الرؤى والسيناريوهات الإسرائيلية لمستقبل إدارة قطاع غزة بعد الحرب
مقدمة:
مع قرب انتهاء الشهر السابع من العدوان على غزة، تزايد الحديث الإسرائيلي عن جملة الخيارات المتوقعة لنهاية هذه الحرب، وفق الصيغة المتداولة المعروفة باسم “اليوم التالي”، وظهر الأمر كما لو أننا أمام “بازار” من السيناريوهات، المتوقعة منها والمأمولة وصعبة التحقيق.
وقد حفلت المراكز البحثية ووسائل الإعلام الإسرائيلية باستعراضٍ لجملة من خيارات “اليوم التالي” في غزة، لا سيّما مع إقامة الطريق القاطع وسط قطاع غزة، ومن أهمها إعادة إسقاط حماس، أو قدرتها على البقاء، واحتلال قطاع غزة كاملاً، والتواجد النسبي فيه لحاجات عسكرية عملياتية، وإعادة السلطة الفلسطينية “المتجددة”، على الرغم من الرفض الإسرائيلي “المؤقت” لها، واستدعاء قوات عربية ودولية، واستنساخ نموذج روابط القرى بالحديث عن العشائر.
هذا التقدير يناقش مختلف الخيارات، والمواقف الإسرائيلية المؤيدة لها والمعارضة، واستحضار سلبيات وإيجابيات كل منها: إسرائيلياً وفلسطينياً، وسط ترجيح أي منها الأكثر إمكانية للتطبيق على أرض الواقع، وكشف ما تمثله عن عمق الأزمة الإسرائيلية من مآلات الحرب التي لم تحقق أيّاً من أهدافها المعلنة، باستثناء تدمير القطاع.
مع أن هناك قراءات إسرائيلية كثيرة جداً حول مفردة “اليوم التالي”، مما يستدعي الإشارة لمجموعة المحددات والمتغيرات والتطورات التي حكمت سياسة الاحتلال في تحديد توجهاتها نحو ما تراه الخيار الأفضل بالنسبة لها، وما إذا أخذت أفكاراً محددة تقوّي خياراتها مع الزمن نتيجة التعامل الواقعي على الأرض، لا سيّما تطوّر مواقف الأطراف المعنية، بما فيها موقف حماس وقوى المقاومة، وقدرتها على إفشال مخططات الاحتلال، وفرض إرادتها، وما صاحب ذلك من اتجاهات الرأي العام الفلسطيني، خصوصاً قطاع غزة، بالاستفادة من استطلاعات الرأي العام الأخيرة.
كل ذلك يجعل من الأهمية بمكان ربط الحديث بـ”اليوم التالي” بخريطة موازين القوى والصراع الحالية داخل القطاع بعد مرور أكثر من مئتي يوم من الحرب، ومدى واقعية التطلعات الإسرائيلية، وتوضيح مختلف السيناريوهات المتوقعة، والسيناريو المرجّح، وأسباب ترجيحه دوناً عن سواه.
مع أن قطاعات من الإسرائيليين، وليس كلّهم، ينطلقون في الحديث عن “اليوم التالي” وهم يدعون أنفسهم للتحرر من الوهم القائل بأن هناك “حلاً سحرياً” لغزة في مرحلة ما بعد حكم حماس، إن تحقق فعلاً، لا سيّما وأن الاحتلال يواجه ضغطاً اقتصاديّاً كبيراً خلَّفته الحرب؛ إذ يُتوقَّع أن تصل خسائره لأكثر من 55 مليار دولار مع نهايتها، مما يستدعي فحص مجموعة من البدائل الممكنة بعد الحرب، والتوصل لنتيجة مفادها أن أي حلّ لمستقبل غزة لا يأخذ بعين الاعتبار نتائج الحرب المتمثلة سيبدو ليس ذا صلة.[1]
أولاً: المعضلة الإسرائيلية:
ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الإسرائيليون عن مسألة “اليوم التالي” في غزة بعد انتهاء الحرب، فقد شهدت العدوانات الإسرائيلية السابقة على القطاع، لا سيّما حربيْ 2008 و2014، تحديداً، نقاشات إسرائيلية مستفيضة عن مصير القطاع بعد إسقاط حكم حماس، خصوصاً وأن تلك الحربيْن شهدتا ضراوة في استخدام الكثافة النارية، وبدا أن لهما أهدافاً سياسية تتعلق بإيجاد منظومة سياسية وإدارية حاكمة تكون بديلاً لحماس.
الثابت في السجالات الإسرائيلية خلال السنوات الماضية أن فريقاً تصدّره كبار الضباط والجنرالات في المؤسستين الأمنية والعسكرية تمسّك بموقفه القائل أن وجود حماس “العدوّة” في غزة، أفضل من بدائل أخرى تصل في محصلتها النهائية إلى خيار الفوضى الأمنية على الحدود، في ظلّ بقاء الموقف السياسي على حاله برفض أي عودة للسلطة الفلسطينية للقطاع، رغبة بديمومة الانقسام الفلسطيني، الأمر الذي لم يمنح الخيارات الإسرائيلية بالحديث عن بدائل حماس مزيداً من فرص الحياة، وهكذا انتهت الحروب على غزة بالعمل على تفعيل سياسة “جزّ العشب”، و”المعركة بين الحروب”، والإبقاء على وضعية الحصار تحقيقاً لفرضية “غزة لا تحيا ولا تموت”.
لكن ما حصل في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 من هجوم واسع النطاق على فرقة غزة العسكرية وعلى مستوطنات غلاف غزة، عمل على إذابة الخلافات الإسرائيلية بين الساسة والعسكر، وعبّد الطريق أمام المستوى السياسي لطرح خياراته هذه المرة بقوة في مسألة “اليوم التالي”، واستبدال حكم حماس، وسط انخراط كامل من المستويين الأمني والعسكري مع هذه الدعوات، مع بقاء الاختلافات في بعض التفاصيل إبّان طرح أي خيار وبديل.[2]
هذا لا يعني أن الطريق باتت سالكة أمام إسقاط حكم حماس في غزة، والإتيان ببديل جاهز على المقاس الإسرائيلي، بدليل ما ستكشفه السطور القادمة، التي تؤكد أن مرور أكثر من مئتي يوم على بدء المقتلة الإسرائيلية في غزة لم تسفر عن خيارات قابلة للتطبيق، على العكس من ذلك، فكل خيار يطرحه الإسرائيليون يواجه بصعوبات جمّة، ذاتية وموضوعية، بما يؤكد أن الاحتلال لم يعد لوحده صاحب اليد الطولى فيما يتعلق بمستقبل القطاع، ومن سيدير شؤونه، الأمر الذي يعني بقاء المعضلة الإسرائيلية على ذاتها وهي تتناول خياراتها عن اليوم التالي: بين كون أحدها ممتازاً، والآخر سيئاً، والثالث ليس سيئاً، لكنه غير واقعي.
ثانياً: وثيقة نتنياهو وخيارات جالانت:
فيما بدا أنه عدم تحضير إسرائيلي جيد لليوم التالي في غزة بعد انتهاء الحرب، فقد كلّف بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu رئيس الحكومة، يوسي كوهين Yossi Cohen الرئيس السابق لجهاز الموساد Mossad بتقديم مقترحات حول هذا الأمر، وطلب منه تصميم ما يمكن وصفها بـ”رافعة دولية” من شأنها البحث في الخيارات الخاصة باليوم التالي في غزة، وقد نشط في اتصالاته الكثيرة، وزار دولاً في المنطقة، وقدّم مقترحات، لكن دون جدوى حتى الآن.[3]
تزامناً مع ذلك، ارتبط الحديث عن “اليوم التالي” للوضع في غزة بصورة عملية بوثيقة المبادئ التي قدمها نتنياهو في 2024/2/23، بعد أن منع مجلس الوزراء الأمني أو الحكومة من مناقشة الأمر عدة أشهر، وبقي المخفي منها يفوق المرئي فيها، واكتفى بعرض رؤيته بعبارات عامة، معظمها خالٍ من برامج التنفيذ.
لعل أهم ما جاء في وثيقة نتنياهو أن: يحتفظ الاحتلال بحرية العمل في غزة بأكملها، دون حدّ زمني، بغرض منع تجدد المقاومة، وإحباط التهديدات القادمة منها، وإنشاء مجال أمني فيها في منطقة الحدود مع الاحتلال، على أن تظلّ موجودة طالما أن هناك حاجة أمنية لها، وفي الجنوب يحافظ على السياج الحدودي بين غزة ومصر لمنع إعادة تكثيف العناصر المسلحة، مرتكزاً على إجراءات لمنع التهريب من مصر، تحت الأرض وفوقها، بما في ذلك عبر معبر رفح.[4]
على المستوى المدني، تسعى وثيقة نتنياهو للعمل على ضمان أن تكون المسؤولية عن إدارة شؤون القطاع من صلاحية مسؤولين محليين ذوي خبرة إدارية، وليسوا منتمين إلى دول أو جهات تدعم المقاومة، مؤكداً معارضته لإقامة دولة فلسطينية من جانب واحد، بالإضافة إلى استمرار الفصل بين الضفة وغزة، والتوضيح للفلسطينيين أن الظروف المعيشية في مناطق السلطة الفلسطينية، المتمسكة بتسوية سياسية مبنية على المفاوضات، أفضل من الحياة في غزة تحت حكم حماس، الساعية جاهدة لتدمير الاحتلال، وصولاً لعملية تبديل المناهج التعليميّة في المؤسّسات التعليميّة والثقافيّة لإجراء عملية غسيل دماغ للفلسطينيين.[5]
يكشف إلقاء نظرة فاحصة على وثيقة نتنياهو الخاصة بـ”اليوم التالي” في غزة، عن “عوار” كبير أصابها من حيث الشكل والمضمون، أولها؛ أنها تمثل قفزة في الهواء، وأنها أغفلت حقائق أساسية للواقع المعاش حالياً في غزة، وقدمت عناوين فضفاضة عائمة ليست محددة، وغير قابلة للقياس والتقييم، مما يجعلها أقرب ما تكون لشعارات سياسية حزبية تتسم بـ”البروباجاندا Propaganda” الشخصية الشعبوية.
وثمة تحفّظ ثانٍ حول الوثيقة؛ يتعلق بأن جيش الاحتلال لم يستطع بعد مرور الأيام المئتين على تنفيذه للمحرقة الرهيبة في القطاع أن يفرض سيطرته المبرمة عليه، أما ثالثاً؛ فهو أن الوثيقة لم تتم بالتشاور مع مختلف مراكز صنع القرار الإسرائيلي، لا سيّما المؤسستين الأمنية والعسكرية، التي لديها تحفظات على أي تواجد دائم للجيش في غزة، خشية أن يشكل استنزافاً مكلفاً له، بالإضافة إلى شركائه في مجلس الحرب الذين لا يخفون اختلافهم مع نتنياهو في المسار السياسي، خصوصاً العلاقة مع السلطة الفلسطينية، والحديث يدور هنا عن شريكيه الأساسيين بني جانتس Benny Gantz وغادي آيزنكوت Gadi Eisenkot، حتى أن وزير حربه يوآف جالانت Yoav Gallant يختلف مع رئيسه في ضرورة تواجد عناصر أمن تابعة للسلطة الفلسطينية في غزة.[6]
العَوَار الرابع المهم يحمل مغالطة لا تخطئها العين تتعلق بأن مزاعمه التي يسعى لترويجها بين الفلسطينيين ومفادها بأن حياتهم في ظلّ السلطة الفلسطينية “المسالمة” أفضل من الحياة تحت ظلّ حماس “المقاتلة”، ثبت بطلانها فعلياً، وإن تراءى للبعض أنها كذلك، بدليل أن حالة الاستباحة الأمنية الإسرائيلية للضفة الغربية، والتنكيل الذي يواجهه الفلسطينيون هناك، والاقتحامات المتواصلة لمدنها وقراها وبلداتها، تقدم العديد من الشواهد على عدم صوابية هذه المزاعم.
بالتزامن مع وثيقة نتنياهو، فقد كشف وزير الحرب يوآف جالانت عما أسماها أربع خيارات حول “اليوم التالي” لمستقبل غزة، وصف جميعها بأنها “سيئة”، لكنه رتبها من حيث شدة الضرر، من الأسوأ إلى الأقل سوءاً، زاعماً أن أسوأها هو بقاء سلطة حماس في أعقاب الحرب، وثانيها فرض نظام حكم عسكري إسرائيلي على غزة على الرغم من أنه سيُكلفها الكثير من حياة جنودها، وخسارة موارد وطاقات عسكرية كبيرة ستسحب من رصيد جاهزية الجيش على الحدود الشمالية وفي الضفة الغربية، وخيار ثالث غير مستبعد، لكنه أقل سوءاً من الخيارين السابقين، ويتمثل بانتشار الفوضى في غزة، ويتعلق الخيار الرابع الموصوف بأنه الأقل سوءاً بحكم قطاع غزة بواسطة كيان آخر محلي غير حماس، في إشارة إلى السلطة الفلسطينية.
تتلخص رؤية جالانت عن اليوم التالي في أنه لن تكون هناك حماس ولا إدارة مدنية إسرائيلية في غزة، فالحركة لن تسيطر على غزة، فيما يحتفظ جيش الاحتلال بـ”حرية التحرّك” في القطاع للحدّ من أيّ “تهديد” محتمل، وطالما أنّ سكان غزة فلسطينيون، فإنّ كيانات فلسطينية ستتولى الإدارة بشرط ألا يكون هناك أيّ عمل عدائي أو تهديد ضدّ “إسرائيل”، دون أن يحدّد الجهة الفلسطينية التي يتعيّن عليها، وفقاً لخطّته، أن تدير القطاع البالغ عدد سكانه 2.4 مليون نسمة.
تؤكد خيارات جالانت على عدم تدخل الاحتلال مدنياً وإدارياً في شؤون القطاع، هرباً من المسؤوليات والأعباء الاقتصادية والمالية، مع إسنادها لجهات فلسطينية توصف بأنها غير معادية للاحتلال، يوافق جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) Israel Security Agency—ISA (Shabak) عليها، وتتولى توزيع المساعدات، وفي الوقت ذاته، يؤكد جالانت على تولي إدارة شؤون القطاع من الناحية الأمنية، أي أن قوة إسرائيلية ستتدخل في أي وقت تريده عسكرياً داخل القطاع، والتحكم بمحور صلاح الدين “فيلادلفيا” بالتنسيق مع مصر للحيلولة دون تهريب الأسلحة من سيناء إلى داخل غزة.
ثالثاً: “بازار” الخيارات:
بالتزامن مع اندلاع العدوان الواسع، وغير المسبوق، على غزة، بدأ الإسرائيليون بالحديث عن جملة الخيارات الخاصة بالوضع الذي سينجم في غزة بعد الحرب، ويمكن الحديث أنها لم تصدر عن جهات رسمية بعينها في دولة الاحتلال، باستثناء وثيقة نتنياهو وتصريح جالانت آنفي الذكر، أما ما عداهما فقد نشرتها دوائر بحثية ودراسية، ومقالات مطولة لمسؤولين وجنرالات عسكريين وأمنيين سابقين، يمكن الحديث أنها استأنست بما لدى المؤسسات الرسمية من معطيات ووقائع، دون أن تضع توقيعها الرسمي عليها.
مع العلم أن ترويج الاحتلال لأي خيار سيأتي ذكره أدناه مرتبط بتلبيته لما يلي من المعايير، وهي: تحقيق أهداف العدوان؛ وتقليص اعتماد القطاع على الاحتلال؛ واحتمال تشكيل حكومة فلسطينية مركزية، واستعادة الأمن لمستوطني غلاف غزة؛ ما توصف بـ”الحرية التشغيلية” ضد التهديدات الأمنية؛ ومنع الأزمات الإنسانية في غزة؛ والاستعداد للمشاركة العربية والدولية للوضع في غزة، وتوفر إمكانات الموارد والتمويل لإعادة إعمارها.
هنا بالإمكان استعراض أهم السيناريوهات الإسرائيلية عن “اليوم التالي” في غزة على النحو الآتي:
السيناريو الأول: إسقاط حماس، ثم القبول ببقائها “ضعيفة”:
لم يكن مفاجئاً أن تعلن دولة الاحتلال في الساعات الأولى لاندلاع عدوانها على غزة أن هدفه الرئيس بجانب إعادة الأسرى لدى المقاومة هو إسقاط حكم حماس في القطاع، والقضاء على مقدراتها العسكرية والسلطوية، وأصبح هذا الهدف متلازماً أساسياً في كل خطابات القادة الإسرائيليين: ساستهم وعسكرهم وموجهو الرأي العام، ولذلك تمّ إسناد الجيش بدعم داخلي منقطع النظير على اعتبار أنه يخوض حرباً وجودية لا تشبه الحروب السابقة إلا حرب تأسيس الكيان سنة 1948، مما دفع بعضهم لوصف عدوان 2024-2023 بأنه “حرب الاستقلال الثانية”.[7]
استخدم جيش الاحتلال ترسانة عسكرية رهيبة، وارتكب مجازر دموية، وانتهك كل أعراف ومواثيق الحروب، رغبة منه بتحقيق الهدف أعلاه المتمثل بإسقاط حماس كلياً في غزة، وطيّ صفحتها، فيما تنازل الجمهور الإسرائيلي عن كثير من “خطوطه الحمراء”، وأهمها القبول بسقوط الكثير من جنوده في ساحات غزة، مقابل تحقيق ذلك الهدف الذي واجه منذ اللحظات الأولى صعوبات جمة في سبيل تحويله إلى هدف قابل للتحقيق على أرض الواقع، حتى إن تقديرات الاحتلال باتت تتحدث في الآونة الأخيرة بلغة الأرقام والنسب المئوية عن استهداف 70-50% من قدرات حماس العسكرية والحكومية، دون الوصول بعد أكثر من مئتي يوم من العدوان إلى مئة بالمئة من تحقيق ذلك الهدف، على الرغم من أنه بذل جهوداً توازي ألفاً في المئة، ولكن دون جدوى.
غني عن القول، أن فشل الاحتلال في مسعاه هذا الذي ساندته فيه قوى إقليمية ودولية تخلله مواجهة الفلسطينيين في غزة لأبشع أنواع العذاب، وأقسى صنوف المعاناة، بما لا يتسع المقام لذكره في هذه العجالة، لكن اللافت فيه أنه بعد مرور عدة أشهر من العدوان ما زال الفلسطينيون يمنحون ثقتهم بحماس وفقاً لنتائج استطلاعٍ للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية في رام الله، في آذار/ مارس 2024 للكشف عن آرائهم حول الحرب، وكشف أن 69% منهم في الضفة و56% من غزة يعتقدون أن حماس ستنتصر في نهاية الحرب، واعتقد 64% منهم في الضفة و52% من غزة أن حماس ستستمر في السيطرة على القطاع بعد انتهاء الحرب، وأعرب 66% منهم في الضفة و59% من غزة عن تفضيلهم بأن تكون حماس هي التي تحكم في اليوم التالي.[8]
تستدعي هذه المعطيات التي صدمت الإسرائيليين وفاجأت الفلسطينيين في الوقت ذاته، أن تأخذ عملية صنع القرار الإسرائيلي على المستويين السياسي والعسكري بعين الاعتبار الأسباب الكامنة وراء شعبية حماس في الأراضي الفلسطينية، على الرغم من ما يعانيه الفلسطينيون من محرقة مسّت كافة أشكال حياتهم، وأعادت إلى أذهانهم ما واجهه أجدادهم من نكبة 1948 تبدو صورة مصغرة فيما واجهوه في نكبتهم الجديدة لسنتَي 2024-2023.[9]
اليوم، وبعد تراجع الحديث الإسرائيلي عن القضاء المبرم على حماس كلياً في غزة، باتت المطالبات تتعلق بضرب قدراتها العسكرية بحيث لا تشكل تهديداً على غرار تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والحيلولة دون أن تعود حاكمة في غزة، وتقلصت سلة أهداف الاحتلال من اعتبار كل عضو في حماس يحمل شهادة وفاته بيده إلى استهداف العناصر العسكرية المقاتلة، وكلها تراجعات في القول والفعل لا تخطئها العين، وتعبر عن فشل حقيقي في تحقيق أهم أهداف الحرب.
تكشف هذه الوقائع عن عدم قدرة الجيش على النيل من حماس، كلّ حماس، التي تظهر قواتها بعد كل انسحاب له من أي منطقة في القطاع، بل وتواصل إطلاق الصواريخ نحو الداخل المحتل من قبل مناطق أعلن الاحتلال فرض سيطرته الكاملة عليها، وتعيد نشر قواتها الأمنية والمدنية فيها، مما منح مصداقية لبعض الأصوات الإسرائيلية التي أكدت أن هدف القضاء على حماس بحاجة إلى عشر سنوات على الأقل، وآخرون عدّوه هدفاً “طائراً في الهواء”.[10]
اليوم يبدو أن التوجه الإسرائيلي يقضي بقبول اضطراري لحماس في غزة، بعد فشل القضاء عليها، على أن تكون ضعيفة تعاني من قضم كثير من قدراتها. ويسعى التوجه ألا تكون حماس في صدارة المشهد السياسي والحكومي في القطاع، وهي مسألة قابلة للنقاش في الأساس لدى حماس نفسها حتى قبل اندلاع هذا العدوان الدموي، بمعنى أن الاحتلال لم يخترع العجلة في هذا التوجه الجديد الذي وصل إليه مجبراً بعد إخفاقه بتحقيق هدفه الأول أعلاه.
أما بالنسبة لحماس، فبالرغم من التضحيات و”الخسائر” العظيمة في قياداتها ورموزها وكوادرها، فإنها ما زالت التنظيم الأقوى على الأرض والأكثر شعبية في قطاع غزة. وإن أداءها العسكري القوي وصمودها البطولي ومهارتها السياسية وتماسكها التنظيمي، مع تزايد التفاف الشعب الفلسطيني حول خط المقاومة، يعطي حماس فُرصاً أكبر لسرعة التعافي، وإعادة ترتيب صفوفها، بالاستفادة من التجربة التاريخية لمعركة طوفان الأقصى وما تلاها.
السيناريو الثاني: التهجير الطوعي بعد فشل القسري:
لم يخفِ الإسرائيليون منذ لحظات العدوان الأولى أن توجههم يقضي بتهجير أكبر عدد ممكن من مواطني قطاع غزة إلى خارجه، لا سيّما باتجاه مصر ودول أخرى، رغبة بإعادة هندسة القطاع جغرافياً وديموجرافياً، بغرض عدم تكرار الواقع السائد فيه طوال العقود الماضية، وحرمان المقاومة من مواقعها وأماكن تمركزها التي خدمتها في سبيل إقامة جيش شبه نظامي في القطاع.
انطلقت الدوائر الإسرائيلية بوضع المخططات التهجيرية، وتقديراته المالية، وصولاً لتوزيع أعداد الفلسطينيين المهجّرين من غزة إلى كل دولة بعينها، ومطالبة الولايات المتحدة بالضغط على دول بعينها، لا سيّما مصر، للقبول بنصيب الأسد منهم، وفي سبيل ذلك تركز الجهد العسكري الدموي الإسرائيلي على فلسطينيي مدينة غزة وشمالها بحيث يكونون الدفعة الأولى في مسلسل التهجير القسري، لكن ما حصل طوال الشهور الماضية من تشبثهم بأراضيهم على الرغم من ما واجهوه من حرب إبادة حقيقية أفشل توجهات الاحتلال بصورة كاملة، وانتقلت آلته الدعائية من الحديث عن التهجير القسري إلى التهجير الطوعي في مرحلة ما بعد انتهاء العدوان ضمن مخططات “اليوم التالي”.[11]
المراد بالحديث الإسرائيلي عن التهجير الطوعي لفلسطينيي غزة يتعلق باستمرار معاناتهم الإنسانية والظروف المعيشية الطاردة فيها لإجبارهم على الخروج منها عبر معبر رفح، وإمكانية استخدام الرصيف البحري على شواطئ في غزة لهذا الغرض، بجانب جلبه للمساعدات الإنسانية، مع أن عدداً تقديرياً لمن خرج من الفلسطينيين عبر معبر رفح حتى نهاية نيسان/ أبريل وصل 100 ألف مسافر، دفع نصفهم تقريباً مبلغ خمسة آلاف دولار على الأقل لكل واحد منهم لشركات تنسيق مصرية لتسهيل سفرهم عبر المعبر في ظلّ إغلاقه أمام من لا يملك المبلغ، وهو استنزاف مالي لم يتوقف حتى كتابة هذه السطور بلغ بصورة تقديرية 250 مليون دولار، على الرغم من سيل المناشدات الفلسطينية والدولية للسلطات المصرية لوقف هذا الابتزاز الذي تمارسه تلك الشركات.[12]
لا يتوفر حتى الآن، وفق المصادر العلنية المكشوفة، مخططٌ إسرائيليٌ بعينه حول كيفية تسهيل الهجرة الطوعية من غزة إلى الخارج في مرحلة “اليوم التالي” بعد انتهاء الحرب، لكن التقدير أنه في حال لم تبدأ عملية إعادة إعمار غزة على الفور، واستمرت معاناة النازحين في مخيمات الإيواء، ضمن خطة إسرائيلية دولية محكمة عنوانها “دعوا الجراح تتعفن”، فإن ذلك من شأنه زيادة البيئة الداخلية الضاغطة باتجاه الخروج من غزة بحثاً عن مصدر رزق كريم، أو ظروف حياة أفضل، مع توقع باستقبال عدد من الدول للفلسطينيين من فئة الشبان وذوي الكفاءات العلمية المطلوبة. ولكن في حال بدأت المعونات المالية والمساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار فإن ذلك قد يشكل للفلسطينيين فرصاً لتعزيز بقائهم في غزة، وعدم هجرتهم منها، وهذا يُعدّ إفشالاً للمخطط الإسرائيلي من جديد، وهو ما يجب أن تعمل عليه الأطراف الفلسطينية الحريصة على إبقاء الفلسطينيين في أرضهم.
السيناريو الثالث: احتلال غزة، وبقاء قوات الجيش فيها فترة طويلة، وإقامة إدارة مدنية أو حكم عسكري:
ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها الاحتلال عن عودته مجدداً للقطاع بعد انسحابه منه في سنة 2005، وإن كان هذه المرة يبدو مدفوعاً بالكارثة التي حلّت به في 2023/10/7، وانطلاقه من رغبات انتقامية للاقتصاص من مقاتلي حماس الذين وجّهوا ضربة غير مسبوقة لجيشه، بالإضافة إلى اتساع رقعة التأييد الإسرائيلي لهذا الخيار، على الرغم من كلفته وثمنه الباهظ، لاعتقادهم أنه لا بدّ من اجتياز هذا الخط الأحمر لاقتلاع شوكة المقاومة في غزة، واستئصال شأفتها، وفقاً للتعبير الإسرائيلي القائل بـ”عدم تكرار تهديد تشرين الأول/ أكتوبر”.[13]
تجدر الإشارة أن المحاذير ذاتها التي سادت في سنوات سابقة لدى الإسرائيليين من مغبة دخول “حقل الألغام” في غزة، ظلّت ماثلة لديهم هذه المرة، لا سيّما وأن أعداد قتلاهم فيها ظلَّ متصاعداً في ضوء المعارك الضارية مع المقاومة، مما يعني تصاعد الأعداد إذا بقوا هناك، ويُعيد للأذهان الواقع الدامي الذي عاشوه في مرحلة ما قبل الانسحاب منها حين عادت التوابيت السوداء كل يوم إلى تل أبيب قادمة من غزة. ولذلك ظلَّ احتلال القطاع كاملاً أمراً مستبعداً من المستويات السياسية والعسكرية العليا، كما كان مرفوضاً طوال الفترة الماضية، لكثير من العوامل التي تتصدرها عدم رغبته بالمسؤولية عن حياة أكثر من مليونيْ فلسطيني، والحيلولة دون التورط في هذا “المستنقع” الغزي.
بلغة الأرقام، فإن إجراء حساب تقريبي لأرقام كلفة الحكم العسكري في الأراضي الفلسطينية المحتلة في نهاية حرب 1967، مع تعديلها بما يتناسب مع واقع سنة 2024، والسيطرة على نحو مليونيْ فلسطيني، يشير أن المبلغ يصل 4 مليارات شيكل سنوياً، ما يزيد عن مليار دولار بقليل، وهو مبلغ يستطيع الاحتلال تحمّله، لكنه سيأتي من جيب دافع الضرائب، الذي سيجد مليارات الشواكل يتم إنفاقها على الشؤون الخدماتية في قطاع غزة من خزينة الكيان، بما فيها مئات الموظفين الجدد في الإدارة المدنية، وقادة المناطق، وضباط الأركان، والقوات المقاتلة، وغيرهم.[14]
في الوقت ذاته، صحيح أن الاحتلال الكامل للقطاع ليس هدفاً معلناً لحكومة نتنياهو أو له شخصياً، الذي ينفي رغبته به، لكن سياسته، أو بالأحرى افتقار حكومته للسياسة المتعلقة باليوم التالي، قد تقود الحكومة والجيش ميدانياً إلى احتلال القطاع، وهو ما تحذر منه أوساط إسرائيلية عديدة تواصل إصدار البطاقات الحمراء أمام نتنياهو وفريقه بعدم تكرار ما حصل في جنوب لبنان سنة 1982، وبقي ينزف الاحتلال فيه طوال 18 عاماً حتى حصل الانسحاب القسري المهين في صيف سنة 2000.
في الوقت ذاته، فإن هذا الخيار غير المرغوب لدى قطاعات إسرائيلية واسعة، قد يكتسب هذه المرة إسناداً في أوساط عسكرية وأمنية خارج إطار الخدمة النظامية، ممن يزعمون أن الإسرائيليين لديهم قدرة على تحمّل الأثمان المتوقع دفعها خشية من تكرار هجوم تشرين الأول/ أكتوبر 2023، مما قد يدفع لتحقيقه في ظلّ حكومة يمينية محكوم رئيسها بقيود شركائه الذين لا يخفون رغبتهم بالعودة للاستيطان في غزة مجدداً، بالإضافة إلى رغبته بإطالة أمد الحرب لاعتباراته الشخصية والحزبية.
مع أن ما شهدته الأسابيع الأخيرة من عودة لمقاتلي حماس إلى المناطق التي شهدت انسحاباً إسرائيلياً من مناطق مختلفة، خصوصاً في شمال القطاع، قد “يستفزّ” الإسرائيليين، بمن فيهم كبار الجنرالات الذين لا يبدون تحمّساً لخيار إعادة الاحتلال، لكن ما تظهره الحركة من قدرات سيادية، سواءً في شكل الشرطة أم قوات الأمن أم المؤسسات المدنية لإدارة توزيع المساعدات الغذائية، حيث ينتشر رجالها الأمنيون بملابس مدنية، يؤكد اتجاهها الواضح بأنها ستعود لأي مكان ينسحب منه الجيش، للتأكيد أنه ليس هناك بديل عنها، وهي القوة الفعلية المتاحة الموجودة على الأرض.
في الوقت ذاته، يطرح مثل هذا الخيار الخطير على الإسرائيليين الأسئلة القديمة الجديدة المتعلقة بـ:
- تحول جنودهم إلى مرمى الاستهداف الدائم للمقاومة، على الرغم من تضررها كثيراً في الحرب الجارية.
- الكلفة المالية والإدارية التي تخلص منها الاحتلال منذ الانسحاب الأول من القطاع في سنة 1994.
- هذا الاحتلال الكامل لا يقدّم الإجابات المرجوة للإسرائيليين عن التخلّص من تهديد المقاومة، مرة واحدة، وإلى الأبد، خصوصاً مع استمرار المقاومة المسلحة في الضفة الغربية بوجود الاحتلال.
- ارتباط مثل هذا الخيار بعودة “التنميط” الإسرائيلي حول العالم كدولة احتلال، وهو ما حاولت التَّهرب منه، بخروجها من القطاع مع إبقاء الحصار، وعودة المطالبات الدولية بفرض عقوبات عليها، ومحاصرتها، ومنع التعامل معها، وزيادة عزلتها.
- مثل هذا الخيار سيباعد فعلياً من فرص استئناف مسار التطبيع الإسرائيلي مع دول عربية وإسلامية جديدة، خصوصاً السعودية.
السيناريو الرابع: البقاء العسكري “المؤقت” في غزة لتنفيذ بعض المهام العملياتية:
شهدت الشهور الستة الماضية ضمن السياق العملياتي فرض الاحتلال لبعض الحقائق في غزة لحاجات ميدانية آنية، قد تمتدّ تدريجياً لتواجد عسكري دائم، غير معلن، ومنها:
- المنطقة الأمنية العازلة شرق وشمال القطاع بعرض كيلو متر واحد من بيت حانون إلى رفح، لوضع مزيد من الصعوبات أمام إطلاق القذائف الصاروخية باتجاه مستوطنات الغلاف، والحيلولة دون تكرار سيناريو اختراق الحدود.[15]
- إقامة الطريق القاطع وسط القطاع الواصل بين شرقه وغربه من منطقة شمال وادي غزة المعروفة سابقاً باسم مستوطنة نتساريم، سواء لمنع عودة فلسطينيي شمال القطاع من جنوبه، أم الحدّ من تحركات المسلحين بين شقّي القطاع: شماله وجنوبه.
- التلويح بتواجد عسكري في محور صلاح الدين “فيلادلفيا” جنوب القطاع، واحتمالية السيطرة على معبر رفح خلال عملية اجتياحها، بغرض فرض مزيد من الإجراءات الأمنية الاحترازية لمنع تهريب الأسلحة والمقاتلين والمعدات، تحت الأرض وفوقها.
هنا يمكن الحديث عن خلاف مباشر بين مصر والاحتلال حول تشديد سيطرته على محور فيلادلفيا الحدودي، بزعم أنه ضروري لإحباط التعزيز العسكري المتجدد لحماس في غزة، وقد قوبل تصريح نتنياهو بشأن ضرورة السيطرة عليه بانتقادات حادة في مصر، باعتباره انتهاكاً للملحق العسكري لاتفاق “السلام”، وقد رفضت مصر حتى الآن طلبات الاحتلال لوضع أجهزة استشعار تحذيرية على طول المحور لمراقبة أنفاق التهريب.[16]
تُشكّل مثل هذه الوقائع التي فرض الاحتلال الأول والثاني منها، ويسعى لتحقيق الثالث في حال تمّ تنفيذ عملية رفح، تحدّياً حقيقياً أمام الفلسطينيين عموماً، والمقاومة بشكل خاص، لأنها أعادت التاريخ للوراء سنوات طويلة، بعد أن نجحت في “تطهير” القطاع من الاحتلال كلياً في سنة 2005، وجعلت أرضه محرّمة على جنوده، الأمر الذي يضع أعباءً كبيرة عليها اليوم: سياسية وأمنية وشعبية، بعد أن كاد الفلسطينيون ينسون مشاهد الحواجز المنتشرة في القطاع، لا سيّما “محفوظة” بين وسط القطاع وجنوبه عند خانيونس، و”أبو هولي” عند دير البلح، و”نتساريم” جنوب مدينة غزة، وهي التي شكّلت مصائد أمنية خطيرة للفلسطينيين.
صحيح أن هذه الوقائع العسكرية على الأرض قد تُشكّل مصادر استنزاف للاحتلال، على صعيد قنص جنوده، او استهداف مواقعه بقذائف الهاون، أو حفر الأنفاق من تحتها، كما دأبت المقاومة على ذلك إبان احتلال غزة قبل سنة 2005، ولكنها في الوقت ذاته تحقق للاحتلال مصالح أمنية أبرزها:[17]
- فرض واقع جديد أمام المقاومة لم تتحسّب له جيداً، سيستدعي منها إعادة حساباتها من جديد في التعامل مع هذه الوقائع المستجدة، في حال تحوّلت أمراً ثابتاً.
- الضغط الميداني على المقاومة من حيث الحدّ من تحركات أفرادها، ونقل معداتهم بين مناطق القطاع، وجعلهم تحت استهداف المخابرات الإسرائيلية.
- استعادة أجهزة أمن الاحتلال لتواصلها الأقل كلفة والأكثر إتاحة مع شبكات عملائها في القطاع، بعد الصعوبات التي واجهتها خلال فترة الانسحاب منه.
- محاولة استنساخ الواقع الأمني الصعب في الضفة الغربية، بما يحقق للاحتلال أكبر سيطرة أمنية وعسكرية على القطاع، لا سيّما بعد أن نفذ في الأسابيع الأخيرة عمليات “حلاقة” واسعة النطاق في المناطق الأمنية العازلة والطريق القاطع وسط القطاع من خلال نسف مئات المباني والمنشآت، في منطقة مخيمات اللاجئين وسط القطاع، وتحديداً النصيرات والمغراقة، بحيث باتت المناطق المحيطة بها مكشوفة كلياً.[18]
- مثل هذا التواجد “المؤقت” قد يحقق للاحتلال ما يعلنه من مزاعم عن “إزالة” التهديد العسكري للمقاومة حتى إشعار آخر، وقد يجد مثل هذا الشعار تبنّياً من قبل قطاعات واسعة من الشارع الإسرائيلي، بالإضافة إلى المؤسسة العسكرية والأمنية التي تجده خياراً أقل كلفة من إعادة الاحتلال الكامل للقطاع.
مع العلم أن نموذج العمل الإسرائيلي المتوقع في غزة وفق نمط التواجد العسكري “المؤقت” يتركز في تفكيك وتدمير آليات حماس العسكرية والحكومية، وصولاً إلى نزع سلاحها وجمع وسائلها القتالية، واقتصار حمله على قوات الاحتلال فقط، مروراً بإنشاء الإدارات المحلية، والبدء في بناء الإدارات في عدة وحدات جغرافية منفصلة حسب توزيع الفلسطينيين في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب.
غير أن الوجود العسكري المحدود والمؤقت يظل محفوفاً بالمخاطر، فإذا ما حافظت المقاومة على فاعليتها، فليس من الصعب عليها أن تحول هذا البقاء إلى “جحيم” مع صعوبة البقاء في العديد من أماكن التواجد.
في الوقت ذاته، فإن مثل هذه الترتيبات الأمنية الإسرائيلية المتوقعة في غزة تكشف عن خلافات ناشئة مع الحلفاء، فالإدارة الأمريكية تريد الحفاظ على مساحة أراضي قطاع غزة كما هي، وتعارض أي تغييرات يجريها الاحتلال بالفعل في المنطقة، بما في ذلك إنشاء “المنطقة” الأمنية العازلة على بعد كيلومتر واحد من أراضي القطاع على طول الحدود مع “إسرائيل”.[19]
وهناك خلاف أمني آخر يتعلق بمحور فيلادلفيا، حيث تظهر مصر معارضتها لأي تواجد إسرائيلي، حتى لو كانت بزعم الأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الأمنية الحيوية للاحتلال.
السيناريو الخامس: إعادة القطاع لسيطرة السلطة الفلسطينية “المتجددة”:
هذا هو الاتجاه الذي تميل إليه الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية والغربية هذه الأيام، وبعض الأوساط الإسرائيلية، خصوصاً المشاركة في مجلس الحرب، لا سيّما جانتس وآيزنكوت، وربما جالانت، الذين لا يخفون اعترافهم بما تقدمه السلطة للأمن الإسرائيلي في الضفة، وبلغة الحقائق والأرقام والمعطيات الميدانية، ويعتقدون أن عودتها لغزة كفيلةٌ بتحقيق الأمن السائد للاحتلال في الضفة من خلال توسيع رقعة التنسيق الأمني ليشمل القطاع.
فيما أعلن مستشار مجلس الأمن القومي الإسرائيلي National Security Council (NSC) تساحي هنغبي Tzachi Hanegbi أنه بعد “تخليص” غزة من حماس، يجب تسليم السيطرة على الأرض للسلطة الفلسطينية، دون أن يكون ذلك هو الموقف الرسمي لـ”إسرائيل”، لأن أغلبية واضحة من حزب الليكود Likud الحاكم تعارض هذا الخيار، وكذلك تستبعده تماماً أحزاب الصهيونية الدينية Religious Zionism والقوة اليهودية (عوتسما يهوديت Otzma Yehudit) اليمينية المتطرفة في الائتلاف الحاكم.[20]
بصورة إجمالية تعارض الحكومة الإسرائيلية الحالية إمكانية قيام السلطة الفلسطينية بدور في غزة، في ظلّ غياب “إصلاحات عميقة” داخل صفوفها تتناسب مع المعايير الإسرائيلية، التي تحولها بشكل مكشوف إلى سلطة عميلة، على الرغم من أن جميع المبادرات المطروحة حتى الآن تدعو لإعطائها دوراً مركزياً في مستقبل القطاع.
السلطة الفلسطينية المدعوّة للسيطرة على غزة وصفها الرئيس الأمريكي جو بايدن Joseph Biden بـ”المتجددة” أو “المنشّطة”، شكلت حكومة جديدة برئاسة محمد مصطفى المقرّب من الدوائر الأمريكية والدولية، مما يُعيد للأذهان المطالب ذاتها، التي أعقبت عملية “السور الواقي” في الضفة الغربية، وبموجب دعوة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن George W. Bush لتشكيل قيادة فلسطينية جديدة، تمّ تشكيل حكومة برئاسة سلام فياض، والإعلان عن جملة إصلاحات مالية وقضائية فيها، وبموجب ذلك تلقت المزيد من المساعدات الدولية.[21]
اليوم في سنة 2024 يبدو الوضع مشابهاً لما كان عليه في سنة 2002، مع بعض الاختلافات والتباينات، أهمها:
- المقاومة في غزة اليوم لم تستسلم أمام الاحتلال على الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمتها، وهي تواصل رفضها لأي تدخلات إقليمية ودولية في الشأن الفلسطيني.
- عدم تَحمُّس السلطة الفلسطينية في رام الله للعودة إلى غزة، طالما أن المقاومة ما زالت هناك قائمة، مما يفرض عليها تحديات أمنية ترى نفسها في غنى عنها، على الرغم من أنها حاولت إرسال بعض عناصرها الأمنيين بالتنسيق مع مصر ومع الاحتلال لإدخال المساعدات للقطاع، لكن أمن حماس اعتقلهم، وهناك تقارير غير موثقة تتواتر عن وجود مئات من عناصر السلطة الأمنية قيد التجهيز في الأراضي المصرية بانتظار دخولهم إلى غزة من بوابة رفح.
- غياب توافق دوائر الاحتلال على عودة السلطة إلى غزة، خصوصاً نتنياهو وشركائه اليمينيين الذين يخشون من تبعاتها السياسية، لأنه يفسح المجال مجدداً للحديث عن دولة فلسطينية تتعارض مع برنامجهم السياسي الرافض لها، ولذلك يصف العديد من صناع القرار الإسرائيليين هذا الخيار بـ”السيء”؛ خوفاً من أن يؤدي إلى توحيد الفلسطينيين تحت قيادة مشتركة (بغض النظر عن مدى تعاونها مع الاحتلال)، وهذا من شأنه أن ينعش إمكانية إجراء مفاوضات سياسية، وينهي “اعتذارية” الانقسام التي استخدمها الإسرائيليون لخدمة أجندتهم منذ سنة 2007.
في الوقت ذاته، فإن السلطة التي يبدو أنها “تخلصت” من عبء إدارة غزة منذ سيطرة حماس عليها في سنة 2007، لا تبدو متحمسة للعودة إليها، سواء رغبة منها بعدم ابتلاع السكِّين من جديد على صعيد الأعباء الاقتصادية والمعيشية، أم لقناعتها أنها لا تتمتع بشعبية أبداً في غزة وفق استطلاعات الرأي المتواترة.
وبخلاف رؤية نتنياهو، فإن عودة السلطة الفلسطينية “المتجدّدة” إلى السلطة في غزة هي الخيار المفضَّل للولايات المتحدة والدول العربية، وتحديداً مصر والأردن والسعودية، لأن من مزايا هذا البديل؛ أنه يمكن تنفيذه بسرعة، ويحظى بدعم ومساندة المجتمع الدولي، ويتكامل مع عملية التطبيع بين الاحتلال والسعودية، وتشكيل بنية إقليمية جديدة لمواجهة المحور الإيراني، وكل ذلك سعياً لتحقيق الاستقرار في غزة في أسرع وقت ممكن.
السيناريو السادس: تعزيز السلطات المحلية، ودور العشائر:
فيما يعلن الاحتلال رسمياً أنه لا ينوي السيطرة على غزة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب، وفي الوقت ذاته يعارض بشدة عودة حكم حماس فيها، لكن فيما يتعلق بـ”اليوم التالي”، فإن رسائله تبدو غامضة، وليس من الواضح ما الذي يشير إليه بالضبط بشأن تفضيله للعناصر المحلية التي ستدير شؤون الحياة اليومية في غزة، وبالتالي تملأ الفراغ الذي ستتركه حماس وراءها، وهو طرح يتجدد باعتباره فكرة لجأت إليها الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، بعد سقوط الأنظمة الحاكمة هناك.[22]
منذ شروع الاحتلال في مرحلته الثانية من عدوانه الدموي على غزة، أوائل سنة 2024، بدأ حديثه عن استبدال العشائر والعائلات الكبيرة بحكم حماس، وقد بدأ الأمر باستلامها للمساعدات الإنسانية الغذائية، مروراً باتصال المخابرات الإسرائيلية بكبار المخاتير، الذين ردّوا بالإجماع رافضين أي تعاون معها، وتأكيدهم على التصاقهم بالحركة الوطنية، مما دفع الاحتلال لاستهدافهم بالاغتيال.[23]
في الوقت ذاته، ليس خافياً أن الاحتلال وهو يسعى لتشجيع ظهور قيادات محلية، ومنها العشائر، يريد إدخالهم في مواجهة خاسرة أمام حماس، والعمل على زراعة بذور حرب أهلية داخلية ومواجهة فلسطينية محلية من شأنها استنزاف المقاومة في معركة لا تريدها، وتشغلها عن مهمتها الأساسية بمواجهة الاحتلال، مما جعل مثل هذا السيناريو مآله الفشل الذريع في ضوء تنبّه الجانبيْن، المقاومة والعشائر، لمثل هذا المخطط الدموي، لا سيّما وأن جزءاً أساسياً من كوادر وقيادات المقاومة هم في الأساس أبناء لعائلات غزة وعشائرها، وهم الذين قضوا بأنفسهم على نفوذ العديد من العائلات التي أرادت تحدي المنظومة الأمنية التي أقامتها حماس في سنة 2007 إبّان سيطرتها على القطاع.
تجدر الإشارة أن “عرّاب” هذا الخيار هو المستشرق اليميني مردخاي كيدار Mordechai Keda الداعي منذ سنوات لاستبدال نموذج السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة بنموذج “الإمارات الفلسطينية المتحدة”، مع بعض التغييرات والتوضيحات المهمة لتصل في نهايتها إلى نموذج روابط القرى التي أعلنت وفشلت في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين.[24]
السيناريو السابع: استدعاء قوات عربية ودولية:
عديدة هي الطروحات الإسرائيلية التي تحدثت عن إحضار قوات عربية ودولية للعمل في قطاع غزة في مرحلة ما بعد إسقاط حماس، تتركز مهمتها في حفظ الأمن على الحدود بين غزة والاحتلال، أو إدارة الشأن العام في القطاع، في محاولة لا تخطئها العين لعدم إيجاد قوات فلسطينية للإبقاء على حالة الانقسام، والحيلولة دون صدور دعوات لإقامة الدولة الفلسطينية، ولرفع الحرج عن سلطة رام الله في عدم استلام إدارة غزة من الإسرائيليين مباشرة في حال سيطرتهم؛ حتى لا يظهروا وكأنهم جاؤوا على ظهر دبابة إسرائيلية.
في مثل هذه الحالة، تقترح محافل إسرائيلية نشر قوة حفظ سلام عربية ودولية في غزة بعد انسحاب جيش الاحتلال، تكون مسؤولة عن إدارة الحياة المدنية بموجب تفويض الأمم المتحدة United Nations (UN)، ثم تشكيل مجلس انتقالي مشترك، يتولى، حتى إجراء الانتخابات؛ مسؤولية إعادة إعمار القطاع، مع توفر رغبة إقليمية ودولية بتعزيز العناصر “المعتدلة”، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية، ورغبة إسرائيلية لإفساح المجال أمام المزيد من النفوذ العربي والإقليمي في غزة على حساب كسر ما يوصف بـ”الاحتكار” القطري للوضع في غزة.
في مثل هذه الحالة يدور الحديث عن سيناريو التدويل، سواء بإحضار قوات أمنية عربية ودولية، أم قوات حفظ السلام وفضّ النزاعات، للقيام بمهام أمنية، واستدعاء مؤسسات دولية لتنفيذ مهام إنسانية معيشية سواء بجانب وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا)The United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA)، أم بدلاً عنها، ومنها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) The United Nations (UNICEF)Children’s Fund وبرنامج الغذاء العالمي World Food Programme ومفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين The UN Refugee Agenc (UNHCR) وسواها التي لم تسلم من الاستهداف الإسرائيلي، كما حصل مع موظفي مؤسسة “المطبخ المركزي العالمي World Central Kitchen”، الذي قتل طيران الاحتلال عدداً منهم، مما استدعى صدور ردود أفعال دولية واسعة النطاق.
في الوقت ذاته، فإن التوجه الإسرائيلي لاستدعاء قوات عربية ودولية لا يحظى بكثير من الإجماع في المؤسسة العسكرية والأمنية بزعم عدم وجود تجارب ناجحة لها، والادعاء بأن حماس قد تستطيع التعامل معها بطريقة تخدم مصالحها، كما هو حال حزب الله مع قوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) Unite United Nations Interim Force in Lebanon (UNIFIL) في جنوب لبنان، وعدم ثقة الاحتلال بقدرة القوات الدولية على حفظ أمنه كما يقوم هو بذلك.
مع أن استعراض الخيارات الإسرائيلية عن “اليوم التالي” في غزة، بغض النظر عن فرص تحقيق أي منها، يستحضر مزاعم رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي بشأن “وجود مكان لشركاء إقليميين في إعادة إعمار غزة لخلق واقع جديد، حيث سيتطلب الأمر تشكيل قوى إقليمية ودولية من أجل الحفاظ على النظام، وفرض القانون في القطاع”، لكن الولايات المتحدة أوضحت، في محادثاتها مع دول المنطقة، أنها غير راغبة بإرسال قوات شرطة أو جيش نيابة عنهم للقطاع كجزء من قوة حفظ سلام دولية، دون استبعادهم لذلك بشكل قاطع مقابل شروط مختلفة، بما في ذلك إطلاق عملية السلام، التي يكون هدفها إقامة دولة فلسطينية.
الأهم من الاعتبارات الإسرائيلية، أن الدول التي قد تُدعى لإرسال قواتها الأمنية إلى غزة تخشى من الاستمرار في التواجد فيها حتى إشعار آخر، بما يتعارض مع توجهاتها السياسية المعلنة التي تؤكد على ضرورة تواجد السلطة الفلسطينية في القطاع باعتبارها صاحبة الولاية الجغرافية عليه، وخشيتها أن تخدم توجهات الاحتلال بالقفز عن السلطة، وإماتة الحل السياسي الذي يكمن قطاع غزة في القلب منه، وإدراكها أن أي خطوة من هذا النوع قد تطوي صفحة العملية السياسية برمّتها، بما يتعارض مع مواقفها الداعمة دوماً لاستمرار مسيرة التسوية واستئناف المفاوضات.[25]
الخلاصة، أن هذه الدعوات لاستقدام قوات عربية ودولية لم تجد طريقها للتجاوب، حتى الآن، من مختلف الأطراف المقصودة، لأكثر من سبب يخصّ كلاً منها، لعل أولها رغبتها بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للساحة الفلسطينية قناعة منها بأنها مستنقع سيكون صعباً الخروج منه بعد التورط فيه، ثانيها المواقف الصارمة التي أصدرتها المقاومة، واعتبارها لأي قوات تدخل إلى قطاع غزة بوصفها قوات احتلال، والتعامل معها انطلاقاً من هذا التوصيف، وثالثها عدم رغبتها بتخليص الاحتلال من أزمته الداخلية مع غزة، ومكافأته على ما ارتكب من مجازر ومذابح بحقّ الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته عدم استعداده للتجاوب مع الأطروحات السياسية التي تطرحها تلك الدول مقابل إمكانية انخراطها في الملف الفلسطيني لليوم التالي بعد انتهاء الحرب.
رابعاً: مواقف الأطراف المختلفة:
- حماس وقوى المقاومة:
تؤكد قوى المقاومة وعلى رأسها حماس أن مطلبها الأساسي اليوم هو وقف العدوان على غزة، وانسحاب العدو، وعودة النازحين، وفتح المعابر وبدء برنامج الإعمار، وتحقيق صفقة أسرى مشرفة. وما عداه من خيارات وسيناريوهات حول اليوم التالي قابلة للنقاش طالما بقيت في إطار البيت الفلسطيني، بعيداً عن التدخلات الخارجية، دون التمترس خلف خيارٍ بعينه، بما يضمن انخراط الفلسطينيين في ترتيب شؤونهم الداخلية، بما في ذلك تشكيل حكومة توافقية، والتحضير لانتخابات عامة، بعيداً عن المواقف الأحادية من طرف واحد.
ولا تخفي المقاومة إصرارها على تحقيق أهدافها، خصوصاً بعد التضحيات الكبيرة التي قدمتها، وبعد الصمود الأسطوري للحاضنة الشعبية وتضحياتها الكبرى، والذي يجب أن يكون منجزه متناسباً مع تضحياته.
- السلطة الفلسطينية:
لم يكن سراً أن مواقف رام الله بقيت مترقبة لسير العدوان في غزة، صحيح أن مواقف تقليدية صدرت عن إدانته ورفضه، ومطالبة المجتمع الدولي لوقفه، لكن الأروقة الأمنية والسياسية داخل المقاطعة تراقب الوضع الميداني في غزة عن كثب، وتتحيّن فرصة سقوط حماس نهائياً للعودة من جديد. وستسعى أن لا يكون ذلك على “ظهر دبابة إسرائيلية”، ولكن من خلال توجّه سياسي دولي يُعيد من جديد عملية التسوية مع الاحتلال إلى السكّة.
ولمّا لم تسِر الأمور وفق ما تشتهيه السلطة، وبقيت حماس واقفة على أقدامها، فإن رغبتها بالعودة إلى “عش الدبابير” المسمى غزة تراجعت، على اعتبار أنها ليست في وارد الدخول من جديد في مزيد من الإشكاليات السياسية والأمنية، بالإضافة إلى تحمّل مزيد من الأعباء الاقتصادية والمعيشية، ترى أنها في غنى عنها، بانتظار حصول تطورات سياسية وديبلوماسية تُعيد من جديد طرح توجهات أخرى حول مستقبل السلطة في غزة، تحقق لها أفضل العوائد بأقل قدر من التكاليف.
مع العلم أن تشكيل السلطة لحكومتها الجديدة برئاسة محمد مصطفى جاءت استجابة للمطالب الغربية والأمريكية الداعية لتنفيذ سلسلة إصلاحات في أجهزتها ومؤسساتها كي تكون “متجدّدة ومنشّطة”، لكن هذه الخطوة قوبلت برفض فصائلي واسع لأنها أتت بمعزل عن التوافق الوطني الشامل.
- الدول العربية:
يولي الاحتلال أهمية كبيرة لمشاركة دول المنطقة والعالم في إعادة التأهيل الاقتصادي والمادي للقطاع، بوصفها إراحة له من تحمل العبء كله، ولذلك تواترت التصريحات الإسرائيلية بأن إعادة إعمار غزة سيتم تمويله من دول الخليج، التي سارع بعضها للتوضيح بأنها لن تفعل ذلك إلا إذا قدمت لها خريطة طريق “جدية” ذات رؤية واضحة من حيث الإطار الزمني، وبهدف إنشاء دولة فلسطينية، وهو ما يتعارض مع الموقف الإسرائيلي.
على الأرض، فقد أنشأت عدد من دول المنطقة، خصوصاً قطر والسعودية والإمارات وتركيا والأردن مرافق لتحلية المياه في غزة، وأرسلت مساعدات إنسانية، وأنشأت مستشفيات داخل القطاع. ولعل أنشطتها الإنسانية الواسعة النطاق، وبشكل رئيسي في إطار الأمم المتحدة، بجانب الحفاظ المستمر والحازم على إطار العلاقات مع الاحتلال، تُشير إلى استعدادها للعب دور ما في “اليوم التالي” في قطاع غزة.[26]
تواصل مصر، ولما لها من خصوصية جغرافية مع غزة، الترويج لمبادرات لإنهاء الحرب، وتشكيل حكومة تكنوقراط في غزة والضفة، وتخلي حماس عن حكمها بعد التوصل لوقف إطلاق النار، وهذا خيار من شأنه خدمة المصالح المصرية: أولها منع التدهور إلى حرب إقليمية، وثانيها عدم تعريض مصالحها للخطر؛ وثالثها إنهاء الحرب في أسرع وقت ممكن، ورابعها الحدّ من الأضرار على عائدات قناة السويس وقطاع السياحة المصري، وخامسها منع موجات الهجرة الجماعية لسكان غزة للحدود المصرية، إمّا طوعاً أو بتشجيع مباشر من الاحتلال؛ وسادسها وضع مصر كعامل مركزي في عمليات الوساطة والمساعدات الإنسانية وإعادة إعمار غزة.
مع أن الخيار الذي يحظى بأكبر قدر من الدعم بين صناع القرار الإسرائيليين، يتمثل في سيطرة مصر على القطاع مقابل إعفائها من ديونها الخارجية الضخمة، وهو الطرح ذاته إبّان معاهدة كامب ديفيد Camp David أواخر السبعينيات، لكنها رفضته، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود يظهر أن الرفض ما زال قائماً، على الرغم من الإغراءات المقدمة لها، لكن الإسرائيليين والأمريكيين، وبعض دول الخليج، لم يتخلوا بعد عما يسمى “الخيار المصري”.
في الوقت ذاته، يكشف فحص المبادرات الإقليمية عن “اليوم التالي” عن تباينات مع الاحتلال، أهمها أن تلك الخيارات تجعل من حماس لاعباً سياسياً أساسياً، وأعطيت مكاناً في اليوم التالي لغزة، ليس كحاكم حصري، ولكن كجزء من الحكومة المقبلة التي سيتم تشكيلها، وهذا احتمال يبدو غير مقبول لدى الاحتلال، وربما يتعارض مع الموقف الأمريكي الذي يرى أن حماس ليست لاعباً شرعياً له الحق بالسيطرة على القطاع، وفي الوقت ذاته بقاء فجوات واضحة بين المبادرات العربية نفسها، بما يعكس اختلافات في الرأي في المنطقة العربية، وبشكل رئيسي بين الإمارات والسعودية ومصر وقطر.
- المحددات الإسرائيلية:
يبدو من الصعب إخفاء حالة الإحباط التي تحيط بالموقف الإسرائيلي من فرضيات اليوم التالي في غزة بعد تراجع جملة المطالب التي رفعها الاحتلال عشية بدء عدوانه الدموي، فلا أعاد أسراه من غزة، ولا قضى على حماس، ولا رفعت الراية البيضاء، ولا بقي الدعم الدولي له معلناً بدون حساب، بالإضافة إلى ما يواجهه جنوده من مواجهات دامية في قلب غزة، وما أسفر ذلك عن تفاقم المظاهرات الداخلية المطالبة بوقف الحرب، وإقالة حكومة اليمين، وإعادة المختطفين؛ أي أن سلة الأهداف التي أعلنها لم تجد طريقها للتحقيق حتى الآن.
وما زال الاحتلال يضع فيتو أمام جملة من السيناريوهات الخاصة باليوم التالي؛ أهمها بقاء حماس في صدارة المشهد السياسي، وعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، والانفتاح على ما سواها من خيارات، دون أن يمتلك “بوليصة تأمين” لتحقيق تطلعاته السياسية والأمنية، لأنه لم يعد لوحده صاحب القول الفصل في الوضع القائم، وهناك العديد من العوامل والمحددات التي باتت تُشكّل قيوداً على مواقفه، بما في ذلك عجزه عن استعادة أسراه، وحالة الاستقطاب الداخلية التي بدأت تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتفاقم الضغوط الدولية الخارجية عليه، الرسمية والشعبية، بالإضافة إلى استمرار المقاومة في غزة في التصدي لجنوده وقواته، وما يدفعونه من أثمان باهظة بصورة يومية.
- المواقف الغربية والأمريكية:
شكّل الانحياز الغربي للاحتلال في محرقته التي نفذها ضدّ غزة ذروة النفاق والتواطؤ غير المسبوقين، فقد منح الاتحاد الأوروبي European Union والولايات المتحدة الاحتلال ضوءاً أخضر، و”شيكاً مفتوحاً على بياض”، لتنفيذ ما يحلو له من مجازر ومذابح دون أن يرفّ لهم جفن، على العكس من ذلك، فقد دأبت آلتهم الدعائية ووسائلهم الإعلامية على تقديم مزيد من الذرائع والتبريرات للاحتلال، وما فتئت محافلهم الإعلامية والبحثية تكرر وتعيد ما حصل يوم 2023/10/7 باعتباره يستحق كل ما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين في غزة.
ومع مرور الزمن، تراجع التأييد الغربي للحرب على غزة بصورة لا تخطئها العين، صحيح أنه ما زال باقياً، لكنه ليس بالدرجة ذاتها، حتى المستويات الرسمية باتت تطالبه بوقف العدوان، بل وتحمله مسؤولية معاناة وقتل المدنيين، وتنادي بالبحث عن مسار سياسي بديلاً عن هذا المسار الدموي.
وأصبحت الدوائر الغربية، بما فيها بعض الأمريكية، تتحدث عن صيغة ما لإشراك حماس في المشهد السياسي لغزة في اليوم التالي، بعد أن استبعدتها في بداية الحرب، لكن تصديها لآلة حرب الاحتلال طوال أكثر من مئتي يوم، وما ارتكبه الصهاينة من جرائم ضدّ الإنسانية في غزة، أجبر الغربيين على إعادة النظر في مواقفهم السلبية، في محاولة لإيجاد حالة من التوازن المفقود طوال الفترة الماضية، عقب ما شهدته أوساطهم الشعبية والجماهيرية والجامعية والنقابية وغير الحكومية من مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، ورافضة لمواقفهم الرسمية.[27]
اليوم، تبدو المواقف الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منفتحين على أي خيار وسيناريو لليوم التالي في غزة من شأنه وقف حالة الحرب الدائرة، شريطة عدم تصدر حماس للمشهد السياسي في غزة، وبما يضمن أمن غلاف غزة، وعدم تكرار ما حدث في تشرين الأول/ أكتوبر، وضمان حالة من الهدوء الأمني في غزة لسنوات طويلة قادمة في ضوء خشيتها من تمدد الحرب إلى جبهات إقليمية أخرى في المنطقة، الأمر الذي من شأنه تفجير الوضع فيها بما يتعارض مع المصالح الغربية.
خامساً: السيناريو المرجح:
تُظهر القراءة المتأنية للسيناريوهات الواردة أعلاه أن هناك حالة من التداخل فيما بينها، وليس هناك من سيناريو بعينه يمكن ترجيح كفته على سواه، في ضوء تعقّد المشهديْن السياسي والميداني، وعدم توفر أفضلية لخيار بحدّ ذاته على الخيارات الأخرى، مما يستدعي الحديث عن حالة من الدمج بين عدد منها، وصولاً لاستقراء أقرب إلى الدقة لما سيكون عليه اليوم التالي في غزة بعد انتهاء الحرب.
يظهر السيناريو المتعلق ببقاء الاحتلال المؤقت في غزة، مع عودة تدريجية للسلطة الفلسطينية إليها، وتراجع ملموس لحماس عن المشهد السياسي هو السيناريو الذي قد تلتقي عليه حكومة الاحتلال مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وحلفائها العرب في المنطقة، في ظلّ استبعاد إعادة الاحتلال الدائم للقطاع، ودعوة قوات عربية ودولية، واستنهاض أدوار العشائر. غير أن كفاءة أداء المقاومة وصمودها والتفاف الحاضنة الشعبية حولها، سيفرض شروطه في النهاية من خلال صفقة تبادل واسعة تتضمن انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من قلب القطاع، وفتح المعابر وعودة النازحين، وبدء الإعمار، مع عمل ترتيبات مناسبة ضمن توافق داخلي فلسطيني يحافظ على سلاح المقاومة، دون ضرورة أن يكون لها دور ظاهر مباشر في إدارة القطاع.
سادساً: التوصيات:
1. صياغة توجه وطني فلسطيني متوافق عليه بشأن مسألة “اليوم التالي” في غزة، مع التركيز على مجالات الاتفاق المحتمل بين مختلف المكونات الفلسطينية، على قاعدة المحافظة على الثوابت، والمصالح العليا للشعب الفلسطيني.
2. تقديم مزيد من الدعم والإسناد للجبهة الداخلية في غزة كي تُشكّل ظهيراً داعماً للمقاومة، وقدرة على الصمود أكثر في فرض مطالبها وشروطها على الاحتلال، ومواجهة مظاهر الاحتكار والاستغلال التي يواجهها النازحون في مخيمات الإيواء.
3. إبداء المرونة اللازمة من الأطراف الفلسطينية بهدف جسر الفجوات فيما بينها للحيلولة دون حصول الاحتلال على فرصة تنفيذ أجندته الأمنية في غزة، وحشد المواقف اللازمة مع الأطراف الإقليمية والدولية لضمان الحفاظ على المصالح الفلسطينية.
4. العمل مع كل الأطراف للوصول إلى وقف العدوان بصورة نهائية، لأن استمراره يعني مزيداً من استنزاف الفلسطينيين في غزة: بشرياً واقتصادياً وأمنياً.
5. التواصل مع مصر لفتح معبر رفح بصورة طبيعية، بعيداً عن حالة الاستغلال والابتزاز الذي تمارسه شركات قريبة من دوائر الحكم في القاهرة بحقّ الفلسطينيين في غزة.
6. دعوة المقاومة لاستخدام ورقة المحتجزين الإسرائيليين في مزيد من الضغط على الرأي العام الإسرائيلي الداخلي للضغط بدوره على حكومته لوقف الحرب، وإبرام صفقة تبادل مشرفة.
7. توسيع عمل الروافد المساندة للمقاومة شعبياً ورسمياً في المحافل الدولية والغربية لاستعادة الرواية الفلسطينية، والإطاحة بسردية الاحتلال المزوّرة، وإعادة الأمور إلى نصابها أننا شعب واقع تحت الاحتلال، ونمارس مقاومتنا المشروعة ضدّه وفق الحقوق والمواثيق الدولية.
اعداد: قسم الأبحاث في مركز الزيتونة