زمني وزمن غزة المفقود
خاصمتني الكتابة، أكتب نصوصًا غير مكتملة، خاصمني الحب، خاصمني حتى الشوق لغزة، لا يوجد في حلقي سوى المرار، أنظر إلى الحياة حولي والموت داخلي، كم كنا أغبياء حين اعتقدنا أن هناك أمل، لا أمل. لا تتأملوا يا أصحاب الأمل.
إن العالم ظالم، والبقية هم الظالمين. أذكر أنني بدأت قبل أسابيع نصًا عن الحرب ووعدت صديقتي التي تنتظره أنه سينشر غدًا، لكن كعادتي أخون الكتابة. أهرب منها. فإنني أمسكها سكينًا وأذبحني.
لا تقرأوني، فأنا نفسي لم أعد أحتمل قراءة شيء، لا أكمل رواية دون أن أرى عيوب كل صفحة. ليتني أبقى أرى الأشياء كما أول مرة. ليت الوعي لا يكبر معنا، وتبقى التفاصيل على براءتها. ليت الحب يبقى كما بداياته. وليت الحرب بقيت في الأفلام وكتب التاريخ فقط.
ليست هذه الحرب التي أريد أن أكتب عنها
ليست هذه الكتابة التي أريد أن أكتبها
أهرب
إلى الكتابة العادية
المعلومات الأرقام
الصحافة
عبارات الفيسبوك وشتائمه
يقول صديقي لي “لا تكوني عاطفية على فيسبوك، اجمعي شتاتك واكتبي”، أفهمه لكن لا فرح يأتي كي أكون معه عقلانية، والحزن لا يطلب سوى العاطفة.
فكرت أن هذه إذن الحرب التي ستأخذ كل شيء
التي تركنا غزة جميعًا لأنها ستأتي.
قلنا قادمة لا محالة وستحرق الأخضر واليابس، فهربنا بعضنا بمراكب لم تصل وآخرين بطائرات وصلت.
هذه هي الحرب المنتظرة التي تركت غزة مثل كانون حطب انتهى للتو الشواء عليه.
أذكر أنني في ثالث يوم بالحرب أخذت الباص وغادرت إلى بلجيكا، لم أستطع أتحمل كل هذه الأخبار وحدي في الغربة، وهناك تابعت الحرب لدى صديقتي وعائلتها، كانت أهون، أفضل. تحليل هنا وتحليل هناك، ثم الصدمة جماعية إذا ما انهار برج ما.
حين كنت في منزلي وحدي لم أستطع النوم. قلبي يخفق طوال الوقت وكأني طفلٌ يعاني من حمى.
في السنة الرابعة تحديدًا من الغربة لا نعود نفكر في مكاننا الأول ولا حتى الثاني الذي كان وسيطًا بين المكانين، لا نعود نفكر سوى في يومنا، تصبح مدننا بعيدة، ذكرى لا نشتاق إليها، بل تبدو مستحيلة.
رأيت أصدقاء يعودون مؤخرًا من أوروبا إلى غزة بعد الحرب، قلت داخلي إنهم يريدون أن يجعلوا مدينتهم حقيقة مرة أخرى بزيارتها، يريدون كسر واقع الغربة ووهم المكان الأول، لكن هل فعلوا؟ أم اكتشفوا أنهم لا يزالون غرباء بل ازدادوا غربةً حين اختلف عليهم كل شي. كم أتمنى لو سألتهم، لكن حتى هذا ليس عندي صبر فعله وأسمع مقدمات الحديث التقليدية، غالبًا سيردّون حصلنا على الجنسية لذلك عدنا، وهذه الإجابة المنطقية التي لا أريدها.
أقرأ تبادل التهاني على فيسبوك، “بكرة عيد الأضحى” أوف… وهل يَجبّ العيد ما قبله؟ هل من المفترض أن يُنسينا الحزن؟ هل كلمة عيد كافية أن تدفن ألمك، فتضحك؟
لماذا فرحين بالعيد يا قوم؟ ألم تتحول مدينتنا الأثيرة إلى رماد أكثر ما كانت عليه بلجراد في الحرب العالمية الثانية، أليس الشهداء لم يتحولوا عظامًا بعد في قبورهم؟ بل ماتوا فقط العيد الفائت. الأعياد لا تنجينا. بل تخدعنا
قبل ستة أعوام تناولت ابنتيّ عمي أٍسماء وهنادي رنجة عيد الفطر قبل أن تفتتهما قنبلة اف 16، وبقيت الرنجة والكعك آخر ما تناولتاه، وآخر ما في ذاكرتي عنهما، كانتا سعيدتين.
كيف ننسى… كيف نفرح هكذا بسهولة؟ أنا أكره الإنسان. أكره حتمية نسيانه وحبه للحياة. وإن وسائل التواصل كثّفت لهوه وفرحته، حتى موت محبيه أصبح يستجدي به العطف على المنصات. تجرّد من طبيعته، وحزنه البدائي الفردي.
أتمنى لو أستطيع أن ألغي حسابي على فيسبوك، لا أريد أن أعزي أحدًا أو أبارك أو أضع صورة لي فهي العدوى إذن.
لا أريد أن أقرأ صدفة إعلان مراحل تطور جمال الفنانة الفلانية، نانسي عجرم، وهيفا وكندة حنا. هل يتطور الجمال؟ أمره غريب هذا الإنسان، كيف يسطح حياته كلما مر الزمن وإذا أراد أن يعمقها يتدين.
لو عدت إلى ذلك اليوم في رمضان الذي سبق الحرب تمامًا. في رمضان حين كنت أِشاهد المسلسلات، كنت أعتقد أن ذلك الزمن حزين وسيء، لكن أنظروا إلى هذا الزمن الآن.
كيف أرجع إلى الوراء ولا أرتكب ذنب الشكوى، بل سأكون راضية بعدما عرفت ما كان سيحدث، فتعود شوارع غزة كما كانت، ويعود الشهداء، وتكون مشاكل الناس أنها لا تستطيع شراء اللحوم، وزهقت من الفلافل، وليست مشاكل الزمن الحالي.
أشعر أن تلك الـ11 يومًا كثقب أسود في الزمن. زمن مفقود مني ومن غزة. لا أدري كيف جاء وانقضى. لولا ذلك الدمار لما صدقت أن الموت مرّ من هنا. لولا تلك الأيدي الصغيرة التي التقطتها الكاميرات تحت الردم لما صدقت أن الحرب زارتنا للتو.
حرب في المكان هناك وحرب في قلبي وعقلي.
أخذت القطار من مدينة صديقتي إلى شقيقي الذي أشتاق له كما نشتاق إلى وجوه نراها في أحلامنا ولا نشبع منها. قضينا معًا الوقت بين الأشجار وعلى التلال، لم أسأله بعد عامين فراق “كيف حالك؟”، بل “هل رأيت الحرب في غزة؟” رد “فتحت الفيديوهات ويا ريتني ما فتحتها”.
ألم أقل لكم… مجرد ألا تفتح صورة أو تشغّل مقطع الفيديو فكأن الحرب لم تحدث. ليتها كذلك، إلا أننا مهووسون بالموت. نفتح كل شيء، ونسمع كل شيء، ونتفرج على كل شيء. زمن الموت الداعر والجمال الداعر. لا أحد يحتاج أن يخبئ أو يخفي أي شيء. كله علانية. ونحن فقط نقرر ما حدث وما لم يحدث.
لذلك اليوم العيد… ولم يحدث شيء. ليس لي وليس لغزة. وكأننا معًا عشنا زمنًا وهميًا. فقدان ذاكرة مؤقت وحين عادت، لم تحسب الحرب ولم تحسب الحب. ليس هو خصام إذن بل تخلٍّ. عن” موقع رمان