الفاشية والصهيونية واضطراب المعايير
لا يهدف هذا المقال، الى تبرئة الفاشية من الجرائم التي ارتكبتها، قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها. لكن “التسليم” باعتمادها، هي أو قرينتها النازية “كبرادايم”، أو كمقياس “أعلى” لدرجة التطرف والإرهاب والجريمة، واعتبارها اكثر فكر في التاريخ البشري عنصرية، يحتاج إلى بعض التوقف للتدقيق في مدى “علميته”، وربما في مدى “براءته” أيضا.
من “الطبيعي” أن يعتبر ضحايا الفاشية والنازية، أنها قمة الإجرام. ومن “الطبيعي” كذلك، أن يكتب “الملائكة” الذين واجهوا الفاشية في الحرب وانتصروا عليها، أن حربهم كانت الأكثر “عدلا” في تاريخ حروب البشرية. لكن من حق ضحايا النماذج الأخرى من التطرف والعنصرية في العالم، بل من واجبهم، التدقيق ليس فقط في دقة ذلك الحكم، بل وفي مدى “براءته” أيضا، حيث لم يعد استخدام تلك الرواية مقتصرا على تجريم الفاشية، بل امتد ليكون “أداة” لتبرئة مجرمين آخرين، لا يقلوا عنها “فاشية”، إن لم يكونوا قد تفوقوا عليها.
الفاشية والصهيونية
الفاشية كما هو معروف، نزعة قومية يمينية متطرفة، وفكر محافظ يرفض الليبرالية الاجتماعية والديموقراطية والتعددية السياسية، ويقوم “نظريا” على العنصرية. وكنظام حكم مثله ابتداء موسوليني في إيطاليا، ثم هتلر وفرانكو في المانيا وإسبانيا في منتصف القرن الماضي.
بنيت الفاشية والنازية على العنصرية القومية، وحصرت السلطة بيد حزب واحد، وقمعت الحريات، وحاربت الاقليات، وعبأت الرأي العام ضد فئات من شعبها ومن شعوب أخرى.
كما حشدت الإعلام والتعليم لشيطنة اعدائها، وشنت حروبا (خاصة المانيا النازية) للسيطرة على الجوار الأوروبي، ارتكبت خلالها الكثير من الجرائم ضد شعوب البلدان المحتلة، خاصة في الجزء الغربي من الإتحاد السوفياتي آنذاك.
استخدمت الفاشية العصابات الإرهابية المسلحة ضد معارضيها، مثل عصابة “القمصان السوداء”، ولم تكتف بالجيش وقوات الأمن المعروفة لدى الدول. استخدام مثل هذه العصابات كما هو معروف، لا يكون فقط لاستخدام العنف بلا حدود، بل وكذلك من أجل الافلات من أية مساءلة قانونية أو غيرها في المستقبل.
يكاد هذا الوصف للفاشية، أن يتطابق مع ما توصف به الصهيونية؛ فهي أيضا منظومة فكرية عنصرية، تستند الى تمييز اليهود “كدين وكعرق” مختلف عن بقية البشر. وتبني نظريتها على اصولية دينية تؤمن بمقولة “أرض الميعاد” التوراتية، حيث اختار الله “شعبه” (اليهود) لاستيطان فلسطين. لقد سخرت الصهيونية (العلمانية) الدين والاسطورة وكل شيء من أجل تحقيق اهدافها.
وهي-اي الصهيونية- ايديولوجيا قومية متطرفة، نشأت في أوروبا ايضا في نهايات القرن التاسع عشر على يد هيرتسل، الذي عمل صحفيا، تماما كما عمل موسوليني في بداية حياته العملية، وبثت الكره وتآمرت على كل من عارضها، حتى من اليهود أنفسهم. وفي حين قام موسوليني بإلغاء الاحزاب والنقابات عندما وصل الى الحكم في إيطاليا، قامت الصهيونية بإلغاء شعب بأكمله، وشطبت كل ما يتعلق به من تاريخ وجغرافيا وثقافة وأسماء مدن وقرى وشوارع وحكايات.
كما استخدمت الصهيونية العنف والإرهاب بأبشع صوره ضد الفلسطينيين الذين أنكرت وجودهم من الأساس، واستخدمت العصابات المسلحة من اراغون وشتيرن في الثلاثينات الى “فتيان التلال” من المستوطنين حاليا، لارتكاب الجرائم التي ما زال “يكتشف” بعضها حتى الآن، واعتبرت أن ميدان عملياتها ضد اعدائها يمتد عبر العالم، ومارست ذلك عمليا.
ومثلما حاول موسوليني غرس الكراهية ضد كل من لا ينتمي الى ايطاليا، وسخر الاعلام الإيطالي لذلك، وكذلك فعل هتلر بالنسبة لألمانيا، فعلت الصهيونية بكل من شكك في اهدافها، وثبتت مبدأ “معاداة السامية” على كل من ينتقد السلوك الاسرائيلي والفكر الصهيوني وحتى التفسير الصهيوني للتاريخ، وجندت لذلك ليس فقط الإعلام الاسرائيلي بل معظم الإعلام العالمي خاصة الغربي.
وتبنت الصهيونية كل ما رأته مهما في تاريخ المنطقة، فأرجعت لليهود معظم التراث الفلسطيني من “الفلافل” والتطريز، الى بناء الأهرامات في مصر. في حين أن موسوليني لم يتعدى كرة القدم لينسبها الى الطليان.
لقد توجت اسرائيل عنصريتها بسن قانون يهودية الدولة، الذي توج قانون “العودة” الذي يتيح لليهودي أينما كان الحق في الاستيطان في “أرض اسرائيل”، فجاء القانون الجديد ليعطي الحق في تقرير المصير لليهود فقط دون غيرهم في فلسطين.
أمران هامان ايضا، لا بد من اخذهما بعين الاعتبار عند المقارنة بين الفاشية والصهيونية، الأول أن الوقت المتاح الذي توفر للفاشية لممارسة جرائمها لا يزيد عن عقدين، بينما تجاوز ذلك بالنسبة للصهيونية المئة عام، والثاني أن الصهيونية تجاوزت في ذكائها الفاشية بدرجات، فهي بعكس الفاشية المحافظة والاصولية، محافظة وليبرالية، ومتدينة وعلمانية، وتتحالف مع الأنظمة المتناقضة، يتسارع للاعتراف بها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وتدعم زيلنسكي و”تصادق” بوتين، وتطبع مع العرب وتقتل العرب، ولا تجد حرجا أو تناقضا في كل ذلك.
المركزية الاوروبية تفرض ذاتها
يستخدم كثير من المحللين السياسيين المناهضين للاحتلال الاسرائيلي، مصطلح “الفاشية” لوصف التحولات السياسية والاجتماعية، الذاهبة بالنظام الاسرائيلي نحو اليمين. فالمجتمع الاسرائيلي كما يقولون، وكذلك النظام السياسي فيها، يذهبان اكثر بإتجاه “الفاشية”. في ذلك شيء من الصحة بالتأكيد، لكن استخدام الفاشية كدليل على الامعان في التطرف والعنصرية يشير الى تأثر واضح بالمعايير الاوروبية والغربية في الحكم على النظم السياسية والفكرية.
اذا كانت الصهيونية تفوق الفاشية في عنصريتها وتطرفها وارهابها، فما الذي يجعل شرقيا هو ضحية مباشرة لها أن يقوم بوصفها بالفاشية، غير تأثره بالهيمنة الفكرية التي فرضتها المركزية الغربية الاوروبية على بقية شعوب العالم.
لقد استطاعت المركزية الاوروبية، التي تنطلق من تفوق العرق الأوروبي الأبيض، أن تغرس لدى شعوب العالم، تفضيل الحضارة الاوروبية الغربية على سواها. واقنعت معظم مثقفي العالم وشعوبها، أن الغرب هو مركز العقلانية والقيم العلمية والاخلاقية، رغم أن أبشع جرائم العالم في التاريخ الحديث والمعاصر ارتكبها اوروبيون، الذين منهم الفاشيون والصهاينة، لكن ضحاياهم مختلفين.
صنعت المركزية الاوروبية أفكارنا عن الآخرين، وكذلك عن انفسنا. فنحن الشرقيون نرى أنفسنا بعيون غربية، ونرى الغربيين والعالم بنفس العيون.
نستخدم معايير الجمال الاوروبية، والمفاهيم الاوروبية، فنتحدث مثلا عن “اكتشاف” امريكا، وكأنها كانت ضائعة في الفضاء عندما غزاها الأوروبي الأبيض. ونتخيل المسيح وأمه مريم، تماما كما رسمهما الاوروبيون على شاكلتهم، ونعتمد مقياس الجريمة والإرهاب الذي وضعه الاوروبيون.
لقد تبنينا الخطاب الاستشراقي الغربي النمطي عن الشرق وعن العالم. فعندما نتحدث عن المجتمع الدولي لا يكون في ذهننا الا الغرب… تختفي الصين والهند وافريقيا وبقية العالم. وعندما نتحدث كأكاديميين عن المجلات العالمية، والجامعات العالمية، لا يأتي الى ذهننا الا المجلات والجامعات الاوروبية والأمريكية.
لقد فرض الغرب معاييره على بقية العالم، خاصة في الشرق، وفي كل المجالات. وكما قال وزير خارجية الهند، فإن الاوروبيين استطاعوا فرض رؤيتهم على الآخرين، حتى فيما يخص مشاكلهم، فمشكلة الأوروبي هي مشكلة غيره أيضا، هي مشكلة عالمية، بينما مشكلة الآخرين، مهما كبرت تعتبر مشكلة محلية، لا تعني الاوروبيين ولا بقية العالم.
لا يسعى هذا المقال الى استبدال المركزية الغربية بمركزية شرقية مضادة، أو الأصولية الغربية بأخرى شرقية، والأنانية الغربية بأنانية شرقية. لكن اعتماد معايير الغرب، خاصة السياسية والأخلاقية منها من قبلنا، تعبر بوضوح عن تسليم للهيمنة الفكرية الغربية ذات الجوهر العنصري.
لو أردنا الموضوعية في المقارنة بين الفاشية والصهيونية، فلن نجد فوارق جوهرية بينهما، لا في الحاضنة الفكرية القومية الاوروبية، المبنية على التفوق العنصري الأوروبي، ولا فوارق في نوع الجرائم التي ارتكبتها… الفرق الجوهري الوحيد هو “نوع” الضحية، فالفاشية ضحاياها من الاوروبيين “المتحضرين” البيض، بينما ضحايا الصهيونية هم الفلسطينيون والعرب والشرقيون إجمالا.
تعدد الأقطاب… تعدد المعايير
يسير العالم الآن بإتجاه تعدد الأقطاب. يتطلب هذا السعي لاعتماد أدوات وآليات ومقاربات مختلفة، تؤدي إلى تعدد المعايير في التقييم السياسي والأخلاقي للأمور وللأحداث؛ فمن غير المنطقي أن يتغير النظام السياسي الدولي، ويبقى النظام الأخلاقي كما هو أحاديا وعنصريا. لذلك لا داعي للجوء الى الفاشية لوصف الحالة الاسرائيلية، فهذا في بعض جوانبه يبدو كأنه تبرئة للصهيونية، وللفكر وللنظام الذي يتبناها.
في عصرنا هذا، وبعد تجربة الفلسطينيين والعرب والشرقيين واحرار العالم لأكثر من مئة عام، مع الصهيونية فكرا وسلوكا، فإن أحدا من هؤلاء ليس بحاجة لأكثر من الصهيونية نفسها كمقياس للتطرف والإرهاب والعنصرية واللا إنسانية.
عن القدس