رفض الخدمة في جيش الاحتلال .. الأسئلة العملياتية والاستراتيجية
يدّعي بعض المعارضين لحكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو بأن الجيش الإسرائيلي في طريقه للانهيار والتفكك،[1] وذلك على ضوء إعلان أعداد متزايدة من الجنود والضباط الذين يخدمون في الاحتياط عن نيتهم الامتناع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية في حال طُلب منهم ذلك، رفضًا لتمرير قانونٍ بالكنيست، تسعى حكومة نتنياهو لتمريره، يلغي صلاحيات المحكمة العليا في الرقابة على القرارات الإدارية للحكومة، والتي تجري تحت بند “عدم المعقولية”.
بحسب صحيفة هآرتس فقد أعلن حوالي 1000 من جنود وضباط الاحتياط المنتسبين للقوات الجوية بأنهم لن يلتحقوا بالخدمة في حال طلب منهم ذلك، احتجاجًا على التعديلات القضائية (في حال تم إقرارها).[2] في حين أعلن قادة الاحتجاج ضدّ التعديلات القضائية في 22 تموز/ يوليو نية حوالي 10 آلاف من الجنود والضباط في خدمة الاحتياط رفض الخدمة في حال تم إقرار التعديلات، من بينهم 1194 من القوات الجوية.[3]
بالاستناد إلى ما سبق؛ تسعى هذه المقالة للإجابة عن سؤال رئيس يتعلق بصحة الادعاء بانهيار الجيش الإسرائيلي، وعدم قدرته على القيام بمهامه في ضوء إعلان مئات الطيارين الاحتياطيين عزمهم عدم الالتحاق بالخدمة، وذلك من خلال اللجوء إلى الاحصائيات المتعلقة بالجيش الإسرائيلي. تجادل المقالة بوجود حالة من المبالغة في تقدير أثر إعلان هذه الأعداد من الجنود والضباط عن رفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية على قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ مهامه، دون التقليل من أثر هذا الرفض على بنية المجتمع الإسرائيلي على المدى الاستراتيجي.
حقائق وأرقام
يتشكّل أفراد الجيش الإسرائيلي من قسمين: الجنود النظاميين وجنود الاحتياط. يبلغ تعداد الجيش النظامي 173ألف جندي موزعين كالآتي: 130 ألف جنديٍ في القوات البرية، و9 آلاف جندي في القوات البحرية، و34 ألف جنديٍ في القوات الجوية.[4] ويبلغ عدد جنود جيش الاحتياط حوالي 465 ألفًا،[5] ويبدأ التجنيد الإجباري لجيش الاحتياط من عمر 18 سنة، ويلزم به كلا الجنسين، حيث يلتزم المجندون الذكور بخدمة مدتها 32 شهرًا، فيما تلزم المجندات الإناث بحوالي 24 شهرًا من الخدمة، أما الضباط فيخدمون في الاحتياط لـ 48 شهرًا.[6]
يضمّ سلاح الجو الإسرائيلي (الذي تتركز فيه دعوات رفض الخدمة) 617 طائرةً، تتوزع كما يلي: 268 طائرةً قتالية، و23 طائرةً للمهام الخاصة، و19 طائرةً للتزويد بالوقود، و15 طائرة نقل، و127 طائرةَ هليوكبتر قتالية، و165 طائرة تدريب.
يبلغ تعداد الجيش النظامي الإسرائيلي 173 ألف جندي، والاحتياطي 465 ألفًا
تمرّد الطيارين
تفرض “إسرائيل” رقابةً على طياري سلاح الجو، ومن ثمّ لا يوجد بين أيدينا إحصائيات حول عدد طياري جيش الاحتلال، فأعدادهم وشخوصهم تعدّ من الأسرار الأمنية لـ “دولة إسرائيل”، بل إن هوية الطيارين النظاميين تبقى سريةً، ويحظر على وسائل الإعلام الإسرائيلية تصويرهم أو إظهار وجوههم في أي تقرير صحفي. لكن يمكننا تقدير عدد الطيارين النظاميين في “إسرائيل”.
تحتاج الطائرات القتالية الحديثة إلى ربان (طيار) واحد، وبعض الأنواع “القديمة” تحتاج طيارًا ومساعدًا، فيما يحتاج قطاع الطيران الحربي إلى عدد كبير من الفنيين والتقنيين لصيانة الطائرات وتشغيلها والإشراف على عملها. يمكننا الادعاء بأن عدد الطيارين اللازمين لتشغيل سلاح الجو الإسرائيلي لن يتجاوز 1234 طيارًا (617 طائرة مضروبة ب2 “عدد الطيارين”)، ولو افترضنا وجود عدد مضاعف من الطيارين النظاميين لمواجهة أي طارئ فعدد الطيارين في الحد الأقصى سيكون 2468، فمن المنطقي أن نفترض بأن هذا العدد متوفر ضمن 34 ألف جنديٍّ منتسبين للقوات الجوية النظامية، فيما يتوزع باقي العدد على الفنيين والتقنيين والقائمين بالمهام اللوجستية.
يدفعنا التحليل الرقمي السابق للاستنتاج بأن سلاح الجو الإسرائيلي النظامي قائم بذاته ولا يحتاج إلى أيّ فرد من قوات الاحتياط، ومن ثم فإن امتناع الطيارين في الجيش الاحتياطي عن الخدمة لن يؤثّر على قدرة الجيش على تنفيذ مهامه. حيث يقتصر دور الجنود والضباط الاحتياطيين في سلاح الجوّ على تقديم الدعم اللوجستي أو نقل الخبرات، وفي حالات أخرى توفير بدائل من الطيارين إذا دعت الحاجة.
تأثر مهام الجيش برفض الخدمة
في السياق ذاته يمكننا تناول تأثير الامتناع عن الخدمة في باقي أذرع الجيش، فلو افترضنا صحة ما يعلنه منظمو الاحتجاجات بأن 10 آلاف من جيش الاحتياط سيمتنعون عن الخدمة، فهم يشكلون قرابة 2% فقط من جيش الاحتياط البالغ 465 ألفًا، وهذه نسبة قليلة وغير مؤثّرة، وهو ما يدفعنا للاستنتاج بأن هذا العدد لن يؤثّر في قدرة جيش الاحتياط، أو حتى في قدرة الجيش النظامي على تنفيذ مهامه، فمثل هذا العدد يمكن سد الفراغ الناتج عن تغيّبه، ولن يؤثّر بشكل جوهري.
الخلط بين عدم القدرة وتراجع الكفاءة
هناك خلط عند بعض المحللين بين مستويين من التأثر بالامتناع عن الخدمة هما: عدم القدرة على تنفيذ الجيش لمهامه، وتراجع كفاءة الجيش وجهوزيته. فامتناع أعداد من الضباط والجنود المنضوين في جيش الاحتياط قد يؤثّر على كفاءة الجيش لكنّه لن يؤثّر على قدرة الجيش على القيام بمهامه من حيث الأصل، بمعنى أن من يعلنون امتناعهم عن الالتحاق بالخدمة هم جنود الاحتياط الذين قد يحتاجهم الجيش في حال شن حرب كبيرة، وفي حقيقة الأمر هم يعلنون عدم التحاقهم بتدريبات الجيش الدورية، ولا يعلنون بأنهم لن يلتحقوا بالجيش في حال اندلعت الحرب، ولا يخفى أن هناك فرقًا بين الأمرين.
قد يؤثّر الامتناع عن الالتحاق بالتدريبات في حال انتشرت الظاهرة في صفوف الاحتياط على كفاءة الجيش، بينما لن تتأثر قدرة الجيش على تنفيذ مهامه بتمرد الاحتياط، فتنفيذ المهام القتالية والحملات العسكرية يضطلع بها الجيش النظامي في الأساس والأغلب، ولا تعتمد على جيش الاحتياط، وعلى سبيل المثال، فإن معظم الحملات (الحروب) العسكرية التي شنّها جيش الاحتلال على المقاومة في قطاع غزة، اقتصر فيها الجهد الحربي على الجيش النظامي، ولم تحتج “إسرائيل” فيها لاستدعاء الاحتياط.
يخشى بعض قادة جيش الاحتلال من تأثّر “كفاءة” الجيش نتيجة التمرّد في جيش الاحتياط، ولكنّهم في الوقت ذاته مطمئنون لقدرات الجيش على تنفيذ مهامه، حتى لو نفّذ المئات من المتمردين تهديداتهم برفض الخدمة بالاحتياط. وقد عبّر عن ذلك رئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هليفي أثناء اجتماعه بنتنياهو عقب إقرار قانون إبطال “عدم المعقولية”، بتصريحه أن الجيش قادر على تنفيذ المهام الموكلة له، ولن تتأثّر قدراته العملياتية.[7] وفي السياق ذاته ادّعى وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أن كفاءة الجيش لن تتأثّر، وذلك بالاستناد إلى تقديرات رئيس قسم الاستخبارات اهرون حليوة ورئيس قسم العمليات بالجيش عوديد بيسيوك.[8]
الأهمّ مما سبق؛ فيما يتعلق بقدرة الجيش القتالية، هو ما أشار له الصحفي الإسرائيلي عميت سيجال أن الجيش الإسرائيلي (ومن ضمنه سلاح الطيران) وضع خطةً جديدةً (سيبدأ تطبيقُها في شهر آب/ أغسطس من هذا العام)، تأخذ بالاعتبار احتمالية رفض المئات الانتظام في الخدمة العسكرية، وتتعامل الخطة مع هذا الوضع ضمن تعليمات واستعدادات جديدة، بحيث لا يؤثّر الرافضون على أداء الجيش، مع وجود تقدير لدى قادة الجيش بأن عدد الرافضين للخدمة لن يتجاوز العشرات، وأن جميع الإعلانات الصحفية عن وجود الآلاف من الرافضين مبالغ فيها.[9] يضاف إلى ذلك أن ظاهرة الإعلان عن رفض الخدمة ما زالت محصورة في جيش الاحتياط فقط.
قد لا تتأثّر قدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ مهماته، بسبب التمرّد المحدود في جيش الاحتياط، ولكنّ كفاءته سوف تتأثر
الاستراتيجيا .. أبعد من اللحظة
بطبيعة الحال لا تقاس الأمور بالأرقام فقط، فتبعات إعلان أعدادٍ من الجنود والضباط الذين يخدمون في الاحتياط عن رفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية لا تقتصر على قدرة الجيش على تنفيذ مهامه، وإنما تمتد لتمس أحد الركائز المهمة التي بني عليها الكيان الصهيوني، وبوتقة الصهر التي عمل الآباء المؤسسون للصهيونية على ترسيخها، فلطالما نُظر إلى الجيش في “إسرائيل” على أنه البقرة المقدّسة، والمؤسسة التي لا يجوز المساس بها والتي يجب تجنيبها أي خلاف سياسي، لكن الأحداث المتلاحقة والأزمة المتعمّقة تؤشّر على وجود تحوّل مهمّ ومؤثّر على هذا الصعيد، فالشرخ الاجتماعي والسياسي والأزمة الحالية امتدّا للجيش مما قد يؤثّر على مستقبله وتماسكه. ولعل الفيلم الدعائي الإسرائيلي الذي انتشر مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي يؤشّر على ذلك. يعرض الفيلم لفكرة افتراضية مفادها أن طياري سلاح الجو في ساحة المعركة يجري استدعاؤهم لتوفير غطاء جوي وحماية لجنود المشاة، فيسألون الجنود: ما هو موقفكم من التعديلات القضائية؟ في إشارة إلى أنّ الطيارين لن يساندوا الجنود الذين يتبنّون موقفًا سياسيًا مخالفًا لموقفهم من التعديلات القضائية، بما يعني دخول الخلاف السياسي إلى ساحة عمل الجيش الإسرائيلي العملياتية، وهو ما قد يؤثّر على تماسك الجيش ووحدته وقدرته.
الخلاصة والاستنتاجات
هناك مبالغة في تقدير حجم رافضي الالتحاق بصفوف جيش الاحتياط على خلفية رفض التعديلات القضائية، وأثرهم على بنية الجيش وقدرته، على الأقل فيما يتعلق بقدرة الجيش على تنفيذ مهامه. لكن في الوقت ذاته، فإن إعلان رفض الخدمة من حيث هو وبغض النظر عن مدى اتساعه، يؤشّر إلى تعمق الشرخ والأزمة داخل المجتمع الإسرائيلي، وامتدادها إلى مؤسسة جرت العادة في الكيان الصهيوني على تجنيبها الصراع السياسي الداخلي، وهذا يوحي بأن استمرار هذه الأزمة قد يكون له ما بعده على المستوى البعيد والاستراتيجي فيما يتعلق بتماسك الكيان الصهيوني، ومؤسسته الأهم (الجيش)، وقدرة “إسرائيل” على الصمود في وجه التحديات التي قد تتعرض لها مستقبلًا.
عن إطار