رحيل الكنعاني الثائر والشاعر والناقد والمفكر والأكاديمي والإنسان ابن البلد الأصيل عز الدين المناصرة
مفجع الرحيل الجماعي لكل هذه القامات التي يختزلها عز الدين المناصرة في شخصه. وموجع توقيت رحيله في هذه الظلمة الحالكة التي تحيط بوطنه الفلسطيني الذي سكنه في حله وترحاله ، فأسكنه في قلوب وعقول الأجيال الفلسطينية والعربية التي تغنت بأشعاره .
وموجع أكثر رحيله وبلاد كنعان /بلاد الشام / التي كثيرا ما كان يفتخر بثراء تعدديتها الدينية والعرقية والفكرية باتت تعيش احتراباً داخليا داميا.
في لقاء مهم له مع صحيفة الاتحاد الثقافي بتاريخ 26/12/2019. عرف عز الدين المناصرة نفسه بانه سليل الكنعانيين. ولد في قرية بني نعيم بمحافظة الخليل في فلسطين عام 1946، قبل أن تجد دولة اسرائيل موقعا لها على الخريطة الجغرافية للعالم. يتذكر طفولته المبكرة بقوله (كنت طفلاً كثير الأسئلة حول الأشياء من حولي في المدن المقدسة الثلاث: الخليل-القدس-بيت لحم ، أو /خِلّ إيل- أور سالم- بيت لخمو/ ، هذه المدن هي مرابع طفولتي . كنت عندما أسأل الكبار، كانت كلمة كنعان ومشتقاتها تتردد على مسمعي، وكأن الآثار الكنعانية تتكلم يومياً لتعلن عن نفسها أنها باقية الى أبد الآبدين). كان شديد الفخر بجذوره الكنعانية، حيث الأدب الكنعاني سابق للتوراة بأربعة عشر قرن. وعليه فالأدب الكنعاني هو المؤثر الأصلي. كان مؤمنا بتراكم الحضارة الإنسانية، يواجه المتهكمين من أعدقائه -كما كان يصفهم -عندما يصمونه بالوثنية الكنعانية بأن (من لا وثنية له، لا إسلام ولا عروبة له، فالتاريخ الوثني والثقافة الوثنية، هي طبقة من طبقات التاريخ البشري). ختم قناعته الكنعانية الشعرية كما يقول بإصدار كتاب فلسطين الكنعانية عام 2009
تشرفت بالتعرف عن قرب على عز الدين المناصرة، الإنسان المتفرد في خصاله وتواضعه في مدينة صوفيا ببلغاريا، عندما كان كلانا يستكمل دراسته العليا في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فتجاورنا في السكن الطلابي -رغم أنه كان آنذاك قامة شعرية وثقافية ووطنية -إلا أن ذلك لم يثنه عن البحث المعرفي الأكاديمي الذي يثري الرؤية النقدية ويطور القدرة الإبداعية للشاعر، وآثر أن يعيش كسائر الطلبة. ولم تمنعه خبرته الثقافية والشعرية والسياسية الواسعة من الانخراط الفاعل في الأطر القاعدية للاتحاد العام لطلبة فلسطين في بلغاريا -الذي كنت أرأسه آنذاك -وحرص على إحاطتنا بالرعاية، فتصدى بحسم لتغول مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بلغاريا ذو الخلفية العسكرية / مجاهد سمعان /، عندما حاول الاستقواء علينا بعد مؤتمر للطلبة خسر فيه أعوانه الانتخابات. فما كان منه إلا أن استدرج الشاعر عز الدين المناصرة رئيس المؤتمر للمكتب، واحتجزه لثلاثة أيام في القبو حيث تعرض للتعذيب والإهانة.
لن أنسى إطلالة عز الدين المناصرة وآثار التعذيب على وجهه وجسده، يهدئ من روعنا وقلقنا بابتسامته الهادئة المعهودة، ويقول رب ضارة نافعة. فقد أدى تهور مدير مكتب المنظمة ومحاولته إرهاب الطلبة بإرسال حارسه الذي أشهر مسدسه من نافذة السيارة الديبلوماسية بوجه الطلبة الفلسطينيين في المدينة الطلابية وكشف ارتباطه بالنظام العراقي، الذي كان آنذاك يغتال القادة الفلسطينيين في أوروبا. فبعد أن تمكن الطالب الأعزل محمد ناصر -العائد للتو من بيروت بعد مشاركته البطولية في الدفاع عن مخيم تل الزعتر، مع آلاف الطلبة الفلسطينيين الذين تطوعوا للدفاع عن الثورة الفلسطينية ومواجهة محاولات التصفية التي قادتها القوى الانعزالية اللبنانية وحلفائها من الأنظمة العربية -ونجح بتجريد الحارس من مسدسه، الذي تصادف مع مرور دورية لشرطة المدينة الطلابية ما أدى إلى أزمة ديبلوماسية، اضطرت مجاهد سمعان للهرب والاحتماء بالسفارة العراقية. فاعتبر عز الدين المناصرة أن ما حدث له يصغر أمام كشف هذا الاختراق.
رحل شاعر الجذور الحضارية عز الدين المناصرة ومسجّل القصائد (الكنعانية المستجدة) ذات الأبعاد الدالة بقوة على عراقة هذا الشعب -كما تصفه صحيفة الاتحاد الثقافي – .
سمى ابنه البكر كرمل تيمنا بجبل الكرمل الأكثر ارتفاعا في شمال فلسطين المطل على حيفا، أما ابنه الأوسط فحمل اسم أسلافه كنعان، فيما أطلق على وحيدته اسم داليا تيمنا بعنب مدينته الخليل الأقرب إلى قلبه ووجدانه.
رحل الشاعر والناقد والأكاديمي المتميز قبل اسبوع واحد من عيد ميلاده الخامس والسبعين. لم تأخذه شهوة الشهرة، وبقي على الدوام منحازا لما يؤمن به. مدركا لصعوبة أن يكون الإنسان مستقلا، مستعدا لتحمل تبعات استقلاليته. فلم يأبه لتجاهل أصحاب السلطة والسطوة والإعلام. وظل وفيا لمبادئه وللبسطاء من أبناء شعبه الفلسطيني، ولأكثرهم تضحية من الشهداء والأسرى والجرحى، فأمضى العمر يوثق بشعره نضالاتهم ومآسيهم.
يقول عز الدين المناصرة (عشت كجبل خليلي، وكفلسطيني من أصل فلسطيني كنعاني، صادقاً في مواقفي السياسية والثقافية، لأن الصدق هو طريق العدالة والحرية. دافعت عن قيم نموذجية في مستنقع الزمن الصعب. وقد توصلت إلى حقيقة تقول: المثقف المستقل هو الذي يواجه المشكلات دون حساب الربح والخسارة).
رحل الشاعر الأكثر عمقا وفهما والأبلغ تعبيرا عن عذابات نساء فلسطين في الوطن والمنفى، وعذابات نساء لبنان، فخصص لهن ديوانه الحادي عشر /البنات، البنات، البنات / الذي صدر في العام 2010. وضم خمس عشرة قصيدة في 115 صفحة، عناوينها (نشيد حارسات الكروم، وجهك مألوف لدي، طريقك خضراء، شروط التهدئة، دي يا حصاني دي، القدس عاصمة السماء، القدس عاصمة الجذور، الجندي الذي أصيب بالحمى، سماحة السيد الجنوب، قراءة في كف فاطمة، أشجار بتولا، درج الجامعة، صنوبرة، مقصوفة الرقبة، وقال رحمه الله وهو في السبعين يرثي حصانة، موشح الانصراف). وكان ديوانه هذا موضوعا لدراسة بحثية للباحثتين الجزائريتين رقية فزوج وفاطمة الزهراء فتاتي بعنوان (بنية اللغة الشعرية في شعر عز الدين المناصرة، ديوان /البنات، البنات، البنات/ أنموذجا، نشرت على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 17/10/2019 . وصفت فيها الباحثتان الشاعر عز الدين المناصرة بأنه (اسم بحجم المكان الفلسطيني، شاعر ما خذل القصيدة يوما وما خذلته، الشاعر الجوال الذي تأبط الترحال، وعرج في سماوات الكون باحثا عن حريته، وأوغل في بطن الأرض باحثا عن جذوره، وحفر في أقاصي الوريد عن تجربة خصبة موغلة في التاريخ والأمكنة، إنه التحليق الأبدي بين أشجار الكروم والزيتون والوديان والجبال والأماكن المقدسة في فلسطين، هو نفسه الرجل الذي كرم الدالية الخليلية كأنها أخته المسبية عندما أودع السم في العنب الخليلي كي لا يذوقه المغتصب:
خليلي …. أنت يا عنب الخليل الحرّ لا تثمر
وإنْ أثمرت …. كن سما على الأعداء لا تثمر)
برحيله خسرت فلسطين والوطن العربي جمع رجال، الشاعر والناقد والأكاديمي والثائر والفدائي الذي لم يتوان عن حمل السلاح دفاعاً عن المخيمات والجنوب اللبناني، وظل ممسكا بقلمه الحر حتى الرمق الاخير.
وخسر الشعب الفلسطيني إبنا بارا حمل أوجاعه ومآسيه ولم يساوم.
وخسرت المرأة الفلسطينية والعربية نصيرا عز نظيره
وخسر محبيه الكثر مفكرا مستنيرا قل مثيله.
ومن حق عز الدين المناصرة علينا جميعا بذل الجهد لتضمين سيرته ومسيرته وإرثه الادبي والمعرفي في المناهج الدراسية كي تنهل منه الأجيال الفلسطينية والعربية. وإطلاق اسمه على الميادين والساحات في المدن الفلسطينية والعربية والصديقة.
لروحه الطاهرة السكينة والسلام ، ولإرثه الفكري والمعرفي والأدبي الخلود