حول المشروع القومي العربي: ما أرى وما لا أرى

لا أرى، وكنت اود ان أرى، بشائر مشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور. وبدلا عن ذلك، ما أرى، ولا يعجبني، هو اقتسام النفوذ في اقطار الوطن العربي (خاصة، وان لم يكن حصرا، دول المشرق) بين ثلاثة محاور اقليمية، متنافسة ومتصارعة، هي التالية:

  • المحور الايراني/ الشيعي
  • المحور التركي/ الاخواني (ودولة قطر لاعب فاعل فيه)
  • المحور السعودي/ المصري (ودولة الامارات لاعب فاعل فيه)

هذا الانقسام الى المحاور الإقليمية الثلاثة جاء في اعقاب انهيار المشروع القومي العربي الكلاسيكي الذي امتد زمنيا من منتصف خمسينيات القرن الماضي الى ان لفظ أنفاسه في بداية التسعينات من ذات القرن.

كما لا أرى، وكنت اود ان أرى، بشائر مشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور. وبدلا عن ذلك، ما أرى، ولا يعجبني، هو شبح الانقسام او الانهيار “الدولاتي” الذي ما زال يحلق في سماء بعض الدول العربية. العراق مهدد بالانقسام ومثله اليمن، ومثل اليمن ليبيا، ومثلهما لبنان وسوريا. وقد سبق السودان الى ذلك حين انقسم الى سودانين، وقد تلحق السعودية بذلك. هذا الانقسام او الانهيار الدولاتي، كان، جزئيا على الأقل، من نتائج الوعد الكاذب للربيع العربي، ذلك الربيع الذي سطع فيه نجم الاخوان المسلمين، ذلك النجم الذي سرعان ما خبا.

ولا أرى، ثالثا، وكان بودي ان أرى، بشائر مشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور. وبدلا عن ذلك، ما أرى، ولا يعجبني، هو ذلك التركيز المفرط، والحصري أحيانا، على الدولة الوطنية/ القطرية: نظام الحكم فيها، امنها، مصالحها الضيقة، صراعاتها الداخلية، المخاطر التي تتهددها، وتحالفاتها الإقليمية والدولية. اما الحديث عن وحدة عربية او اتحاد عربي، او حتى تضامن عربي جدي، فقد اصبح من نصيب الرومانسيين من بين القوميين العرب، القدامى والجدد، خاصة المثقفين منهم.

باختصار، على من يفكر او يلوح او يبشر بمشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور ان يدلنا، نحن العرب الحائرين، كيف يمكن التغلب على الشروط الهازمة (defeating conditions  )، وهي داخلية وإقليمية وعالمية. داخليا، هناك الصدام المزمن بين الفكرة القومية من جهة، وكل من المذهبية  الدينية  والطائفية والقبلية ونظام حكم الاستبداد من هذا النوع او ذاك من جهة أخرى. إقليميا، هناك الصدام بين الفكرة القومية ومصالح او أطماع دول الإقليم المجاورة: إسرائيل وتركيا وايران. وهناك، ثالثا، صدام مع القوى العالمية المؤثرة ذات المصالح الاستراتيجية في المنطقة، وعلى راسها الولايات المتحدة وروسيا وبعض الدول الأوروبية الطامعة. هذا مع الاخذ بالحسبان، بالطبع، تداخل وتفاعل هذه الشروط الهازمة الثلاثة.

واذا كان الامر كذلك، أي اذا كانت الفكرة القومية محاصرة ومهددة، كما وصفت، واذا كان المشروع القومي العربي الجديد تبعا لذلك غير قادرعلى الإقلاع في المستقبل المنظور، فما الذي يجب ان تكون عليه أولويات عمل الحريصين على ترقية هكذا مشروع؟ وفي هذا الصدد، لا أرى بديلا مقنعا سوى ذلك الذي يدمج او يزاوج بين التركيز على إعادة بناء الدولة الوطنية/ القطرية على أسس قويمة من جهة، وبين التاكيد على احترام ورعاية مجموعة من الالتزامات القومية من جهة أخرى. هذه المقاربة تقول: إعادة بناء الدولة الوطنية أولا. وذلك خلافا لما كان يقوله منظرو وانصار المشروع القومي الكلاسيكي في خمسينيات وستينات القرن الماضي: الوحدة العربية أولا.

اما إعادة بناء الدولة الوطنية/القطرية على أسس قويمة فيتطلب التأكيد على أمور كالتالية :

  • تجاوز نظام حكم الاستبداد، واستبداله بنظام حكم ديمقراطي حقيقي يساوي في الحقوق بين جميع المواطنين، وبصرف النظرعن انتماءاتهم الدينية او المذهبية او الطائفية او العرقية، الخ…
  • الفصل بين الدين والدولة، ليس بالضرورة فصلا صلبا كما في فرنسا وتركيا الكمالية.
  • الاعتراف بالحقوق الجماعية للاقلية/ الأقليات غير العربية، ومنحها، اذا طالبت واصرت، ذلك الشكل من الحكم الذاتي الذي يتلاءم مع خصوصية هويتها.
  • سن التشريعات التي تساوي في الحقوق بين المراة والرجل وتلك التي تحظر التمييز على أساس اللغة او العرق او اللون او الدين.
  • تسوية النزاعات الحدودية بين بعض الدول العربية من جهة، وبينها وبين الدول غير العربية المجاورة من جهة أخرى.
  • وهكذا.

واما على الصعيد القومي العربي، فيتوجب التأكيد على التزامات كالتالية:

  • عدم تحالف أي دولة عربية مع أي دولة أخرى، عربية اوغيرعربية، ضد أي دولة عربية اخرى. واضافة، مساندة أي دولة عربية تتعرض للعدوان من قبل دولة اجنبية.
  • السعي لتوحيد الفضاء العلمي والادبي والفني بين الدول العربية، وإقامة ورعاية المؤسسات والهيئات التي تعنى بذلك.
  • التعاون بين الدول العربية لأغراض الامن الغذائي والمائي ولمحاربة الفقر والامية والتصحر.
  • بناء شبكة مواصلات حديثة بين الأقطار العربية، وتشجيع التكامل الاقتصادي.
  • وهكذا.

لا اجد حاجة لمزيد من التفصيل هنا حول ما يجب عمله وطنيا/ قطريا وحول ما يجب الالتزام به قوميا عربيا. المهم هو الحرص على الدمج او المزاوجة بين الوطني/القطري والقومي/العربي، مع الاخذ بعين الاعتبار بصورة جدية خصوصية كل دولة عربية.

وفي الاجمال، من ينادي بمشروع قومي عربي متجدد، او يبشر به، منظرا قوميا كان او حزبا سياسيا او ملتقى فكريا، ان يدرك ويذوت التالي: ان إعادة بناء الدولة الوطنية/ القطرية على أسس ديمقراطية حقة، وذلك الى جانب التزامها بمحددات قومية (من قضايا وسياسات ومشاريع تعاون) هما حجر الأساس لمثل هذا المشروع. فاذا اريد للمشروع القومي العربي ان يقلع وان يكون واعدا، يكون ذلك لانه مشروع ينطوي على تضامن وتعاون وشراكة، وربما نوع من الاتحاد لاحقا، بين دول ديمقراطية، متصلة جغرافيا وذات مصالح مشتركة؛ مشروع يتغذى على، ويرتوي من، التجانس في الإرث الثقافي. وأخيرا، اذا كنت لا أرى بشائر مشروع قومي كهذا في المستقبل المنظور، فان صورة ذلك المشروع، كما حاولت رسم ملامحها العامة، قد تكون جاذبة  للكثيرين من الديمقراطيين العرب، الاكثر تفاؤلا بإمكانية تجاوزالواقع العربي الرديء في المستقبل غير البعيد.

مجلة مواقف

 

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *