بلينكن والانقسام الفلسطيني في بكين

بشكل منفصل ومتتالٍ، أنهى أخيراً، كلّ من وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، ووفدين من حركتي فتح وحماس، زياراتِهم إلى الصين، بعد دعواتٍ رسمية من بكين. على النقيض من إعلان الصين المُسبق أنّ المسألة الفلسطينية ستكون من بين “أهدافها” خلال زيارة بلينكن، إلا أنّها هُمّشت كلياً في المباحثات الثنائية.

قبل الزيارة، تحديداً في 23 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، حدّدت وكالة الأنباء الحكومية (شينخوا) خمسة أهداف صينية لزيارة بلينكن، كان أحدها التعبير عن “استياء” وخيبة أمل” من استخدام الولايات المتحدة حقّ النقض (فيتو) الوحيد ضدّ محاولة فلسطين الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتّحدة. وذكر تقرير “شينخوا” أيضاً، أنّ الصين سترفع طلبات واضحة إلى بلينكن، وتحثّ الولايات المتّحدة على “التخلي عن عقلية التفوق… والانضمام إلى الدول الأعضاء الأخرى في الأمم المتّحدة في الوفاء بالمسؤوليات الدولية الواجبة، ودعم قرار مجلس الأمن 2728، والضغط من أجل التوصّل إلى اتفاق مُبكّر، ووقف إطلاق نار كامل في غزّة، لإنهاء محنة الشعب الفلسطيني”.

فوراً، وبعد انتهاء الزيارة (في 27 إبريل) نشرت “شينخوا” تقريراً ذكرت فيه أنّ هدف الزيارة المحوري كان إرسال رسالة إلى واشنطن تتعلّق بسياسات الأخيرة تجاه بكين، وهي “بدلاً من اللجوء إلى الازدواجية، من الضروري اقتران الأقوال بالأفعال”. يشير هذا التناقض بين إعلان ما قبل الزيارة والنتائج الفعلية إلى أولويات الصين، وثانوية المسألة الفلسطينية.

كان جوهر اللقاءات التي عقدت ثلاثة أيام بشأن دعوة واشنطن إلى وقف سياسة الاحتواء التي تمارسها ضدّ بكين، واستبدالها بالتعاون بدلاً من المنافسة وإقامة التكتّلات، فقد نشرت وزارة الخارجية الصينية عن مضمون المباحثات بين بلينكن والرئيس الصيني شي جين بينغ (26 إبريل)، إذ قال الأخير: “الرُكّاب في القارب نفسه يجب أن يساعدوا بعضهم بعضاً… والصين مستعدّة للتعاون، ولكنّ التعاون يجب أن يكون طريقاً باتجاهين… إنّ الصين لا تخشى المنافسة، ولكنّ المنافسة يجب أن تدور حول التقدّم معاً، بدلاً من اللعب في لعبة محصّلتها صفر”. وفي لقاء آخر بين بلينكن وعضو مجلس الدولة ووزير الأمن العام الصيني، وانغ شياو هونغ، انتقد الوزير الصيني السياسات الأميركية، وطالب بلينكن بوقف “المضايقات غير المبرّرة”، التي يتعرّض لها الطلاب الصينيون في أميركا. وفي ما يتعلّق بتايوان، وهي من أكثر القضايا الشائكة بين البلدين، قال المدير العام لإدارة شؤون أميركا الشمالية وأوقيانوسيا بوزارة الخارجية، يانغ تاو، خلال لقائه بلينكن: “مسألة تايوان هي الخطّ الأحمر الأوّل في العلاقات الصينية الأميركية. العلاقة التي لا ينبغي تجاوزها. تعارض الصين بشدّة الكلماتِ والأفعالَ المُضلّلة للجانب الأميركي بشأن مسألة تايوان… إذا كان الجانب الأميركي يريد حقاً السلام والاستقرار في مضيق تايوان، فيجب عليه… ألا يرسل أيّ إشارة خاطئة إلى قوى (استقلال تايوان) بأيّ شكل”، مطالباً بـ”وقف تسليح تايوان”.

ألم يكن الضوء الأخضر الأميركي ودعم واشنطن العسكري لإسرائيل السببين الرئيسين للإبادة الجماعية في غزّة؟

وفقاً للتقارير والمواد التي نُشرت على المواقع الرسمية الصينية، سواء التابعة لوزارة الخارجية أو لوكالاتها الإخبارية الحكومية، فقد حُيّد الملفّ الفلسطيني والحرب الإسرائيلية على غزّة من النقاشات بين بلينكن والقيادة الصينية. يذكّر ذلك بتصريح نفتالي بينت، عندما كان وزيراً للاقتصاد، في أثناء زيارته الصين عام 2013، الذي قال فيه إنّ “الصينيين لا يهتمّون بالاحتلال، وغير معنيين بالصراع العربي – الإسرائيلي، فكلّ ما يعنيهم هو التطور التكنولوجي الذي نمتلكه، وخلال العشرين لقاء التي أجريتها مع المسؤولين الصينين في هذه الجولة لم يسألْني أحدهم عن العرب أو عن الفلسطينيين أو حتّى عن الاحتلال”. سيرى كثيرون مبالغة عند الحجاج في أنّ الملفّ الفلسطيني والقضية بمجملها ليست ذات أهمّية بالنسبة للصين كما هو مُتَخيّل. في مقارنة بسيطة، عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، هاجم الرئيس الصيني نظيره الأميركي جو بايدن، واعتبره السبب في اندلاع الحرب، محمّلاً إياه المسؤولية الكاملة، فقال “دع من ربط الجرس في رقبة النمر يخلعه” أي أنّك (بايدن) السبب في استفزاز روسيا، وعليك حلّ الأزمة. أما في لقائه بلينكن، فلم يتطرّق الرئيس الصيني أبداً إلى الاحتلال الإسرائيلي بوصفه أيضاً، “الجرس” الذي أدّى إلى اندلاع الحرب في فلسطين. ومثال آخر، انتقدت الصين بشدّة، وبشكل متكرّر، تسليح الغرب أوكرانيا، وكان آخرها في يناير/ كانون الثاني الماضي، إذ اعتبرت أنّ “إرسال واشنطن أسلحة إلى أوكرانيا أدّى إلى “صبّ الزيت على النار”. ورغم ذلك، لم نشهد الخطاب نفسه ضدّ أميركا وتسليحها الضخم لإسرائيل خلال حربها ضدّ الفلسطينيين في غزّة أو حتّى قريباً من ذلك. ألم يكن الضوء الأخضر الأميركي ودعمها العسكري السببين الرئيسين للإبادة الجماعية في غزّة؟ أليست واشنطن شريكاً واضحاً وصريحاً في الحرب؟

صحيح أنّه لا يمكن إنكار دور الصين في الأمم المتّحدة، إذ واجهت كلّاً من أميركا وإسرائيل في مجلس الأمن، منذ بداية الحرب. ورغم ذلك، عندما ننتقل إلى الفعل، ترفع الصين شعارها المُفضّل دولةً محايدةً. وحتى الدور الذي تطرحه يأتي في سياق الجهود الدولية، فوضعت الصين حدوداً لانخراطها في الصراع، وأخلت مسؤوليتها الأممية، وحمّلت مجلس الأمن فقط، مسؤولية وقف الحرب الإسرائيلية. في ما يتعلّق بالتصويت على عضوية فلسطين في الأمم المتّحدة والاعتراف بها دولةً، ورغم اعتراف الصين بالدولة الفلسطينية، وباعتبارها الدولة الأكثر مطالبة بتطبيق حلّ الدولتين، إلا أنّ الصين لم تفتتح بعد سفارة بشكل رسمي في فلسطين، بل تطلق على مكتبها في رام الله “مكتب جمهورية الصين الشعبية لدى دولة فلسطين، أمّا لدى تل أبيب، فهناك “سفارة جمهورية الصين الشعبية لدى دولة إسرائيل”، أيّ أنّ فلسطين لم ترقَ بعد إلى مستوى تمثيل دبلوماسي صيني كامل كما إسرائيل، الأمر الذي يجعل الصين بعيدة تماماً عن الحياد، ويضع دعمها للدولة الفلسطينية موضع شك.

لم ترقََ فلسطين بعد إلى مستوى تمثيل دبلوماسي صيني كامل كما إسرائيل، ما يجعل الصين بعيدة عن الحياد، ويضع دعمها للدولة الفلسطينية موضع شك

في ما يتعلق باللقاء الذي جمع حركتي فتح وحماس، لم ينشر عنه الإعلام الصيني إلا خبراً مقتضباً يقول: “فتح وحماس تجريان محادثات في بكين وتحققان تقدّماً إيجابياً”. وقالت المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الصينية إنّ “الجانبين أعربا بشكل كامل عن إرادتهما السياسية لتحقيق المصالحة من خلال الحوار والتشاور، وناقشا عديداً من القضايا المحدّدة، وحقّقا تقدّماً إيجابياً”. نُشِرَ الخبرُ من دون إيضاح تفاصيل التقدّم، وحتى الخبر الذي نشرته “حماس” على موقعها الإلكتروني كان خالياً من الإشارة إلى لقاء جمعها بالفصائل الفلسطينية، وخصوصاً “فتح”، وجاء فيه: “أكّد الجانبان (حماس والصين)، استمرار المشاورات، والعمل على إنجاز الوحدة الوطنية الفلسطينية، واستعداد الصين لتقديم كل ما يلزم”. وهنا تبرز مجموعة من الأسئلة للقيادات في “فتح” و”حماس”، ما هي أولويات الفلسطينيين اليوم، وقف الإبادة أم مباحثات وحدة نعلم يقيناً أنّها لن تتحقّق؟ ما هي النتائج الحقيقية للقاء الذي جمع الفصائل في الصين؟ ألا يستحقّ الشعبُ الفلسطيني، اليوم، معرفة ما يجري وجرى بين الحركتين في بكين، بدلاً من نشر أخبار مقتضبة عن اللقاء؟ هل لقاء “حماس” قيادات السلطة في الصين يعني قبول الأولى تصريحات السلطة، التي كان من جديدها أخيراً قول الرئيس محمود عبّاس في الرياض “أمن إسرائيل واجبنا”؟ هل تمتلك الحركتان استراتيجيةً واضحةً للتعامل مع الصين، والتحوّلات في النظام الدولي؟ إذا كان الانقسام الفلسطيني جرى بفعل سياسات السلطة والتنسيق الأمني “المقدّس”، إذاً، على أيّ أساس تجري اللقاءات والمباحثات في عواصم العالم من أجل “الوحدة”؟

تحاول الصين استغلال الحرب والانقسام الفلسطيني لتصوير نفسها دولةً أفضل من الولايات المتّحدة، على وجه الخصوص، والغرب عموماً، وهذا فعل طبيعي في السياسة الدولية. ولكن، كان من المفروض أن يكون هدف الزيارة المحوري إرسال رسالة إلى بكين، وهي: “بدلاً من اللجوء إلى الازدواجية، من الضروري اقتران الأقوال بالأفعال”.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *