن خلال علم الآثار سوف يكتشفون “قيمهم الدينية”. وسوف يجدون دينهم في علم الآثار ليتعلموا أن أجدادهم كانوا في هذا البلد قبل 3000 سنة. هذه هي القيمة بها يقاتلون وبها يعيشون (Elon 1971: 281). وأظهر الجيل الأول من الآثاريين الإسرائيليين اهتماماً خاصاً بمواضيع اليهودية بعد العام 1948. وصف إيلون هؤلاء الآثاريين بأنهم “علماء آثار وطنيون”، وهو يقصد بذلك الآثاري الذي يوجه “جهوده نحو استكشاف الماضي الإسرائيلي للبلاد، وغالباً ما كان يتم إلى حد كبير استبعاد أي منتجات أخرى غنية ومثيرة: كالهلنستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية والصليبية.. وخلافاً لترميم المواقع القائمة، كانت الحفريات الأثرية، تتم في المقام الأول لتعزيز الصناعة السياحية، وتقتصر على الموضوعات اليهودية “(Elon 1971: 281).
وفقاً للكتاب، كانت حاصور واحدة من أعظم حواضر الدويلات في كنعان في زمن غزو يشوع البلاد، وبمعزل عن أريحا، كانت حاصور المدينة الوحيدة التي أحرقها يشوع “10 ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ، لأَنَّ حَاصُورَ كَانَتْ قَبْلًا رَأْسَ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ.”, (يشوع 11 :10 ). وبعد غزو حاصور تم تخصيصها- حسب النص الكتابي- لسبط نفتالي, كما كانت حاصور واحدة من المدن الملكية في مملكة سليمان (سفر يشوع 19 : 36 , سفر الملوك الأول 9 : 15). وتم مطابقة حاصور مع موقع تل ضخم [تل القدح] إلى الشمال من بحيرة طبرية (Wigoder 1986: 431). وبدأ الموسم الأول من أعمال الحفر في العام 1955، وتبين مع نهاية الموسم وجود حصن إسرءيلي هائل ونظام متشعب من التحصينات تحت الحصون المتأخرة (التي يرجع تاريخها للعصور الآشورية والفارسية والهلنستية). تم تأريخ زمن تدمير الحصن إلى العام 732 ق.م، على يد تغلات بلصّر الثالث. وعلاوة على ذلك، كشف الموقع عن بدايات التوطن الإسرءيلي قبل تأسيس سليمان للمدينة وكشفت عن سويات كنعانية تعود للعصر الحديدي الوسيط الثاني والعصر البرونزي الحديث تعود إلى المدينة الكنعانية السفلية (Yadin1960: xxi-xxii).. الاختلاف بين هذه الأمثلة والنقاش المنهجي في الفصل الثاني من هذا الكتاب هو أنه لم يتم إعطاء أسباب واضحة عندما يتم النسبة إلى معالم إثنية. وقد نسبت جميع السويات الطبقية لحاصور على أنها “إسرءيلية “( Yadin 1960: 43).
هناك عدد قليل جداً من المناقشات النظرية الصريحة عن الكيفية التي يمكن أن تنسب فيها الهوية الإثنية وعن كيفية نسب الإثنيات إلى الماضي. فقد “أصبحت” اللقى الفخارية، والكسر والسويات الطبقية، في أغلب الحلات، إسرءيلية، فينيقية، فلستية، وهكذا دواليك. المشكلة هي أنه بمجرد أن يتم تسمية هذه الطبقات والجرار والمدن فإن هذه التسمية لن تزول قط. وبالمثل، لم يرد في العادة ذكر الإشارات الكتابية ولكنها تظهر بصورة صريحة في السرديات التاريخية مثل “احتل داود أورشليم وجعلها عاصمته حوالي 1000 ق.م”(Broshi 2001: 181). الوثائق والأماكن الإشارات للأشخاص بديهيات وحقائق لا تستحق الإشارة اليها أو مناقشتها نظرياً. هذه التحيزات المضمرة هي ما تشكل الأجندة ومن خلال استبعاد مصطلح “علم الآثار الكتابي” وبالدعوة لمصطلح “علم الآثار السوري\الفلسطيني” تصبح المسألة ذات أبعاد أعمق ولا تمت بصلة للموضوع السابق. فالماضي “يظهر “بمظهر يبدو فيه بريئاً، ولكن متلبساً بتسميات إثنية سردية كتابية.
اشتمل عقد التسعينيات من القرن الماضي على نقاشات كثيرة تتعلق بعلم الآثار في فلسطين، وجادل العديد من الباحثين بقوة لجهة إحلال مصطلح “علم الآثار السوري الفلسطيني “محل مصطلح “علم الآثار الكتابي”، وكان وليم ديفر من أشد المناصرين لهذه الدعوة (Broshi 2001: 25-26)، لكن تغيير الاسم ليس مهماً طالما أن هناك شيء واحد لن يتغير قط، أي، استخدام السرد الكتابي بوصفه الإطار التأويلي المهيمن. وحتى لو تم تغيير تسمية علم الآثار الكتابي وعدم استخدام الإطار التأويلي التاريخي-الثقافي من قبل غالبية الجيل الجديد من الآثاريين، فالمشكلة لاتزال قائمة، فهذه المدن الإسرءيلية، إلى جانب مواقع أخرى عديدة، هي إسرائيلية، وليست عربية أو فلسطينية، بالرغم من أن العديد من هذه المواقع، كما يبدو واضحاً، عرفت مراحل توطن سابقة أو لاحقة. وبالتالي، تكون النتيجة هي غلبة تأويل الماضي ضمن النموذج التاريخي-الثقافي، على الرغم من التمويه، والخداع، فإن الطبقات الأثرية فوق وتحت الطبقات “الإسرائيلية” هي أقل شأناً بل في أغلب الأحيان لا تمت هذه الطبقات بصلة إلى الموضوع لأنها ليست جزء من تاريخ معين. ولا يهم إذا ما طبقت نظريات ما بعد الحداثة على جميع المواقع الأخرى والفترات طالما هذه المواقع تقدم إسرائيل كدولة قومية شرعية تؤكد بأن “الإسرءيليين” تعني “الإسرائيليين”.
ويستند الماضي، كما ينظر إليه اليوم، على النموذج التاريخي-الثقافي. ويمكن النظر إلى النمط المكاني للمدن الإسرءيلية القديمة المذكورة في الكتاب بوصفها سيرورة استعمارية. حيث تبدو أنماط توزيع المدن القديمة الإسرءيلية على الخرائط متطابقة تماما لخرائط المستوطنين الجدد اليوم في المناطق الفلسطينية أو الأراضي المحتلة. تؤمن إسرءيل القديمة، كما هي موثقة ومعينة بخرائط في الأراضي المقدسة اليوم، الشرعية للمزاعم الجغرافيّة الراهنة. ومن منظور إيديولوجي، يعد عمل البعثات التنقيبية في مواقع قوم آخر وسيلة يتم إضفاء الشرعية بموجبها على العلاقة غير المتكافئة بين الجماعات المعاصرة، وبمعنى أساسي الحضور الإسرائيلي ضمن المدى الفلسطيني الواسع. عندما توسم مواقع ومدن بسمة أو سمات إثنية، فالمواقع الفلسطينية دائما تكون أقل شأناً من المواقع الإسرائيلية”. وبمجرد أن يتم غزو الماضي واستعماره، فإنه من المستحيل تقريباً عكس ذلك ونزع الصبغة الاستعمارية، وأشار عاموس إيلون إلى هذا: من المثير للاهتمام في هذا السياق ملاحظة اللجوء غير العادي لعلم الآثار باعتباره هواية شعبية وعلم في إسرائيل. الخليط الممتد لآلاف من السنين من التاريخ القديم والحديث، مقترناً مع مفاهيم الشرعية “المثيرة للجدل” لإنتاج هذه الأعراض الغريبة. وقد ألهمت الاكتشافات الأثرية تقريباً جميع الرموز القومية الإسرائيلية، من خاتم الدولة، والشارات، والنقود المعدنية والميداليات والطوابع البريدية. وتحمل هذه الرموز، بالنسبة للإسرائيلي القلق، الراحة المعنوية التي يؤمنها علم الآثار مغزى ومعنى واعتبارات كثيرة. ويظهر الدور الرمزي لعلم الآثار بشكل واضح، وملفت للنظر في الثقافة السياسية في إسرائيل. فالآثاريون الإسرائيليون- محترفون كانوا أم هواة- لا يحفرون من أجل المعرفة والبحث عن الأشياء فقط بل يقومون بذلك من أجل التأكيد على الجذور التي يجدوها في البقايا الإسرءيلية القديمة المنتشرة في طول البلاد و عرضها (Elon 1971: 280)..
وفي مثل هذه الحالة الاستعمارية، تعد المتاحف أسلحة هامة. افتتح متحف إسرائيل في 11 أيار\مايو 1965. وكان رئيس الوزراء -آنذاك- دافيد بن غوريون قد ألقى خطابا في الكنيست في الثلاثين من أيار\مايو 1960، خلال مناقشة بند تخصيص ميزانية “متحف إسرائيل القومي”، فيقول: كما يليق لشعب عريق، ومكرس للقيم الروحية طوال تاريخه المليء بالعذاب وقد أعاد للحياة الآن استقلاله في أرضه القديمة، وتوشك إسرائيل في العام الثاني عشر من عمر دولتها على إنشاء متحف قومي سيرتفع في أورشليم، مدينة الملك داود، وسط تلال يهوذا الخالدة.. وعلى الرغم من الانشغالات اليومية في الدفاع والأمن والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإسكان القادمين الجدد، فقد تم الحل بتخصيص جزء من مواردنا، وطاقتنا وموهبتنا فيما هو مقدّر له أن يصبح المركز الثقافي الأكثر إثارة للإعجاب في البلاد (op. cit. Weyl 1995:8).
غزو الماضي والحاضر
وبالعودة إلى موشيه دايان وسيرته الذاتية -العيش مع الكتاب- من الممكن قراءة ما فيه باعتباره سيرة وثائقية عن العلاقة بين الحرب والآثار. وبمعزل عن كونه رجل سياسة وقائد الجيش، فقد كان دايان آثارياً هاوياً مليئاً بالحماس، وجمع تحفا أثرية اشتراها من كل مكان. وتعد مجموعة دايان الأثرية هي أكبر مجموعة خاصة جمعت من قبل الإسرائيليين، والتي حصل عليها مؤخراً متحف إسرائيل. (Broshi 2001: 31). لقد أعاد الإسرائيليون احتلال الأرض المقدسة مرتين، أولاً آثارياً، وثانياً عسكرياً أو يبدو كأن هذين الاحتلالين والحروب والانتصارات تسير جنباً إلى جنب، وتتم مقارنة حرب الاستقلال في إسرائيل بحروب يشوع، وتؤخذ معارك أريحا وعاي كأدلة، ولكن ما يختلف بين معارك يشوع والحملات العسكرية الإسرائيلية الحديثة هو أن هذه الأخيرة أديرت وتمت من وداخل البلاد نفسها. يقول الجنرال دايان،” بالنسبة لي كان بن غوريون بمثابة موسى المعاصر الذي يشهد على بعث أمة إسرائيل وعودتها إلى أرضها. أطلق بن غوريون -مثله مثل موسى- شعب إسرائيل نحو هدف مزدوج: أن يتوجهوا نحو وطنهم، وأن يكونوا “أمة أخلاقية”. لقد كان بن غوريون مثل موسى، شخصية فريدة من نوعها” (Dayan1978: 77). وعلى مدى 700 سنة -من 1267 إلى 8 حزيران 1967-، منع اليهود من الدخول إلى ما يعرف تقليديا بالمعبد فوق مغارة المكفيلة والمغارة نفسها. وعندما احتل الجيش الإسرائيلي مدينة الخليل في اليوم الرابع من حرب الأيام الستة ، كسر هذا الحظر المعادي لليهود وانتهى، ودخل اليهود إلى المكان الذي يعرف بقبور الآباء. وجاء عشرات الآلاف من الزوار اليهود إلى مقابر الآباء البطاركة بعد حرب الأيام الستة (Dayan 1978: 46). زار دايان بعد حرب الأيام الستة في غالب الأحيان الضفة الغربية وكان مليئاً بالغبطة وهو يرى موضوعات تتعلق باليهود وكم كان محباً لقراءة عبارات على قطع معدنية فضية كتب عليها بالعبرية القديمة “شاقل إسرءيل”، “أورشليم المقدسة”، “العام الأول لتحرير أورشليم”، “العام الثاني لتحرير إسرءيل”.. وهلم جرا. ومع ذلك، فقد شعر بإغراء أكثر إلى الفترات المبكرة، فترة الآباء، يشوع، والملك داود (Dayan 1978: 109-110). لقد عبر موسى البحر الأحمر. “وقد فعل بنو إسرائيل ذلك بعد 3300 سنة وعادوا لأرض جاسان، فخلال حرب يوم الغفران عام 1973، عبرت القوات الإسرائيلية قناة السويس واستولت على الأراضي ما بين الإسماعيلية وخليج السويس. وقد دعا أفراد هذه القوات هذه المنطقة باسم جاسان، ويقول دايان “حاولت إقناعهم بأن جاسان الكتابية تقع في مكان ما أبعد نحو الشمال” (Dayan 1978: 64).
يستخدم الماضي كاستعارات للحرب الحالية، وحتى المعركة بين داود وجالوت يتم استخدامها بصورة رمزية كتعبير عن الشجاعة والبسالة. كان جالوت مدرعاً ومسلحاً بأسلحة ثقيلة وضخمة وهائلة. ولكن داود تناول مقلاعه وألقى حجراً على جبهة جالوت فخر على وجهه صريعاً “إن انتصار داود على جالوت أصبح رمزاً لانتصار الضعيف على القوي، وانتصار الروح والشجاعة والإيمان المحفز ضد القوة البدنية والدروع [….]. إن دولة إسرائيل، في السنوات الثلاثين من وجودها وانتصارها على العرب في أربع حروب، هي التعبير الأمثل للرمزية في مبارزة داود وجالوت” (Dayan 1978: 183-184). وتبدو اليوم مثل هذه الاستعارة غريبة في أحسن الأحوال. وإذن، الماضي قوياً، لكن ليس فقط “احتلال كنعان” هو ما يتم استخدامه في سياق معاصر. فسقوط مسعدة في صحراء يهوذا هو مجاز سياسي ينشبك مع الماضي في إسرائيل حيث مجموعة من المقاتلين اليهود من أجل الحرية فروا إلى مسعدة في العام 70 م. بعد غزو الرومان لأورشليم واحتلالها في نهاية التمرد العظيم ضد روما في العام 73 م. ولكن عندما استولى الرومان على القلعة الحصينة، انتحر مقاتلو الحرية مفضلين ذلك على تسليم أنفسهم، وقد مات، وفقاً للأسطورة،960 شخصاً. وبعد ألفي سنة، مازالت عظمة هذه المأساة قوية، على الرغم من أن السرديات الأسطورية هي زعم أخلاقي ملفق (Ben-Yehouda 1995 :3-5). فهذا الموقع الأثري هو مركز جذب سياحي مربح في إسرائيل الحديثة. وكان إليعيزر بن يائير القائد الأخير لجماعة مصعدة، الذي أقنع شعبه أن يقتل بعضهم بعضاً (Josephus Flavius, op. cit. Ben-Yehuda 1995:vii) قد وجه خطاباَ لرفاقه يقول فيه :أيها الأخوة، الشجعان والمخلصين، منذ زمن بعيد، قررنا عدم خدمة الرومان أو خدمة أي شخص آخر غير الرب.. وقد أزف الوقت الآن بما يدعونا لإثبات تصميمنا بمآثر أعمالنا. هذا هو الوقت الذي يتوجب فيه أن لا نثبط من عزيمة بعضنا. فلا ينبغي لنا أن نختار العبودية.. الآن.. أعتقد أن الرب هو الذي منحنا هذا الامتياز، بأن نموت بنبل وكرجال أحرار.. نحن أحرار في اختيار الموت الشريف بيد من نحب. وهو ما لا يمكن لعدونا أن يمنعنا من فعله، هم يصلون بإخلاص كي يقبضوا علينا أحياء، ونحن لا نستطيع هزيمتهم في المعركة، فلتمت زوجاتنا دون أن يتعرضن للإساءة، فليمت أبناؤنا دون أن يعرفوا معنى للعبودية (…) لقد اخترنا الموت بدلا من العبودية.. هيا تعالوا ما دامت أيدينا حرة لحمل السيف. فلندع أيدينا تقوم بهذه الخدمة النبيلة، لنمت أحراراً وليس عبيداً لأعدائنا. ولنترك هذا العالم كرجال أحرار برفقة زوجاتنا وأطفالنا.
ثم انتحروا، وقد كان هذا الحدث جزءً هاماً جداً في تعريف الهوية اليهودية والإسرائيلية. لعبت مسعدة دوراً أساسياً في شتى مجالات الحياة اليهودية، ويتشابك هذا الحدث في المجالات الثقافية والرسمية. ففي كتيب يسمى “حقائق عن إسرائيل” نشرته، في العام 1985، وزارة الشؤون الخارجية الإسرائيلية، نرى فيه الرواية الرسمية لمسعدة كما يلي: (Ben-Yehouda 1995 : 13): مسعدة (70-73 م):ما يقرب من 1000 يهودي من الرجال النساء والأطفال الذين نجوا عقب سقوط أورشليم رفضوا الاستسلام إلى روما. واستولوا على حصن الملك هيرود المبني على الجبال والصخور المنحدرة من مسعدة قرب البحر الميت.. تمكنوا من الصمود لمدة ثلاث سنوات في مواجهة محاولات الرومان المتكررة لإخراجهم، وعندما تمكن الرومان من ذلك في النهاية، وجد هؤلاء أن اليهود فضلوا الانتحار على الاستسلام للعدو. قال موشيه دايان في العام 1983 “اليوم، يمكننا أن نشير فقط إلى حقيقة أن مسعدة التي أصبحت رمزاً للبطولة والحرية للشعب اليهودي تقول لهم: قاتلوا حتى الموت بدلاً من الاستسلام، فضلوا الموت على العبودية وفقدان الحرية “( Ben-Yehouda 1995 :14) شعار “مسعدة لن تسقط ثانية” في جميع مجالات الفضاء المجتمعي هو الجهر بأن ما حدث لا يجوز أبداً أن يحدث مرة أخرى. تم التنقيب في مسعدة من قبل البروفيسور يادين-الجنرال السابق-في الأعوام 1963-1965 . بمساعدة الآلاف من المتطوعين الإسرائيليين والأجانب. وصف يادين هؤلاء المتطوعين الإسرائيليين بحماسة فائضة “لقد كانت لحظة لا تنسى، فقد سقط، فجأة، الجسر عبر ألفي سنة.. كم كان ارتياحهم -وارتياحنا كذلك- عظيماً، عندما كشف هؤلاء الشباب -الجيل الشاب لدولة إسرائيل المستقلة- بأيديهم ما تبقى من آلاف الجنود المدافعين. جنود الجيش الإسرائيلي يصعدون كل عامٍ إلى مسعدة. وحتى العام 1991 تصعد وحدات من جنود المدرعات الإسرائيلية إلى مسعدة بعد الانتهاء من تدريباتهم الأساسية، لتقديم قسم الولاء لإسرائيل وللجيش في احتفال مثير ( Ben -Yehouda 1995 “147). وكثيراً ما يتم اقتباس بعض فقرات من الملاحظات الأثرية التي أدلى بها يادين خلال كلمة ألقاها في الاحتفال القومي في مسعدة في صيف العام 1963: عندما وقف نابليون بين قواته بالقرب من أهرامات مصر، صرخ في جنوده قائلاً “إن أربعة آلاف سنة من التاريخ تحدق فيكم”. لكن ما لم يكن بمقدوره أن يقوله لرجاله: “إن أربعة آلاف سنة من تاريخكم تحدق بكم..” إن صدى قسمكم سوف يتعالى هذه الليلة في جميع معسكرات أعدائنا. ومعناه لا يقل أهمية عن قوة أسلحتنا كلها (Elon 1971 : 288).
علم الآثار أكثر أهمية من السلاح؛ والكسر الفخارية أكثر قوة من المسدسات، والماضي هو ما يضمن المستقبل. غزو الماضي، إذن، بمثابة حرب إيديولوجية تعطي الشرعية لاحتلال أراضي الحاضر، ففي حفل مماثل في مسعدة سنة 1990 قال إسحاق بن آري، قائد وحدة الدبابات الشهير: لا تنسوا أنه كانت هناك محرقة. وقد رغبنا في التأكد من أن “مسعدة لن تتكرر مرة ثانية “وأننا ينبغي أن لا نصل إلى حالة مسعدة، ونحن هنا في هذا المكان الذي انتحر أولئك الناس، قضوا نحبهم.. وقد كان واضحاً للناس أننا قد عدنا إلى وطنـ(نا) وهذا هو دور كل مقاتل في (الجيش) في منع أن تظهر مرة ثانية فكرة أن نحصن أنفسنا مرة أخرى في مسعدة ( Ben -Yehouda 1995 : 156). فالصروح الأثرية هي صروح سياسية لاشك، ولكن البروباغاندا ليست علماً، وأشار جيلز إلى هذا الأمر منذ العام 1964 بينما كانت أعمال الحفر في مسعدة تجري على قدم وساق، وقد ركزت الدعاية على عمليات الحفر والتنقيب نظراً لما يمثله الانتحار من تراجيديا انعكست في إيديولوجيا متناقضة مع الديانة اليهودية. كما ركزت عمليات الحفر على وضع أسطورة مسعدة في قلب الحياة الإسرءيلية لفترة تدمير الهيكل الثاني، وفي حين تهدف البروباغاندا إلى تقديم مسعدة.. بوصفها “رمز للأجيال” فينبغي علينا أن نتكلم عن مسعدة، وليس إرث إسرائيل، مع العلم بأنها “ليست هي هذه الطريقة المناسبة”.. يجب علينا أن نقول لأطفالنا.. مسعدة ليست رمزاً، وأنها لم تكن رمزاً قط، ولن تكون. بل أن المنطلق الوحيد الذي يمكن أن يكون رمزاً هو ما لا يجب أن يكون رمزاً، وأن تتنحى الإيديولوجيا جانباً وأن لا تكون مقبولة. (op. cit Ben-Yehuda 1995:231).
يجادل عاموس إيلون بأن تلفيق الأسطورة يظهر بشكل متكرر عندما تنتج الأمم الجديدة رموزاً عن ماضٍ زائف “متواصل”؛ استمرارية سياسية دون انقطاع على مر القرون، وحتى عبر آلاف السنين” ولا مفر لإسرائيل من مواجهة مثل هذا النوع من تلفيق الأساطير. ويمكن أن تنتج الأساطير الزائفة عن الماضي حاضراً زائفاً وفي بعض الأحيان خطيراً يتمثل في بحث لجوج عن الجذور الأصيلة في التاريخ البعيد للبلاد في أوقات مجهولة”، كما يحذر إيلون،” ثلاثة آلاف سنة من التاريخ اليهودي المتعاقب والأخلاق من خلال العودة إلى القبائل العبرانية البربرية القديمة” ( Elon 1071 :282). وبعبارة أخرى، ربما تخضع قيم وإدراك التقاليد الثقافية المتأخرة للتشويش، وربما تكون معيقة، من خلال البحث عن الأصول التي من المفترض أن تحدد بعض “الجوهر الإثني” الأصيل أو “الأساس”. بيد أن البلدات والمواقع التي يتم وصفها بأنها “إسرءيلية” سوف تصبح “إسرائيلية” ولا يهم ما إذا كان من المستحيل الدفاع عن هذه المعالم الإثنية وفقاً لنظريات جديدة، وما ينبغي تغييره هنا هو الإطار العام الفكري بأكمله الذي تم من خلاله فهم الماضي. وقد استخدم الوصف الكتابي لتبرير غزو البلد في مناطق مختلفة، ويقول مايكل بريور بأن على العلماء اتخاذ موقف أخلاقي عندما يتم استخدام الكتاب لأغراض معاصرة سياسية و إيديولوجية. “أي ربط بين الرب وتدمير الشعوب يجب أن يخضع لتحليل أخلاقي. والتناقض الواضح بين ما يدعي البعض من أن هذه هي إرادة الرب وهو عمل متحضر عادي، والسلوك اللائق يطرح السؤال حول ما إذا كان الرب شوفينياً، قوميا وعسكرياً كاره للأجانب”(Prior 1997 : 13 ). ويتابع لما هو أبعد من ذلك بقوله: “ينبغي الدراسات الكتابية واللاهوتية أن تهتم بالظروف الحقيقية لحياة الناس، وليس بالركون إلى الرضا الذاتي في غيتو كنسي أكاديمي مريح” (Prior 1999: xii).. “لا يدفع الصهاينة ببراءتهم فقط، في ظل خطاب المؤسسة الاستعمارية، وعلى درجة من الفرادة، بل يحتفظون بسيكولوجية الضحية وحتى لوم الضحية، في الوقت الذي يرتكبون فيه قمع شامل ضد شعب آخر” (Prior 1997 : 298). تتطلب المعاناة، التي يسببها المشروع الصهيوني، من العلماء إعادة النظر في الأبعاد الكتابية واللاهوتية والأخلاقية لهذه المسألة (Prior 1999: xiii).
علم الآثار وفلسطين
نظراً لأنه من المستحيل أن يجادل المرء ضد وجود سكان قبل “ظهور” إسرءيل، فالإجراء المعياري المتبع في الاستخدام السياسي للماضي في هذه الحالة يتجلى في إنكار إنجازات هؤلاء السكان أو حقهم في الوجود (Whitelam 1997 : 57)، فالفلسطينيون هم: شعب بلا تاريخ -أو محرومين من هذا التاريخ بواسطة خطاب الدراسات الكتابية- أصبحوا غير مهمين، غير معنيين بالموضوع، وأخيراً غير موجودين، ويندرج هذا في إطار عمل تأويل كموضوع بحثي ينوء تحت الوطأة الكاملة لثقل المؤسسات الثقافية الغربية، التي ترتبط بشكل معقد في الفهم السائد في الحاضر، حيث قامت فيه دولة إسرائيل الحديثة بجعل أرض “قاحلة” و”فارغة” إلى أرض “مزهرة”(…) وقد قام خطاب الدراسات الكتابية برفض، وبصورة ثابتة، الاعتراف بأن بناء الماضي هو عمل سياسي. وسعى العلماء الكتابيين والآثاريين للبحث عن ملاذ للتجاهل المؤثر الموضوعي أو حتى إنكار السياق الذي يعملون فيه، والسياق الذي وردت وقرأت فيه هذه الأعمال (Whitelam 1997:46,128). يجب أن يغطي التاريخ الفلسطيني جميع جوانب تاريخ المنطقة بصورة مستقلة عن الكتاب العبري. ويتطلب التاريخ الفلسطيني زمانه وفضاءه الخاص، الأمر الذي أنكره خطاب الدراسات الكتابية على مدار قرن من الزمن ( Whitelam 1997 : 69). وكما أشير إليه سابقاً، عندما تقوم أمة بتكريس تاريخها ضمن منطقة جغرافية معينة، فإن تواريخ أخرى [ لأمم أخرى] يتم نكرانها زمانياً ومكانياً. هكذا تعمل القومية، فـ “النزعة القومية ابتكار، يستخدم شظايا مختارة من الماضي لبناء منزل جديد، وليس هذا سوى تزوير إذا كنا ندعي أن البيت الجديد هو البيت القديم” (Ascherson 1988 : 62) .الأمم هي بناءات جديدة، وإنكار حق جماعة إثنية في تأسيس دولة قومية هو تصرف سياسي، وليس حقيقة علمية. والإشارة إلى هذه البنى على أنها بنى جديدة هو واجب علمي وبالتالي تقويض سلطة الماضي. ويكمن الزعم الصهيوني في المطالبة بفلسطين بواحد أو مزيج من الحجج التالية: ( Finkelstein,N.G.1995 :100)
أ) الحق الإلهي
ب) الحق التاريخي
ج) الحاجة الملحة أو الضرورة القاهرة.
والسؤال المطروح إذن، لم استخدمت إسرائيل الممارسة التأويلية “الجرمانية” لإضفاء الشرعية على الدولة القومية. حيث بقيت هذه الممارسة الشرعية جزءً من الأساس الذي تقوم عليه دولة إسرائيل القومية منذ البداية. علق هانز كوهن (وقد كان صهيونياً في وقت ما) على النزعة القومية بأنها: تبعا للنظرية الألمانية، تعني أنه يتعين على من هم منحدرين من أصل مشترك أو يتحدثون لغة مشتركة أن يشكلوا دولة واحدة مشتركة. واستندت الجرمانية على فكرة أن جميع الأشخاص الذين ينحدرون من نسب أو دم أو عرق جرماني، ينبغي أن يكون ولائهم الأولي لألمانيا ويجب أن يصبحوا مواطنين في الدولة الألمانية، أينما كانوا يعيشون أو مهما كانت الدولة التي ينتمون لها، فألمانيا هي وطنهم الحقيقي. فهم، وحتى آباؤهم وأجدادهم، قد نشأوا وترعرعوا تحت سماء” أجنبية” أو في بيئة “غريبة”، لكن “واقعهم” الجوهري الداخلي ظل وبقي ألمانياً (Kohn 1971:817). وتتكأ المقاربة الصهيونية على افتراضات مماثلة، وفي الواقع، نسخ التحليل الصهيوني للمسألة اليهودية منطق معاداة السامية، التي توسلت الحجة ذاتها لتبرير كره-اليهود. ولتحقيق هذا الهدف كان على اليهود أن يشكلوا أنفسهم كأغلبية لأن المؤسسات الثقافية الحاسمة في أي مجتمع تكون خاضعة للدولة وعلى الدولة أن تسلك سلوك غالبية الأمة ( Finkelstein 1995 : 10). هذا النقد لإسرائيل ينطبق على معظم ما يعرف اليوم بالدولة القومية، لأن العديد من هذه الأفكار والمبادئ الهيكلية تشكل أساس الأمة والقومية ( e.g. Østigård 2001)، وفي الحقيقة، قام الإسرائيليون بتكرار مقاربة عامة أكثر شمولاً في خلق دولتهم القومية. ومع ذلك، فقد أنتج الآثاريون الكتابيون “حقائق علمية لا يرقى إليها الشك” حول” الأصول وبني إسرائيل” مليئة بمزاعم تاريخية حول الأرض، ولكن مثل هذه المقاربة هي معضلة بحد ذاتها وحلاً خاطئاً حين يتعلق الأمر بمزاعم جغرافية في مجتمع متعدد الإثنيات. ويرى إدوارد سعيد في مقالته “المسألة الفلسطينية” بأنه “علينا أن نفهم الصراع بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية على أنه صراع بين حضور وتأويل، فيبدو الفلسطينيون مغلوبين ومستأصلين من قبل الصهاينة بصورة ثابتة” (said 1980: 8).
يبقى الماضي بلد غريب أجنبي، وتعد مؤسسات الدولة القومية ظاهرة حديثة تستخدم سجالات وآليات تتجاوز أي خطاب علمي أو آثاري. والجدال الوحيد الآثاري (أو الكتابي) الذي يمكنني أن أراه صالحاً وأساساً لمزيد من النقاش هو القول بوجود مجتمعات متعددة الإثنية في فلسطين وشرق الأردن لعدة آلاف من السنين. ولذلك، ليس من المجدي على الإطلاق مواصلة النقاش حول من أتى قبل من، وبالتالي من له الحق في الأرض عن طريق أسطورة إثنية عن الماضي. ينصرف علم الآثار إلى السياسة، أو على الأقل ثمة عواقب سياسية وراء علم الآثار. فمن وجهة النظر السياسية، هناك نوعان من الأساليب الرئيسية لكيفية استخدام الماضي لإعطاء الشرعية الإقليمية لجماعات إثنية اليوم. يتحول أحد هذه الأساليب إلى القومية والشوفينية والفصل العنصري على أساس إنجازات الماضي. ومن الصعب الدفاع عن هذا النهج من وجهة النظر العلمية لأن هذه الأفكار تستند أساسا على نموذج تاريخي –ثقافي قديم لم يعد يستخدم اليوم. في حين أن الأسلوب الآخر لكيفية استخدام الماضي يفضل الماضي الديمقراطي والتعددي الذي يقدم حاضراً محتملاً متعدد الإثنية، وهذه التأويلات هي بدرجة أكثر أو أقل في انسجام مع النظرية الآثارية المعاصرة .
جبل الهيكل[ الحرم القدسي الشريف]
تعد القدس مدينة مقدسة ومحجاً لثلاثة من الديانات العالمية-اليهودية والمسيحية والإسلام. ناهيك عن أن بعض المعالم والمزارات المقدسة تمت الإشارة إليها في أكثر من ديانة، وعلى هذا النحو، فهي موقع صراع ونزاع. ولا أحد يمكنه حقاً أن يضفي الشرعية على أهمية الآثار، ولكن إذا كان هناك حل لهذه المشكلة، فهذا الحل موجود في القدس. ويمكننا أن نقرأ في الموسوعة البريطانية الحديثة (1988) ما تذكره عن إسرائيل، فتقول: في 15 أيار 1948 ظهرت إسرائيل تنفيذاً لقرار تقسيم فلسطين، لتكون أول دولة يهودية منذ 2000 سنة، ويمثل قيامها وفاءً للفكر اليهودي النابع من المعتقدات الدينية التقليدية عن وعد الرب بأرض إسرائيل لشعب إسرائيل. وقد وجدت هذه الأفكار تعبيراً عملياً في الرغبة في تشكيل أمة من دون الاعتماد على حسن نوايا الآخرين. يدل قيام دولة إسرائيل كعضو في الأسرة الدولية على خطوة حاسمة في التاريخ اليهودي الحديث. وهذا يتضمن شرعية وجود فعلي للمستقبل عن طريق الحقوق التاريخية المزعومة. والمشكلة هي أنه عندما تقوم أمة بجعل سند لها” ومرتكزاً” في منطقة معينة، ضمن ذلك الفضاء الجغرافي المحدد أو الإقليم، فلا يوجد أي إمكانية لأمة أخرى أن تبحث عن “مرتكز” لها فيها. ويتجلى في القدس ترسيخ الماضي في جبل الهيكل. يسيطر العرب على الجزء الأكبر من المنطقة. وتتمظهر المشاكل بجبل الهيكل وفي الصلات الداخلية المتداخلة للدين والإثنية من خلال استخدام الماضي للمستقبل. فجبل الهيكل مقدس ويدخل ضمن الممارسات الدينية لكل من التقاليد اليهودية والإسلامية على حد سواء حيث تعتبر منطقة جبل موريا المكان الذي همّ فيه إبراهيم بالتضحية بابنه (تكوين 22 : 1-18 )،وكذلك حسب ما ورد في سورة الصافات (102-110 ).كذلك ما ورد في سفر الأخبار الثاني(أخبار الأيام ثاني 3 : 1 ). وفقاً للعهد القديم، شيد الملك سليمان الهيكل الأول قبل ما يقرب من 3000 سنة (وهذا التأويل موضع نزاع لاهوتي وآثاري). دمر البابليون الهيكل في العام 586 ق.م، ولكن بعد ذلك بسبعين عاما قام اليهود ببناء المعبد الثاني في نفس المكان.”48 وَرَجَعُوا إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ وَمِنْ كُلِّ أَنْفُسِهِمْ فِي أَرْضِ أَعْدَائِهِمِ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ، وَصَلَّوْا إِلَيْكَ نَحْوَ أَرْضِهِمِ الَّتِي أَعْطَيْتَ لآبَائِهِمْ، نَحْوَ الْمَدِينَةِ الَّتِي اخْتَرْتَ وَالْبَيْتِ الَّذِي بَنَيْتُ لاسْمِكَ” (سفر الملوك الأول 8 : 48 ) وبناء عليه، فإن أولئك الذين يصلّون في الخارج يجب أن ييمموا وجوهم شطر إسرائيل، وأولئك الذين يعيشون في إسرائيل عليهم أن يتجهوا بصلاتهم نحو المعبد. وفي الإرث الإسلامي، يعرف هذا المكان “بالمسجد الأقصى” الذي أسرى إليه النبي محمد يرافقه جبريل ليلاً ثم عرج نحو العرش (سورة الإسراء 17 : 1 ). وبعد تدمير القدس على يد الرومان في العام 70 م. تركت منطقة الهيكل عمداً خراباً حتى الفتح الإسلامي للمدينة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب عام 638 م. الذي أمر بتنظيف المكان وبناء “دار عبادة”. وقام الخليفة الأموي عبد الملك [بن مروان] ببناء قبة الصخرة “مكان التضحية” على جبل موريا في العام 691م. (أو في وقت ما بين 685-292 م.). ولا يتفق العلماء على المكان الذي كان يقع فيه المعبد اليهودي، لكن هناك اتفاق على أنه في منطقة ما تحت قبة الصخرة، وقام الخليفة عبد الملك أو طبقاً للبعض ابنه الوليد (705-715) ببناء المسجد في النهاية الجنوبية للحرم، الذي أصبح يدعى المسجد الأقصى، وهو أيضاً الاسم القرآني للمنطقة بأكملها.
المسجد الأقصى هو مسجد القدس، ويقع على قمة أساسات عبرية قديمة دعيت من قبل “مؤلفين عرب” باسم “اسطبلات سليمان” ويقع المسجد الأقصى إلى الجنوب من قبة الصخرة، وهما يشكلان معاً كلاً غير قابل للفصل مماثلاً لما تشكله كنيسة القيامة والكنيسة المجاورة لها. وقد أعيد بناءه عدة مرات، والجوانب السياسية لهذا الموقع إشكالية بامتياز، حيث “يشير الأقصى إلى الجزء الأموي للقدس، لأن كامل جبل الهيكل (الحرم الشريف) اعتبر مكاناً معظماً للصلاة والسجود، وهذه المنطقة ليست سوى مكان معبد سليمان القديم، يغطي مساحة 430 ×300 متر، وتنتصب قبة الصخرة على باحته ضمن مساحة 190×130 متر (Stierlin 1996:38-40). ويسمى الجدار الغربي أيضاً باسم حائط المبكى. ومذكور في التلمود (Brachos 32) أنه عندما تم تدمير الهيكل فإن جميع أبواب السماء أغلقت، ولكن بقيت بوابة الدموع استثناءً، لذلك، عرف هذا الجدار “بحائط المبكى” لأن كل دموع اليهود تراق هناك. الحائط الغربي هو الجزء الوحيد المتبقي من الهيكل الثاني في القدس الذي دمره الرومان عام 70 م، ووفقاً للمعتقدات الربانية لن يحيد الحضور الإلهي عن هذا الجدار قط، فالجدار هو رمز للشعب اليهودي لأنه بقي صامداً رغم كل المحاولات والجهود الكثيرة لتدميره، وهذا الأمر مشابه للشعب اليهودي الذي عاش أكثر من أعدائه. وجدار المبكى اليوم جزءً من جدار أكبر يحيط بقبة الصخرة، وبالتالي، فإن الدخول إلى المنطقة هو موضوع سياسي مثير للجدل.
فمن يملك الماضي في هذه الحالة؟
بدأ الوقف [الإسلامي] في أعمال البناء على جبل الهيكل. (والوقف هو المؤسسة الدينية الإسلامية المنتظمة حسب الشريعة الإسلامية .ويمول الوقف من بين ما يمول المساجد). وقامت الجرافات والشاحنات بإزالة وحمل الأتربة من جبل الهيكل إلى مكب النفايات في القدس. وإزالة الرمال هذه أدى إلى تدمير السويات والمعطيات الأثرية، وهو أمر غير مقبول من أي وجهة نظر أثرية. وبغض النظر عن معاني الإثنية المعاصرة والدين، توضح هذه القضية المشكلة الرئيسة الكبرى بالنسبة لعلاقة المجتمع المعاصر بعلم الآثار، فالماضي مستقطب على أساس ديني وإثني وقومي. وفي كانون الثاني2001 اتهم “يسرائيل مئير لاو” رئيس الحاخامات الأشكناز بارتكاب إسرائيل خطأً تاريخياً عندما منحت الأمة [اليهودية] السيطرة على الموقع المقدس للمسلمين في أعقاب حرب الأيام الستة، أو تبعاً لشابيرو و ليفكوفيتز: “إن أي أمة لا تتمكن من حماية ماضيها فلا مستقبل ممكن لها” وقال “لاو”، في رسالة إلى باراك بإن إسرائيل ارتكبت “خطأ تاريخيا” عندما تخلت عن السيطرة على جبل الهيكل لصالح الوقف المعين من قبل الأردن بعد حرب الأيام الستة في العام 1967. فبعد احتلال إسرائيل للقدس الشرقية في الحرب، أمر وزير الدفاع آنذاك موشيه دايان أن تعاد مفاتيح جبل الهيكل إلى المسلمين. لقد خشي من أن السيطرة الإسرائيلية يمكنها أن تثير حرباً دينية في العالم الإسلامي بأسره. لكن “لاو” قال بأن دايان ارتكب خطأً فظيعاً: فـ “تسليم مفاتيح جبل الهيكل إلى سلطة الوقف كان غلطة تاريخية كبرى سوف نبكي عليها على مدى أجيال”، وقال في رسالته، التي اتهم فيها أيضاً السلطات الإسلامية بالتدمير المنهجي للبقايا الأثرية للمعابد (…) “حائط المبكى وجبل الهيكل ليست ملكية خاصة لأحد. والشعب الذي لا يعرف كيف يكرم جذوره ليس لديه الحق أن يحلم و يخطط لمستقبله”. ويقول, مشيراً إلى المسيحية والإسلام, تكرست رابطة الشعب اليهودي بأورشليم والأماكن المقدسة قبل أي ديانة أخرى أتت إلى هذه العالم. (Lefkovits and Shapiro 2001).
يؤكد التفكير التقليدي والاستعانة بالإثنية والدين على “جذور” الشعب. غير أن الشيء المنطقي يقول بعدم وجود مستقبل بدون ماضي. يقول زبولون أورليف، رئيس لجنة التعليم في الكنيست: لا يوجد نزاع إثني هنا، بل يوجد نزاع على السيادة -هل فرضت دولة إسرائيل قوانينها على جبل الهيكل أم لا؟ واعترض عضو اللجنة عن الليكود سيلفان شالوم قائلاً: “إنها ليست مجرد مسألة انتهاك لقانون الآثار، والتي هي مسألة مهمة في حد ذاتها. هناك أيضا تشعبات سياسية-دينية عميقة: تناهى إلى سمعنا، من مصادر عدة، أن السبب وراء عمل الوقف هو لمنع اليهود من تمكينهم من الصلاة في المكان الوحيد على جبل الهيكل (Arutz-7,Dec5,99).. وفي ذات السياق يقول يوسي بيلين، وزير العدل، مؤكداً أنه “لم تحاول أي حكومة إسرائيلية، منذ العام 1967، ممارسة سيادة إسرائيلية كاملة على جبل الهيكل [الحرم القدسي]. فهذه المسألة على درجة عالية من الحساسية.. فكل بيت مسلم يضم صوراً للمسجد الأقصى” (cited in Arutz-7,Dce6,99).
إن دمار أجزاء من هذه المنطقة يدعى “أكبر تدمير لجبل الهيكل منذ هدم الهيكل الثاني” وأكد موشيه فيجلين رئيس منظمة “هذه أرضنا”، إن “الوقف الإسلامي يعي جيداً أهمية ما حدث، وهو يسعى إلى ردم هذه اللقى بأكوام من القمامة” وفي رسالة بعثها إلى رئيس شرطة القدس ورئيس هيئة الآثار يقول فيها “الرجاء، الرجاء، إن واجبكم الفوري ينبغي أن يكون في وضع سياج في الموقع وحماية ماضي ومستقبل الأمة اليهودية..”، ويردف قائلا: كيف يمكننا خوض نضال من أجل جمع أوصال الأمة إذا ما أدرنا ظهورنا عن قلب الأمة؟ ينبغي علينا أولا وقبل كل شيء، أن نبدأ بقول الحقيقة لأنفسنا. فعندما قمنا نحن بإنزال العلم بعد الاستيلاء على جبل الهيكل في حرب الأيام الستة، كان ذلك بداية انهيارنا في يهوذا والسامرة والجولان. فالطريقة لمعرفة إذا ما كان الجسد ما زال ينبض بالحياة هي طعنه، فإذا ما شعر هذه الجسد بالألم وسمعت صرخاته، فهذه إشارة على الحياة. أيا كان من يأتي للمشاركة في المظاهرة الليلية فهذا رد فعل على الطعن الموجه إلى قلب الشعب اليهودي، وهو إظهار بأنه أحس بالألم وبأنه مازال حياً. وهذا سوف يظهر أن شعب إسرائيل حياً [عام يسرءيل حاي] (Arutz-7,Dec27,99)، وباستثناء بعض المظاهرات والاعتراضات من الآثاريين، فقد أثيرت العديد من الانتقادات ضد السلطات الإسرائيلية نفسها. فهذه السلطات متهمة بعدم اتخاذ إجراءات الدفاع عن تراثهم.
غالباً ما تكون المعرفة الإيديولوجية عن الماضي أكثر أهمية من المواقع والمعالم في حد ذاتها. ويعد حقل الستراتيغرافيا ” علم الطبقات الجيولوجية” واحداً من المفاهيم الأساسية في علم الآثار. ولكن للستراتيغرافيا أهمية منهجية وليست سياسية. والبديهة الأساس هي أن يتم فرض السويات واحداً على الآخر، وأن سلسلة السويات السفلى تتوضع أبكر من تلك السويات التي فوقها على التوالي عبر الزمن من الأسفل للأعلى (Harris 1989:12-13). وإذا ما ربطت الطبقات الستراتيغرافية المتنوعة بجماعات إثنية مميزة، فنحن هنا نعود مرة أخرى إلى النموذج التاريخي-الثقافي وإلى أسلوب ربط الإثنية بالثقافة المادية المرتبطة (ذات الصلة). ببساطة: طبقة واحدة-جماعة إثنية واحدة يعني محو تاريخ جماعة إثنية معينة ويتم ذلك تباعاً من خلال تدمير الطبقة الممثلة لتلك الجماعة المعنية. وهذا ليس علم آثار سيء فحسب، بل ثمة ما هو أكثر سوء، فإذا قام المسلمون بارتكاب نفس أخطاء الإسرائيليين، فذلك سيؤدي حتما إلى المزيد من التوترات المتصاعدة من النزاع بشأن الماضي المتنازع عليه.
الإرث الثقافي –مشكلة أم حل ؟
تكمن المشكلة لدى الفلسطينيين في الكيفية التي يمكن أن يقوموا من خلالها بخلق ماضيهم الخاص، دون اللجوء إلى ذات الممارسة التأويلية للباحثين الكتابيين. وهناك سبيل واحد لتحقيق ذلك من خلال كتابة تاريخ الشعوب الكتابية التي تجاهل الباحثون الكتابيون كتابة تاريخهم. وبالتالي بمقدورنا تجنب الإمبريالية بأثر رجعي (Davies 1992: 31). وبناء ماض ديمقراطي، فالماضي التعددي وحده، يمكنه أن يشرعن الحاضر التعددي، وهي قضايا آثارية، ومن ثم فإن سرديات أي جماعة بشرية في التاريخ هي على ذات القدر من الأهمية. الماضي عامل بارز في البناءات الثقافية المعاصرة وتلعب التشريعات القومية للتراث الثقافي دوراً هاماً في بنى هذه الهويات. وتكون القوانين بمثابة رموز لأهمية الآثار، ويتم إقرار البحث والتعامل من خلال التشريعات التي تضمن الحماية القوية. وبالتالي، على الآثاريين أن يكونوا على بينة من مضامين بناءاتهم للماضي. إن تحويل جزء من ماضي شعب إلى ماضي غير فعال يعني حرمان هذا الشعب من أجزاء من هويته وتراثه الثقافي. ولذلك لا مناص من ظهور الأهمية السياسية للسرديات الآثارية.
” التراث” مصدر واسع ومفتوح لبنى الثقافة والهويات، وهو كل ما ينتمي إلى الهوية المتميزة للشعب، ويعود لهم وحدهم إذا ما رغبوا أن يتقاسمونه مع شعوب أخرى. وهو يشمل كل تلك الأشياء التي ينظر إليها القانون الدولي كإنتاج إبداعي للفكر الإنساني والمهارات، مثل الأغاني، والقصص، والمعرفة العلمية والفن. ويتضمن أيضاً إرث الماضي والطبيعة، مثل البقايا البشرية، والأجناس الناتجة طبيعياً من النباتات والحيوانات التي ارتبطت مع الشعب منذ أمد بعيد (Daes 1993).
الماضي مهم، ولكن لشعوب مختلفة وبطرق مختلفة. الآثاري ليس مراقباً محايداً بل هو جزء من العملية حيث يتم من خلالها إعطاء أجزاء معينة من الماضي أهمية خاصة. قد ينفي السجال الأكاديمي الارتباط الشعبي مع الماضي (Hodder 1998) ،كما هو الحال مع الفلسطينيين، ولكن هذا لا يعني انتهاء المشكلة، بل، على العكس، يعني تفاقمها. :هذه هي النقطة حيث على النزعة النسبية أن تتوقف ويبدأ الحكم ، رغم فائدة تلك النزعة من أجل الولوج إلى داخل منطق الأفعال الثقافية. والأمر ليس صعباً على الإطلاق” (Taylor 2002:286). علينا أن نكون على بينة من القضايا الأخلاقية التي تمت بصلة إلى ما نقوم به. وعلم الآثار هو ميدان تخصص إنساني يسعى إلى تحري الماضي. و”العلوم الإنسانية هي علوم ذات منطلق واسع الاهتمام بالوجود الإنساني” (Obeyesekere 1990:104) . وعليه يكون السعي الأنطولوجي للعلوم الإنسانية بمثابة اهتمام واسع النطاق حول البشر ووجودهم. فالفلسطينيون، استناداً إلى التاريخ والآثار والمبادئ المشتركة للدول القومية وحقوق السكان الأصليين، متساوون في الحقوق على الأرض مثلهم مثل الإسرائيليين. وعليه، من الأفضل للمجتمع أن يتخلى عن علم الآثار وعن الباحثين الكتابيين على حد سواء، إذا لم يستطع علم الآثار والكتاب أن يساهما في تحقيق هذا الهدف، وإن كانا، بدلاً من ذلك، يقومان بتحفيز وتشجيع النزعة القومية، والشوفينية، وإساءة الاستخدام السياسي والنضال و الحرب.