حينما يتحول البيت -كمكان- إلى ساحة للقهر

“حسبي الله ونعم الوكيل… الله أكبر، الله أكبر”، هذه الصيحات التي خرجت من أفواه الفلسطينيين، حينما قام الاستعمار الصهيوني بقصف “برج هنادي” في قطاع غزة، وللمرة الثانية بتاريخ 11/5/2021، إلى جانب أبراج أخرى في وسط وشمال قطاع غزة، في محاولة منه في الإمعان بإذلال وقهر للفلسطيني وتجريده من المكان الحميمي، ولجعل واقعه مسلوباً، وغير مستقر أو آمن حتى في بيته، هذه البقعة المكانية التي يفترض أن تشكل مساحة الطمأنينة والركون والإستقرار من الناحية النظرية لأي كان، وهذه التقنية العقابية باعتبارها جزء من السياسات والممارسات الاستعمارية المدروسة والمعدة ضمن عقيدة صهيونية، أطلقوا عليها “عقيدة الضاحية” التي تم استخدامها بلبنان عام 2006، في محاولة لكسر حالة الصمود والمنعة والصلابة المجتمعية من جانب، ومن جانب آخر كأداة لفض حالة الالتفاف الجماهيري حول المقاومة من جانب آخر، هذه السياسة وغيرها، مثل: ما يجري في محاولة التهجير والاستيلاء على بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح، والحبس المنزلي، وهدم المنازل والهدم الذاتي، هي ممارسات استعمارية ضمن مخطط كامل يهدف إلى تحويل البيت الفلسطيني إلى ساحة حرب، واستلاب، وتعرية، وانكشاف، وكمنطقة متزعزة تخلق نوعاً من التوتر الوجودي للفلسطيني الذي يعيش في سياق استعماري واحلالي.

ندرك جيداً، أن البيت ليس شكلاً هندسياً من المباني والحجارة والطبقات والغرف والممرات، البيت هو منظومة قيمية وأخلاقية كجزء من تجربة الفلسطيني فيه بالشكل الفردي والعائلي والمجتمعي، ليكرس الهوية والذاكرة وشبكة العلاقات ما بين الذات والآخرين في داخله أو خارجه، فيعد البيت كما نعلم أحد أهم القواعد الانسانية التي تنبني عليه مجموعة من الأفكار والقيم والذكريات والأحلام والمخيال الإنساني في حيزه الخاص، هذا المكان الذي يمنحنا ونمنحه معنى الزمن في الماضي والحاضر والمستقبل في دينامياته الإنسانية والبشرية، فالبيت هو أساس التجربة الأولى للفلسطيني، التي تدمج بين افكار وذكريات وتأملات.

فبدونها، يصبح الأنسان كائناً غريباً مشرداً مفتتاً دون قاعدة او أساس، كما البيت الذي لا يستقيم بدون قاعدة، فالبيت يشكل الجسد والروح لقاطنيه، وهو عالم الفلسطيني الأول بإمتياز، الذي يبدأ بالألفة للمكان وللعائلة وللوطن، فزج وطرد الفلسطيني خارجه أو هدمه أو الحبس فيه، يعني قتل روح الحياة الانسانية والدافئة في صدر البيت، فحين يُستلب البيت منه أو بطرده أو بهدمه هو ضمنياً خلق واقع من “اللايقين” وعدم الاستقرار لديه، فهو ملقاً في “الشوارع” كعالم يستدعي احتشاد العداوة والغربة والاستلاب، وكلمة “الشوارع” فلسطينياً تحيل إلى “إنعدام القيم والأخلاق والهدف” كما يتمثل القول الفلسطيني بـ “أولاد شوارع”، فهو انتزاع لجوهره وروحه، فبدون البيت يتحول الإنسان إلى صفحة بيضاء أو نقطة البدايات التي ينعدم فيها الخيال والأفق المستقبلي لينظُر بلا يقين إلى المستقبل، وتشكل هذه الجريمة والعقاب كأداة لتطويعه أو معاقبته أو سلبه.

البيت “كمكان” يعني كل شيء للفلسطيني، ترتبط به الذكريات التي نقيم دائماً ارتباطها ببقعة جغرافية، في غرفة صغيرة، في “مشجبة -حديقة صغيرة”، في سنسلة حجارة كحدود أو جدار البيت الخارجي، في الصالون، فوق السطح، فالزمن رغم أهميته، إلا أن للمكان أهميه كبرى هو الذي يستدعيه، فقد يكون الزمان مشوهاً، ولكن التجربة والذاكرة بالمكان تترسخ في إدراكه ووعيه وفي سيرته الذاتية، فنستطيع معايشة الاستمرارية التي تحطمت بفعل التشوه بمفهوم الزمان، عبر الخيال الذي نعطيه لمعاني هذا البيت والأحداث التي اختبرها، لطالما كنت استغرب من والداي حينما يقوما بإستدعاء الذاكرة بالأماكن بتفاصيلها الصغيرة قبل تهجيرهم من قريتهم سطاف في القدس آبان النكبه عام 1948، يتحدثون بأدق التفاصيل عن عين الماء، وعن العشاء الجماعي لأهل القرية في ساحتها، وكيف ينام الرجال فوق أسطح المنازل، وكيف كانت والدتي تعجن وترعي الغنم وهي طفلة صغيرة، لم تتعدى التسعة سنوات، ويذكر والدي كيف اقتحم الاستعمار البريطاني “الانجليز” لمنزل جدي لإعتقاله عام 1936، وأين لجأوا وعاشوا في البداية في مغارة…الخ، تفاصيل لا يستطيعا أن يذكروها بعد عام 1967 بهذه الدقة، وكأن الزمن توقف لديهم هناك، في تلك الحميمية والألفة التي تم انتزاعها من روحهم في ذلك البيت، فيعد المكان أكثر الحاحاً من بضعة تواريخ.

ما يحدث في حي الشيخ جراح أو بقرية سلوان او بأي منطقة أخرى، ليس منفصلاً عما يختبره الفلسطيني في التطهير العرقي المستمر له منذ بداية الصراع، وهو إنتزاع الفلسطيني من مكانه، من وجوده، من بيته، من المكان الذي يألفه، فإذا كان الاستلاب بصورة عنيفة في النكبة، فالآن يختبرها بصورة وقحه وصلفة: فهذا المستوطن بلكنته الأمريكية يقول لسيدة في حي الشخ جراح “إن لم أسرقه فيسرقه-مستعمر- غيري”، بل وتجبر أن تسكن بيتك مع عدوك أو قبالة مدخل بيتك، إيوجد قهر أو أذلال وسحق لكرامة الفلسطيني أكثر من ذلك؟، حتى بدى الفلسطيني عاجز عن الدفاع والاحتفاظ ببيته، وهي أحد أهم أسباب في إعادة اكتشاف الفلسطيني لذاته عبر الدفاع عن المكان الذي يقطنه أو يمارس فيه طقوسه الدينية والاجتماعية والاقتصادية، لتعيد قضية الشيخ جراح إلى القضية الفلسطينية كاملة، فمن البيت، أو باب العامود أو ساحات المسجد الأقصى كحدود وأمكنة صغيرة، ليكتشف ذاته في اللد والناصرة وبئر السبع، فماذا يقول أهالي حي الشيخ جراح بما يختبروه:

إم سمير من عائلة عبد اللطيف تقول “لم يبقوا من دبابات وصواريخ إلا واحضروه على حي الشيخ جراح، ليس لهم في هذا البيت ولا ذرة من التراب، اذا لهم من شيء في حيفا ويافا لهم بهذا البيت شيء، نواجه حملة هجمة استيطانية على منطقة القدس بوجه التحديد، هل تتخيلي أنني بنيت هذا البيت طوبة طوبة، وتربية أبنائي فيه، ونحن نسكنه منذ 70 من النكبة عام 1948، ويريدوا أن يخرجونا منه بالقوة، كما فعلوأ بجيراننا، حينما قاموا باخراجهم عنوة على الساعة الخامسة صباحاً، وهم عراة وحفاة وبشكل همجي، هذا ظلم واستبداد، بيت لك وتقومي بترتيبه ويأتوا للادعاء أنه لهم”(48).

السيدة سلوى سكافي، تضيف” اسكن بمنزلي منذ زواجي عام 1976، وقمت بتربية جميع ابنائي فيه، وإنه يعز علي فقدانه، لأن به مجموعة من الذكريات، وتاريخهم محفور فيه، ولست قادرة على القيام بالتخيل بأن المستوطنين سيقوموا بالاستيلاء عليه والسكن به بدلا منا-وهي تقوم بالنظر الى صورة للعائلة- وأشعر بخروجي من البيت سأموت مثل السمكة التي تخرج من البحر، وغير قادرة على التخييل بأنني سأخرج من القدس، واتقاسم مجبرة المنزل مع مستوطنين بعدما تم الاستيلاء عليه عام 2009، وتضيف منى الكرد: “القدس حضن، والشيخ جراح وطن”(49) أما ريم حماد تضيف: “إذا تم الاخلاء سنجد انفسنا ملقين بالشوارع”كاشارة للتشريد”، ولا أقوم بالسماح لأبنائي بالخروج إلى الحي، خوفاً عليهم من المستوطنين المسلحين”.

للمكان سمة وصفة أنوثية أمومية ألا نقول أن “الأم بتلم” بمعنى تجمع، فمعايشة المكان بتفاصيله الصغيرة يكون للمرأة بشكل أدق من الرجل، فأمي لديها تفاصيل مثيرة كما بقية الأمهات اللواتي اختبرن النكبة وألم التشريد والنكبة والمعاناة التي تقع/وقعت على كاهل المرأة الفلسطينية، وعليها وسمت المرأة بحارسة للتاريخ والرواية ونضيف بدورنا حارسة المكان، فمن يعرف ماذا يوجد في الادراج وفوق السدة؟، واين مكان العدة؟، وبترتيب المعزل والأغطية، فالمرأة هي البناء المعرفي للبيت، بل حتى بناء البيت طوبة طوبة…، بالتالي استلاب البيت هو استلاب الذاكرة والكرامة والألفة لها، تقول”أين تعبي، أين سنيني”، وكأنها الروح الذي يسكن المكان، وكأن المكان يحتفظ بروحها، وانتزاعها من البيت هو انتزاع لروحها ولكرامته، لأنها مثلما قالت إحداهن “السمكة تموت خارج البحر”.

تشير النسوة إلى التعرية، والارتماء في الشوارع بمعنى يحيل إلى التشرد وكأن البيت هو الغطاء لجسدها والملجأ لها ولعائلتها، فتنكشف وتتعرى بصورة مؤلمة كما حدث لعائلات من نفس الحي، حيث أكدن أنهن ينمن بمناديلهن وبلبساهن خشية اقتحام المنزل من الجنود” الاسرائيليين” بصورة همجية، وإخراجهن وسلبهم بيوت الفلسطينيين، حتى يشكل المنزل رمز العفة والشرف، وهي عكس التعرية والاعتوار، فلم يتبق للفلسطيني في وطنه سوى بيته وشرفه، ألم تذكر الأدبيات مسبقاً أن الفلسطيني خُيَّر في النكبة ما “بين الأرض والعرض”؟ فأختار العرض على الأرض، كقاعدة أسلوب حياته، وليصبح فاقد القدرة حتى على الفقدان(50)، لأنه لم يعد يملك أرضه في النكبة أو أن بيته معرض للاستيلاء والاستلاب، بمعنى أن ما يحدث في حي الشيخ جراح هو إلى حد قريب من سيناريو مشتق من سياسات وممارسات وبنية الاستعمار الاحلالي، وهي ليست مسألة قانونية، فالقانون”الاسرائيلي” وجد لاستلاب المكان والحقوق الفلسطينية، وليس لإنصافهم، فيكون الشكوى عن الاستغلال أو القمع وعدم الانصاف تجديفاً، لأنهما مكونان مشتقان من بنيته الاستعمارية.

فالتخيُّل يتجاوز البيت كبناء فقط، وإنما علاقات وذكريات وعشرة مع المكان والبشر والتاريخ الأسري للنسوة الفلسطينيات، ففي حديثهن يتميزن بقدرة عالية على استرجاع كل ما هو حميمي في البيت-وهي نفس القدرة لما حدث للفلسطينيات أبان النكبة-، “فلم يعد استرجاع لحظات أو ذكريات المكان المحصور، والبسيط، والمغلق، وتجارب المكان المنعش للقلب، بل للمساحة التي لا تتمدد ولكن أشد ما ترغب به أو أن تملكه”(51) من جديد، لقد فقدت النسوة قيمة امتلاكهن لمنازلهن ولذكرياتهن، لتعجز حتى عن التخييل، فالتخييل يتجاوز الملموس وإنما للمعاني التي ستفقدها إذا جاء مستوطن وسكن مكانها، فالمكان يدعونا للفعل وتنشيط الخيال، فلم يجدن في البداية سوى القيام بحملة “هاشتاغ” “انقذوا حي الشيخ جراح” كبداية للتوعية لقضيتهن، لتصل الأمور إلى جوهر الصراع الفلسطيني، بما نختبره الآن من حرب أمكنة فلسطينية لاستعادتها.

وهدم البيت، هو من القضايا الأخرى التي يستخدمها الاستعمار في تدمير وتحطيم الاستقرار للعائلة الفلسطينية، وعدم انتظامها في محيطها، لتطال كل وظائف الأسرة في الحماية والأمن، تقول طفلة من عائلة نصار الفلسطينية في جبل المكبر، بالقدس، بعدما تم إجبار عائلتها لهدم منزلها بأيدهم: “لقد كنا ساكنين في غرفة، والآن أصبحنا في الشوارع، وهنالك أغراض والعاب لي تحت ردم الطوب لبيتنا المهدم، ولا أستطيع إيجادها(52)، لم تعد الغرفة كبيرة أو صغيرة، بها رفوف أو عدمه، لقد تم تسويتها بالأرض، وتحطم حلم الطفولة في الحق بغرفتها كمكانها الحميمي، الألفة، الحنان واللعب، والذكريات، حتى ألعابها لم يعد بمقدورها إيجادها أو امتلاكها من جديد، لأنها أصبحت تحت ركام ذاكرتها في المكان، في غرفتها الصغيرة التي كانت فيما مضى آمنة.

التدمير والهدم كسياسة استعمارية هو جوهر “الاستدمار” الذي يمارس ضد الفلسطيني، فتستخدم كسياسة عقابية لدفعه للهجرة بصورة قاسية أو بالتنغيص عليه واستنزافه على أقل تقدير، تحت ذريعة عدم وجود “رخصة للبناء”، وهي غير قابلة للتحصيل من استعمار يسعى إلى استلاب المكان الفلسطيني، أو تستخدم كعقاب للأسرة التي يكون أحد أفرادها ناشط وطني، قام بفعل مقاوم، فقد يكون هدم المنزل مؤلماً وتجربة صعبة، تستطيع استعادة صحتك وعافيتك والشفاء الذاتي سريعاً من حالة التعاضد المجتمعي مع صاحب البيت والمساندة له، ولكن ما يعد أكثر إيلاماً هو اجبارك بهدم منزلك بيدك أو تدفع الكلفة المالية والتجهيزات الأمنية وهو ليس بمقدور الفلسطيني دفعها، فيقرر الهدم الذاتي، ويجبر على هدم ذكرياته وعرقه وتعبه ومكانه الحميمي بيده، هذه العقيدة في الإمعان بإذلال الفلسطيني وامتهان لوجوده وكرامته بصورة غير قابلة حتى على التصور، فقتلوا خاصية التصور أو الحلم لدى الانسان الفلسطيني بما يحدث أو بما سيحدث.

فكما البيت يسلب، ويهدم، أيضا تم تحويله إلى مكان للسجن في السياق الفلسطيني، وكأداة عقابية، خصوصاً ضد الأطفال دون سن السادسة عشرة، يقول الطفل عبد الله: “لم يعد بقدرتي الخروج خارج الدار، حيث أنه ليس بمقدوري أن أخطو خطوة في الخارج، وقررت بعد أربعة شهور من الحبس المنزلي أن اختار السجن الفعلي لمدة شهرين، لأني اختنقت من البيت”، وتقول أمه :”لقد مررت بصعوبات عدة في حياتي، ولكن ليس مثل هذه المرة، في أن اقوم بتسليم إبني للاحتلال، حتى يكون حر بعد شهرين”(53)، وطفل آخر تم الحكم عليه مدة 10 اشهر حبس منزلي، وتم إبعاده عن منزله، مما اضطرت العائلة للاستئجار لبيت آخر، يقول “بنعيش بحالة من التشرد، وأشعر بحالة وتوحد، ممنوع الخروج من البيت، وفي الحارة الجديدة لا أعرف أحد، وأبقى على التلفون وحدي، وبشهر رمضان لوحدي، ويعني لي كثيراً الجمعة برمضان، تجتمع مع الأهل بساعة الفطرة، انحرمنا من هذا الشيء، وبالعيد لم اطلع”أخرج” ولم أزور أحد، بالسجن الفعلي ما بنشوف أهلنا، واضطررنا للحبس المنزلي، وما بتقدر تشتري شيء إلا لما يجيء أحد من أهلك.. أبوي أو أمي عشان يشتروه لي، عايش بذل”(54).

الحبس المنزلي ليس خياراً بديلاً للاحتجاز “للأحداث” الذين يقومون بضرب الحجارة على الجنود أو المستوطنين كما تفهمه سلطات الاستعمار، وإنما سياسة في العبث في بنية وصورة ووظيفة الأسرة وأدوارها، يتمثل أحدى تأثيراتها باقتحام البيت والعبث بأدراج وخزائن البيت وتكويم جميع محتويات المنزل من ملابس ومواد غذائية في كومة واحد أمام مرأى الأب والأهل، الذي يضع رب الأسرة “كحامي لها” في موقف العجز المطبق، وصورة مهينة، حتى يصل إلى الحبس المنزلي في صورها الأكثر عنفاً، من حيث وضع الأسرة في موقف وكأنها السجان وإبنهم هو السجين، كإمتداد للسجن الكبير الذي يعيش فيه الفلسطيني، من حيث التحكم به عبر الحواجر العسكرية وكاميرات الرقابة المنتشرة في الأزقة والأحياء في القدس، فتتحول الأم من حاضنة للحياة والمشاعر والدفء إلى كاميرا مراقبة داخل المنزل تمارس الضبط على إبنها بصورة فوق اعتيادية، وكضابط مراقب على سلوكه وحركاته وقائمة الممنوعات، حتى تعاد صياغة أدوار الأسرة من بنية حميمية إلى بنية تنتج العنف السياسي على أبنها، حتى لو كانت حرصاً عليه.

“المكانية” هي المكان الأليف هي البيت، والألفة مع المكان والعائلة التي يتم العمل على تحطيمها، فيصبح بيت الطفولة والذكريات عبارة عن سجن داخل حدود لم تعد تمثل له الحماية، هذه الذاكرة المشوهة للبيت كمكان أصبح سجناً، وتقوم ببناء ذاكرة مستعادة لقمع وسلطة قهرية بدلاً من أن يكون الاحتلال هو المسؤول عنها كتجربة قاسية، يصبح الأهل يقومان بوظيفة القمع السياسي لإبنهم، فيحرصان على عدم خروجه من البيت، أو اللعب بالحارة، بل يفرض عليهم في بعض الأحيان إلى نفيه من مكانه “بيته” وإجبار الأهل على استئجار بيت آخر، ككلفة مادية ونفسية مرتفعة عليهم، وتشتيت للعائلة والألفة والجمعة وشبكة العلاقات الاجتماعية.

يحرم الطفل من الأمكنة التي اعتاد عليها وحضورها، مثل الشارع الذي كان يدمن الجلوس فيه أو أماكن اللعب وقضاء أوقاته، فبدلاً من أن يكون البيت المكان الذي تبنى عليه ذاكرته بحميمية، بل أصبحت تجربة الحبس المنزلي جزءاً من خياله، وهذا ما دفع الطفل لإقناع أهله في السجن بشكل فعلي لمدة أقل وهي شهرين، بدل من الفترة الطويلة في البيت، فتنقلب المعادلة بحيث يصبح الحبس المنزلي هو السجن والعقاب والتجربة المؤلمة، في حين يتحول السجن الفعلي إلى حرية، كما تقول أمه.

الحي أو الحارة هو الامتداد الطبيعي للبيت، وارتباط الشبان بالحي حيث يترعرعوا فيه، “والذي يشكل المكان الذي يعيشون به، إنه مكان تمدرسهم واحتمال مكان مآثرهم، فيعد الفتية الحارة مكاناً أكثر من كونه لا مكاناً، يمشون فيه بكل الإتجاهات ويعملون على نيل الإعتراف بحدودهم وهو الامتداد الطبيعي من ألفة البيت إلى ألفة الوطن (55)(145)، فيُحرم الفتية والأطفال الفلسطينيين من التواجد بأحيائهم، إما بسبب الحبس المنزلي وكعقوبة لهم وحرمانهم من محيطهم الاجتماعي وعلاقاتهم السابقة، في سبيل عزله عن الرابطة الاجتماعية التي نشأ عليها، أو بمنعهم من قبل ذويهم كما هو حال حي الشيخ جراح خوفاً عليهم من مليشيات المستوطنين المسلحين، فتنعدم الألفة في المكان ويشكل الحي كمكان فيه الشرور والعدوانية والعنف.

البيت يعني الداخل والخارج والاستدارة والتي هي ليست صفات هندسية بل ملامح ألفة حتى لو كانت شقة كما هو الحال في قطاع غزة، فالصورة والذكريات للبيت أو “استعادتها ليست معطيات ذات أبعاد هندسية بل مكيّفة بخيال وأحلام اليقظة، وللبيت القديم بيت الطفولة هو مكان الألفة ومركز تكييف الخيال، وعندما نبتعد عنه دائما نستعيد ذكراه، فالبيت القديم؛ يركز على الوجود داخل حدود تمنح الحماية، نعيش لحظات البيت من خلال الأدراج والصناديق والخزائن كما تسمى بيت جميع الأشياء، …، نصنع أنفسنا في أصل منيع الثقة بالعالم، ليقارب المؤلف بسؤاله؛ هل يبني العصفور عشه لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم؟”(56).

وبالمثل نستطيع القول؛ هل يبني الفلسطيني بيته لو لم يكن لديه ثقة بأن بيته لن يهدم أو يدمر؟ رغم احتمالية الإجابة خصوصاً بقطاع غزة، ولكن من الصعب التفكير بذلك لأن غريزة الفلسطيني وفطرته هي الحياة والاستقرار حتى لو في سياق استعماري يهدد أي منجز يحققه أو استقرار تطمح اليه، فتدمير البيوت الفلسطينية هي سياسة ثابتة في العقيدة الصهيونية منذ “أرئيل شارون” في السبعينيات في قطاع غزة، والتي نفذت فيه “وحدة ريمون” العسكرية عمليات واسعة من هدم البيوت وعزل المخيمات بصورة خاصة للسيطرة الأمنية على المواجهة مع المقاومة الفلسطينية في حينه أو في عقاب الفدائيين في الضفة الغربية، وتم تكرارها كسياسات عقابية ممنهجة في بداية انتفاضة الأقصى والاستقلال عام 2000، وبالتحديد بعد العمليات الاستشهادية عام 2001 ، وأطلق عليها حملة “الكشف والتعرية” لاستهداف المقاومين والاستشهاديين.

ويعد العدوان على لبنان عام 2006 في الجنوب هو بداية توسعها بصورة مدروسة، أطلق عليها الاستعمار “عقيدة الضاحية” حينما قام بتصميمها الجنرال “”غادي أيزنكوت” اثناء العدوان على لبنان، وتكمن فلسفتها بأنها أقل كلفة مقارنة بأضرار لخيارات عسكرية أخرى، وتقويض ومحاصرة للمقاومة وللضغط عليها، فقصف برج واحد أو عمارة سكنية واحدة، هو تشريد حي كامل بما مجموعه 500 شخص، وخلق ذاكرة أليمة بعيدة المدى بدل من دفع الكلفة المادية والفزيقية في حال الاجتياح والتغلل في قطاع غزة، والذي يعد أمراً مكلفاً ومدمراً من الناحية العسكرية.

واستخدمت في غزة في بداية العدوان 2008، وتم تبنيها بصورة هادفة في العدوان على قطاع غزة في العدوان 2014 كإجراءات حربية وعدوانية في سلب وتدمير العالم المألوف للفلسطيني الغزي، وأصبحت كأداة رئيسية في تدمير القطاع وبنيته التحتية، وهو ما يوشي بالأسباب إلى استخدامها في العدوان الحالي، من حيث البدء في تدمير الأبراج السكنية بهدف العقاب الجماعي للفلسطينين، والضغط على المقاومة لخفض توقعاتها أو شروطها في حال كان هنالك وسيطاً لإجراء تهدئة، ويتبع الاستعمار استراتيجية أسماها “النقر على السطح”، لتجنب ايقاع خسائر بشرية كبيرة، يلجأ فيها الى قصف صاروخ تحذيري على العمارة، ويتبعه اتصال تلفوني كما ذكر يذكر أحدهم، وبعدها، بأقل من دقائق معدودة يتم تسوية تاريخ وذكريات وتعب الفلسطينيين في الأرض.

وبخصوص قصف العمارات والأبراج السكنية في قطاع غزة، في وقتنا الحالي: يقول واحد من العائلات في برج الجندي المجهول الذي يقطنه أكثر من 70 عائلة، والمتواجد في أكثر منطقة حيوية ومكتظة بالسكان، وعلى مدخل السوق: “مصيرنا مشرد، نحن في قطاع غزة لا نشعر بأمان، أصبحنا نشعر بالرعب، مهددون في كل شيء؛ في مساكننا، في أهلنا، وفي رزقنا في قوتنا(57)، في حين يعلق صاحب البناية : “محلاتنا وأشغالنا تدمرت، كيف بدنا نعيش ونطعم أولادنا؟”، ويفصل الدكتور فايز: “كنا نائمين في أمان الله، وصحوت على صوت صاروخ قوي، فزعت ونظرت إلى الخارج من الشباك، لأرى ماذا هناك؟، سمعت سكان العمارة المجاورة ينزلون على الدرج بصراخ وهلع، ومن ثم جاءتني مكالمة من المخابرات، وقال لي قم بإخلاء البيت خلال 5 دقائق، سيتم قصفه، قلت له أكيد أنت غلطان، نحن سكان العمارة مدنيين، ليس لنا علاقة في أي شيء سياسي أو أمني، خلال دقائق تحولنا إلى مشردين بلا مأوى، بلا مأكل، بلا ملبس، لا نعرف ماذا سنعمل؟، وأين نذهب؟، ليس لنا أبسط الحقوق في المسكن، كل هذا سلبت منا بطريقة وحشية” وعائلة أخرى تلجأ من حيث الشجاعية إلى برج الاسراء فتلاقي حتفها في قصف آخر.

تشير استجاباتهم إلى عالم من: التشرد وعدم الأمن والهلع وفقدان مصدر الرزق والتعرية والتهديد المتواصل، بحيث بات كل فلسطيني غزي يشعر أنه من الممكن قصف العمارة التي يقطنقها، وسيناريو الهدم بصورة تكون مفزعة، أن الفلسطيني الغزي يكون دائم الشعور بالتهديد الوجودي على نفسه وعائلته وعلى بيته ومصادر رزقه، وهو شعور ناجم عن القوة المفرطة وافراط في القوة التي ينتهجها الاستعمار الاحلالي في قطاع غزة، ليصبح مصيره التشريد، وكم من عائلات تشردت ودمرت بيوتهم بالكامل أكثر من مرة؟، ليكون مصير عائلة نجت من القصف في الشجاعية لتموت في برج تم قصفه الأيام الماضية، وهو يعدينا إلى المربع الأول لسياسات الاستعمار الصهيوني في النكبة، يقول الحاج عوض سلامة: ” لم يتركوا في قريتي حتى بيتاً واحداً نسفوها كلها، تركوا بيتاً واحداً لم يكتمل ، وفجروا كل شيء آخر”، باعتبار أن البيوت هي اشارة على سكانها.

إن سياسة هدم البيوت/الأبراج هو رديف لسياسات عقيدة الصدمة(58) التي تهدف الى سلب السكان الأصليين لمفهومهم بذاتهم وبتاريخهم وحضارتهم وبثقافتهم حتى وجودهم، الذي يشكل الوجود المتضمن لديهم، ليُمسي دمية تعاد صناعتها وصياغتها ضمن رؤية تهدف الى استسلامه مع “قواعد العيش” ضمن رؤية الاستعمار، فالذعر الذي يخلقه الاستعمار عبر القصف لكل شيء في قطاع غزة، تطمح إلى تطويع الفلسطيني، ومحاصرة المقاومة والضغط عليها من جانب آخر، وإحكام السيطرة عليه عبر الحرب النفسية في خلق واقع هش قائم على عدم الأمن عبر تجربة صادمة متمثلة بهدم البيوت والأبراج، على قاعدة نسف العالم المألوف للفلسطيني ونظرته لذاته، فيصير أكثر قبولاً واستعداداً للامتثال مما كان عليه قبل العدوان، لتضع الحرب جميع السكان في حالة من الصدمة الجماعية، فهذا النوع من التعذيب في استلاب وهدم البيوت بشكل جماعي هو مرتبط بإنشاء وطن نموذج لهم، ويتم فيه محو المكونات الأساسية للشخصية في محاولة لإعادة بنائها انطلاقاً من عَدَّم ومن ركام.

إن الاستهداف الشامل للأماكن المأهولة تمثل بهدم البيت للفلسطيني، “فكل الأمكنة الماهولة حقاً تشكل جوهر فكرة البيت، وسيبني الإنسان في مخيلته مكاناً مريحاً موهماً نفسه بالحماية، فإن ساكن البيت يضفي عليه حدوداً، ويعيش تجربة البيت بكل واقعيتها وحقيقتها خلال الأفكار والاحلام”(59)(ص.36-37)، والقيم والمنظومة الثقافية والروابط الاجتماعي في الحي أو البرج تشكل المنطقة المشتركة بين الذاكرة والصور التي يتخيلها ويتمثل بها الفلسطيني، فهي الذكريات من خلال هدمها مع البيت، ستتشكل تجربة صعبة تضاف إلى وعي الفلسطيني لذكرياته، تشكل تثبيتات متمركزة حول أماكن خضع فيها لتجارب مؤلمة، وقتل لحلم الانسان في أن يملك بيتاً غير مهدد بالهدم.

هذه الذكريات المؤلمة لهدم البيت، في حال كان هنالك ايمان ووعي مجتمعي وشعبي لاستهداف الشعب الفلسطيني ومقاومته، يقوم التماهي مع الحالة العامة والقضايا العليا، وستلعب دوراً في التخفيف من حدة الفقدان والأثر النفسي الناجم، فالفقدان وتجربته ليست فقط مرتبطة بالبشر، وإنما بالبيت باعتباره روح وجسد كما ذكرنا، فوظيفة المكان احتواء الزمن وتكيفيه وربط الزمن والتاريخ الشخصي بالزمن والتاريخ الوطني.

يقول الدكتور الوحيدي في رده على مشاعره تجاه فقدانه لبيته نتيجة القصف، ويعلق بإيمان عميق:” ليس لنا إلا أن نحتمل الألم، أنه امتحان عسير ومؤلم، أقول دمروا الحجر، ولكن لن يستطيعوا تدمير البشر وارادتهم، وإن نالوا من البيوت فلن ينالوا من عزيمتنا، تعودنا على المصاعب واجتزنا كل المآسي كابراً عن كابر، خبرناها وتعلمنا منها دروساً، نستطيع من خلالها الصمود والبقاء، معتمدين على الله ولا نرجو مِنّة من أحد، ولا نرجوا فضلا ًمن أحد إلا الله، وفي تفسيره لإستهداف البيوت والأبراج :”هي عملية إذلال ودرب من دروب الوقاحة، والاستقواء العسكري، وأيضا إنها عملية قهر، ومحاولة إرضاخ لهذا الشعب، وهي عملية مدروسة جيداً، ومفهوم لدينا أبعادها النفسية، ليهزم صمودك وارادتك، ولكن لا، لن يستطيعوا، سنبني بدل البيت بيوت، وإرادتنا لن تقهر، ولا تهتز ولن تنحني، فليفعلوا ما شاءوا”(60).

الاجابة هي: لن ينالوا من عزيمة الفلسطيني إذا ما ربط مصيره وفقدانه لبيته بالسياق الوطني والقيمي والديني الجمعي، فيلعب الدين دور مهم في تجاوز المحنة والألم بل بالتداوي الذاتي عبر منظومة قيمية مجتمعية ووطنية ودينية، وكما قالت الفتاة من حي الشيخ جراح “اذا كانت القدس هي الوطن فإن حي الشيخ جراح هي الحضن” فتكون القضية والقدس هي الحضن والبيت المعنوي للفلسطيني، ومما كان يعتقد أن الثمن النفسي لهدم البيوت وكلفة الخسارة للفلسطيني سيجعله يرتد ضد المقاومة، عملت بصورة مغايرة بالقبول بالقدر وفهم الأسباب والأهداف منها كعتبة لتجاوزها رغم فظاعة الخسران.

إن التفكير والبيت هما طريق للعلاقات التي تخلق حيز الإدراك، هذه التجربة المؤلمة تقوم على أساس استنطاق الزمن بواسطة الذاكرة المؤلمة كبيت زجاجي للاحتفاظ بالظرفتين بمفهوم رولان بارت، فتحديد القيمة الإنسانية لأنواع الأمكنة هي التي يمكننا الإمساك بها، وكذلك الدفاع عنها ضد الاستعمار الإحلالي في سبيل التحرر، فالبيت أي المكان الذي نحب، “والمكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لامبالياً، فهو مكان عاش به بشر ليس بشكل موضوعي، بل لكل ما في الخيال من تحيّز، يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية والارتباط بالمكان والبيت على وجه التحديد باعتباره التخطيط الأولي لظاهرة نفسية”(61)(ص.31-32) قبل أن تكون ظاهرة مادية، لأنه الركن الأول والحقيقي للفلسطيني بكل ما تعني فيه الكلمة، واذا طالعنا بألفة سيكون أبأس بيت جميلاً بمخيالنا، ويتوافق مع الوظيفة الأساسية للبيت، فالبيت بقدر ما نحن بداخله هو بداخلنا، فكما لا يمكن تخيل درج فارغ(ص. 35-36) لا يمكن تخيل هدم بيت أو حبس منزلي أو الإستيلاء عليه، وإذا حدث فأن استعادة الذاكرة بها تربط بالسبب الرئيسي للذي قام بالفعل وهو الاستعمار، فيكون خيار حرب الأمكنة ممكناً، بل ومتطلباً.

عن الحوار المتمدن

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *