ربطة
الأحاديث عن ترك (أبو ليلى) للمشروب وذهابه الى المسجد لم تستمر طويلاً، لكن نكاته ونوادره ومقالبه ظلت تجوب بيوت المخيم في كل الأوقات، وتعود إليه أحياناً فيضحك عليها كأنه يسمعها للمرة الأولى، وما من مناسبة حضرها أبوليلى إلا وشغلت الناس حتى حلول مناسبة جديدة.. ففي الجنازات كان يقوم بمساعدة أهل الميت بكل كبيرة وصغيرة،
بدءاً من الطاسة الباردة والطاسة الساخنة، وانتهاء بإلقاء آخر حفنة تراب على القبر، ولا يكتفي بذلك، بل يقف معهم ليتلقى التعازي كواحد منهم.
وفي الأعراس كان ينعشنا بأغانيه المرحة، ويطربنا بمواويله الشعبية الخالدة، يأخذنا الى عوالمه السحرية حين يحدثنا عن كيد النساء ومشاكل الحموات والكنات، ويدغدغ دواخلنا بنكاته التي لا نشعر أبداً انها رذيلة حين تخرج منه مفعمة بحركات مضحكة ورقصات متنوعة، تدور بنا فتسكرنا إضافة لسكرنا… والعرس الذي لا يحييه أبو ليلى لا يعتبر عرساً ولا يحضره إلا أهالي العروسين، وتدور حوله التساؤلات العاتبة الساخرة:
– شو ياشباب مارحتوا على حلقة الذكر؟
– لا والله خيّا ما كنا متوضيين
– وهاها هاها..
وإذا سئل أبو ليلى في اليوم التالي، وهو في طريقه إلى عمله، عن أسباب عدم دعوته إلى العرس إيّاه، أجاب كل سائل بما يناسبه، ويكون دائما جوابه لنديمه أبي حسن منسجماً مع رائحة الخمرة المتخمرة في فمه منذ عشرات السنين:
– قال ايش، مابصير نشرب بالعرس، أي شو احنا بدنا نكسر البطحة بمية زمزم؟!.
( وزمزم عليها السلام، يا سلام اضرب سلام، ويا سباع البر عومي، اسبحي ولا تعومي، اشربي من بير زمزم، زمزم عليها السلام..).
ويتابع أبو ليلى الغناء ويهرع أولاده خلفه عازفين على عدة عملهم، من شاكوش ينطح مسطرين، إلى مسطرين ترن على قدوم، إلى سطل يقرقع، ويا سلام اضرب سلام، ويا سباع البر عومي…. وتترندح الأغاني من هزي البريزة يا اسميره، خورانك عوجه يا اسميره، إلى طلع الزين من الحمام، وشنكليله شنكليله .. إلى أغان محرفة مرتجلة يزفون بها عريسهم الوهمي، موقظين أهالي حارات المخيم على صباح جديد من صباحات أبو ليلى وأولاده وأغانيهم الممتعة، التي تستمر بين الزواريب الرملية حتى يصلوا الى ورشة عملهم، حيث يبدؤون شغلهم بنشاط منقطع النظير، فهم يعتبرون من أشهر الطيّانة ” المليّسين ” في المخيم، ولا أحد يستطيع إنكار ذلك، بل يعد أبو ليلى من المعلمين الأوائل في المدينة كلها، والملفت في الأمر أن أبو ليلى لا يمكنه إمساك المسطرين بيده دون ملء رأسه بمشروب العرق، ويبدو أن شربه للعرق قد ارتبط عند الجميع بجودة عمله، حتى الشيخ محمود لم يشترط عليه عدم تناول المنكر حين أوصاه بجعل جدران منزله مستوية كالبلاط، بل سافر متذرعاً بجمع التبرعات لتوسيع المسجد، بعدما قال له أبو ليلى: ( ما كثيره مسكر، فقليله حرام، تعني: حرام على الواحد منا شرب القليل طالما أن الكثير ينعشه ويزهزهه) .
لكن مشروب العرق بقليله وكثيره لا يسكر أبو ليلى رغم أنه يتناوله بدون طعام أحياناً، ويستمتع بشربه في طقوس مميزة وجلسات خاصة، فإن كان أهالي المخيم يستظلون على شاطئ البحر بخيام من بطانيات أو شراشف عتيقة وبعض أعواد القصب، كان أبو ليلى في بداية كل صيف يصب على الشاطئ مصطبة إسمنتية، يركز عليها أربعة أعمدة خشبية، يسقفها بشادر أخضر، ويسوّرها بالقصب، ويضع أمامها طاولة مستديرة أهداه إياها وكراسيها نديمه أبو حسن النجار، ويجهز بعناية فائقة طعامه وماءه وثلجه وألفية عرقه ((وشو يعني خيمة القذافي أحسن؟)).
وهذا الصيف الحار راح ابوليلى بصحبة زوجته الحامل دائماً، يتفنن في جلساته ، فيضع طاولته وكراسيها داخل البحر، يجلس والماء يغمره حتى خاصرته.. يمزمز الفواكه والبطيخ الأحمر وجبنة الحلّوم مع العرق الأبيض بتلذذ يُحسد عليه.. ودائما مع كؤوسه كأس اضافي فارغ، فما مر واحد من أصحابه إلا ودعاه بإصرار، واستمر في إصراره حتى يصل إلى ((علي الطلاق بدّك تتفضل))، حينها تتدخل زوجته بهدوء مرح لتحسم الموقف دون انزعاج صاحبهم أو اعتراض زوجها الذي يحترمها كثيراً، ويعتبر وجودها دائماً تتويجاً لطقوس شربه، فحسب رأي أبو ليلى، النساء نوعان: نوع يعرف قيمة العرق، ونوع لا يعرف، والذي يعرف يعرف، والذي لا يعرف يقول كأس عرق.. فتضحك زوجته وتقول: كف عدس يا أبو ليلى.
وهكذا راح أبو ليلى يقضي مساءاته الصيفية الجميلة مع زوجته أم أحمد وأمه صاحبة الصوت الرخيم، وأولاده ((الطلطاش)).. والضحكة تنطح الضحكة، والنكتة تلحق النكتة وترشقها بالماء، والكأس يدق الكأس.. وتلك الحسرة القديمة الجديدة تظل تدق أبواب أبو ليلى والد الثلاثة عشر ذكراً.. فأبوأحمد الملقب بـ (أبو ليلى) من أيام فلسطين، ظل يحلم طيلة أيامه في الشتات بأن يرزقه الله بنتاً يسميها ليلى، وكان الولد الأول وفرحوا به وبالثاني، وجاء الثالث…السابع… العاشر.. ثلاثة عشر ذكراً والبنت لم تأت بعد، وزوجته تقول له بعد كل ولادة: ((البطن الجاي ، البطن الجاي انشاء الله))، ووالدته صاحبة الصوت الرخيم، التي زفت أغلـب بنات المخيم الى عرسانهن، كانت تقول أحياناً ((يا مندرا أزف ليلى قبل ما أموت)) وأحيانا أخرى تشتم البنات وعيشتهن.
وفي مخاض زوجته بالحمل السابع، نصحه الشيخ محمود وبعض الجيران، بأن يشخط خروفاً أسود اللون.. وجاء يوم المخاض، وذبح أبو ليلى خروفاً أسود، ومسح بدمائه عتبة الباب، وبصم بكل كفه على جدار الغرفة و…و… ولأن المولد ذكر، لم يرسل الى الشيخ محمود من الخروف الا قرنيه واعضاءه الذكرية، وأقام حفلة شواء وراح يسكر مع نديمه أبي حسن، وقرر خلال الحفلة أن يطلق على المولود الجديد اسم خرخوف ( هاهاها.. اسم الدلع للخروف) لولا تدخل الشيخ والقابلة والجيران، لكنه ظل يناديه بالخرخوف بين الحين والآخر.
كبر الخرخوف، وكبر الذين جاؤوا بعده، والحسرة في صدر أبو ليلى تكبر وتكبر إلى أن اقترب هذا الصيف موعد مخاض أم أحمد، فهدّم أبوليلى خيمته وكسر ألفية عرقه، وحلف بكل الأيمان، اذا رزقه الله بنتاً سيسميها ربطة، وستربطه عن شرب المنكر طيلة حياته..
وجاءت ربطة.. وطار أبوليلى من الفرح.. وراح يغني ويرقص بجنون، ويحمد ربه ويشكره تارة، ويقول للحاضرين ” لو في عرق لفرجيتكم كيف الرقص ” تارة أخرى .. ومن ثم يركض الى زوجته، يقبلها ويقبل ربطته.. ليعود من جديد للرقص والدوران في البيت باحثاً عن مكان أكثر اتساعاً لفرحته التي أخذت تكبر وتكبر، وتنتشر في المخيم، مشكلة مقدمات وخواتم وحبكات لحكايات جديدة عن توبته وذهابه إلى المسجد، وعن استغرابه من وجود هذا العدد الكبير من شباب المخيم و” سكرجيّته ” في أيام الجمعة.. وعن خلافه مع الشيخ الجديد حول مصداقية الخشوع وتحريم الخمرة، وتفسيره لآيات من سورة النبأ.. أما اقتراحاته لحل مشكلة سرقة الأحذية من المساجد، فقد أوصلت -عبر الميكرفون ـ قهقهات المصلين الى ارجاء كل المخيم أثناء خطبة الجمعة:
– يا شيخنا، هلق الرمل مش طاهر وبنتيمم فيه
– نعم، نعم
– طيب، ليش ما كل المصلين بيجو على الجامع حافيين؟؟
ومن جمعة الى جمعة راحت أحاديث أهالي المخيم عن أبو ليلى و”نهفاته” تصفّر رويداً رويداً مع أوراق الخريف، وتنكمش أمام أسعار المازوت والعرجوم، وحكاياتهم، التي تستطيل مع أوقاتهم البليدة، عن الشتاء والبرد والمربعنية والزميتة.. إلى أن جاءت سيارات محملة بمعلبات قديمة من مستودعات الميناء، وألقت بها خلف التلال الرملية المحيطة بالمخيم، فهرع الناس إلى هناك أفواجاً أفواجاً، يحملون أكياسهم وسحاحيرهم.. وأخذوا بجمع المعلبات متعاملين مع صلاحية حفظها تبعاً لتعاليم (الدكتور) نعيم الملثوغة:
– أثمعوا يا ثباب، المدة الفعلية بتخلث بعد ثت ثهور، خدوا كل ثي بث العلبة المنتفخة كبوها.
هذه علبة حبلى، وتلك علبة لم تتزوج بعد، راح أهالي المخيم ينقلون إلى بيوتهم أشكالاً وأنواعاً من المعلبات، ما رأوا مثلها طيلة حياتهم .. وكما خرجت ريحة الطبخ والقلي والشواء من أغلب البيوت، فاحت من بيت أبو ليلى الذي راح مع أمه وزوجته وأولاده يتعرفون على محتويات المعلبات بفضول شره ودهشة لذيذة:
– شوف، شوف، فروج كامل
– فروج متل ما هوي، يا لهوي
– شوفي يا مرا، هادا لحم خنزير، ويمكن هادا لحم خيل
– لحم شو؟
– فرس، فرس أصيل يا مرا
هذا لحم حوت .. ذاك لحم لاما …. نظر أبو ليلى- الذي قلّ عمله بسبب تركه للعرق كما يقول- الى أنواع المعلبات الغريبة العجيبة، ونظر إلى أولاده وزوجته وأمه المشغولين بالأكل واللهط والزلط، ومن ثم ذهب إلى غرفته وعاد يحمل ابنته ربطة، وصاح:
– ولك خرخوف
– ح ح ح حاضر يابا
– روح جبلي بطحة عرق من عند عمك أبو حسن
– ح ح ح ..
خرج خرخوف من البيت مسرعاً، وصبغت الدهشة وجوه الجميع .. نظر الأولاد الى والدهم الذي راح يهدهد ابنته: (ياربطة رابطوكي، لعنوا امك عا ابوكي)، وانتصبت أمهم أمام زوجها صامتة لبعض الوقت، ومن ثم أخذت منه ربطته وذهبت إلى غرفتها، دلّت ثديها الكبير، ومسحت حلمتها بما تبقى من دهن ودسم على أصابعها، وراحت ترضع ابنتها إلى أن عاد خرخوف يحمل لتراً من العرق، وتهاني أبي حسن برجوع أبو ليلى لهم بالسلامة.
– هاتي هالبنت، هاتي هالبنت يامراا
– طيب، طيب
تناول أبو ليلى ابنته ربطة من صدر أمها، ووضعها على الطاولة المستديرة قرب لتر العرق وصحون الطعام، وصبً كاساً له، وكأسا لابنه أحمد، وبْسَمل بصوت مهموس، ثم قال:
– بصحتك يا بنت العرص، اي هوي اللي سماك ربطة، ما بسميك حلّة؟
وراح يشرب مع أحمد الكأس وراء الكأس، ويدق كعب ابنه الأبيض، ويفصفص ويقرمش ما طاب له من لحم الخيل والطير والسمك والخنزير.
– وبصحتك أبو حميد
– هأ .. بصحة ربّك أبو حلة
انتعش أحمد الذي يشرب العرق للمرة الأولى مع والده، وراح يقلد ما كان يفعله أبو ليلى في الأفراح والأتراح، فتتالت الضحكات والقهقهات، ولعلعت الأغاني والمواويل.. وبينما هم في غاية بهجتهم وفرفشتهم، هرع أهالي المخيم ينقلون عشرات المصابين بالتسمم من المعلبات إلى مستوصفات وكالة الغوث والهلال الأحمر ومستشفيات المدينة.