75 عاماً على النكبة: ما جديد الكشوفات بعد انطفاء ظاهرة “المؤرخين الجدد”؟
في العدد 55 من “مجلة الدراسات الفلسطينية”، الصادر في صيف سنة 2003، نشرت دراسة بعنوان: “القضية الفلسطينية في الكتابة التاريخية العربية، هل هناك حاجة إلى تأريخ جديد؟”، أشرت فيها إلى أن سؤال الحاجة إلى تأريخ عربي جديد، للصراع العربي-الصهيوني، قد طُرح بالارتباط بظاهرة “المؤرخين الجدد” في إسرائيل، التي تبلورت بعد رفع السرية في نهاية سبعينيات القرن العشرين عن المحفوظات الإسرائيلية العائدة إلى سنة 1948، وبتأثير الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف سنة 1982 والانتفاضة الشعبية في الضفة العربية وقطاع غزة المحتلين في أواخر سنة 1987.
وفي تلك الدراسة، بيّنت كيف أن هؤلاء “المؤرخين الجدد”، مثل توم سيغف وسيمحا فلابان وبني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه، دحضوا ثلاث أساطير رئيسية حكمت التأريخ الرسمي الإسرائيلي، بشأن أحداث حرب 1948، وهي أسطورة “خطر الإبادة”، التي تعرض لها المجتمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين (الييشوف) جراء “تفوق” العرب عدداً وعدة في حرب 1948، وأسطورة أن العرب هم الذين “رفضوا”، منذ سنة 1948، “مصافحة” يد السلام التي مدّتها إسرائيل إليهم، وأسطورة أن الفلسطينيين رحلوا في معظمهم عن أرضهم خلال الحرب “بصورة طوعية” أو بتأثير “دعاية” الجيوش العربية التي حثتهم على الهجرة.
انطفاء ظاهرة “المؤرخين الجدد”
لم يشكّل هؤلاء المؤرخون الجدد مجموعة متجانسة، لا منهجياً ولا أيديولوجياً، بل تنوّعت آراؤهم السياسية ومواقفهم تجاه الصهيونية. فمن بين جميع مؤرخي هذه “المدرسة”، يعرّف إيلان بابيه نفسه صراحة بأنه “مناهض للصهيونية”، بينما يدّعي الآخرون، بدرجات متفاوتة، أنهم صهاينة. وكما يكتب المؤرخ والصحافي الفرنسي دومينيك فيدال، فقد مرّ رائدهم، بيني موريس، “بتطور سياسي دفعه، بعد فشل قمة كامب ديفيد في تموز/ يوليو 2000، إلى دعم السياسة التي كان ينتهجها أريئيل شارون بصورة أكثر وضوحاً؛ ففي مقابلة مدوية مع صحيفة “هآرتس” اليومية في 8 كانون الثاني/يناير 2004، ذهب إلى حد الدفاع عن التطهير العرقي، قائلاً: “لم يكن من الممكن إقامة دولة يهودية من دون اقتلاع 700 ألف فلسطيني، لذلك كان لا بدّ من اقتلاعهم”. وفضلاً عن عدم تجانسهم، عانى هؤلاء المؤرخون من قصور معرفي وإدراك مشوّه للواقع، نجما عن اعتمادهم الحصري، بحسب إيلان بابيه، على المحفوظات الرسمية الإسرائيلية، التي نظر إليها باعتبارها تنطوي على “الحقيقة المطلقة”، وعدم رجوعهم إلى كتابات المؤرخين العرب ولا إلى التاريخ الشفوي، ولا سيما التاريخ الشفوي العربي.
والواقع، أن الموقف الجديد الذي تبناه بيني موريس كان تعبيراً، بشكل من الأشكال، عن انطفاء ظاهرة “التأريخ الجديد”، التي سعى أريئيل شارون، بعد وصوله إلى السلطة في سنة 2001، إلى قتلها في مهدها، وخصوصاً بعد أن أطلق مقولته الشهيرة بأن “حرب الاستقلال” التي خاضتها إسرائيل في سنة 1948 “لم تنتهِ بعد”. وقد تأكد انطفاء هذه الظاهرة مع قيام إيلان بابيه بترك جامعة حيفا التي كان يدرّس فيها ومغادرة إسرائيل، في سنة 2007، إلى بريطانيا، حيث راح يدرّس في جامعة أكستر، وذلك جراء تعرضه لملاحقات ومضايقات صهيونية ومحاولات لنزع الشرعية عن أبحاثه العلمية. وكان قد سبق ذلك ارتباط اسمه بـ “قضية” طالب الدراسات التاريخية في جامعة حيفا، تيدي كاتس، الذي أعدّ رسالة ماجستير كشفت عن أحداث المجزرة التي ارتكبت في قرية “الطنطورة” في سنة 1948، وحصلت على علامة استثنائية (97/100)، وذلك استناداً إلى 135 شهادة شفوية عن الأحداث، نصفها يهودية ونصفها عربية، جمعها وسجّلها على مدى أكثر من 140 ساعة تسجيل.
وفي تلك الرسالة الجامعية، أظهر تيدي كاتس أن قرية الطنطورة الساحلية المزدهرة الواقعة إلى الجنوب من حيفا، التي بلغ عدد سكانها 1600 نسمة، تعرضت للهجوم ليلة 22-23 أيار/مايو 1948 من قبل لواء من ألوية القوة الضاربة في الهاغاناه المعروفة باسم “البلماح”، أسفر عن استشهاد ما بين 200 و 250 فلسطينياً وطرد سكانها الآخرين إلى قرية الفريديس المجاورة. وقد أثيرت تلك القضية، بعد أن نشرت صحيفة “معاريف” اليومية في 21 كانون الثاني/ يناير 2000 مقالاً استند إلى عمل كاتس، فقام الضباط والجنود السابقون في لواء “البلماح” برفع دعوى قضائية ضده بتهمة التشهير، وبدأت محاكمته في كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام، ما دفعه إلى التوقيع على تراجع يفيد بأن بحثه لم يتوصل إلى نتيجة تفيد بوقوع “مجزرة” في القرية المذكورة؛ ومع أنه ندم في اليوم التالي على ما قام به، وطلب من المحكمة السماح له بمواصلة دفاعه ضد التشهير المزعوم، إلا أن القاضية رفضت ذلك، ثم قامت الجامعة “بتعليق” رسالته الجامعية.
بيد أن منتج الأفلام الإسرائيلي، آلون شوارز، تمكن، في سنة 2021، من إعادة تسليط الضوء على مجزرة قرية الطنطورة، من خلال الفيلم الوثائقي الذي أعدّه بعنوان Tantura، مثبتاً “أن خنق التاريخ لا يمنع أبداً الحقيقة من شق طريقها، مهما كانت متعرجة وطويلة”، إذ بيّن شوارز، في هذا الفيلم، أن تيدي كاتس قال الحقيقة، وأنه سجل بأمانة ما وقع من أحداث في سنة 1948، وتمكن بفضل “التكنولوجيا المتقدمة من الكشف عن القبور الجماعية، ومن حث القاضية التي كانت تترأس المحاكمة الأصلية على الاعتراف بأنها لم تستمع إلى الأشرطة المسجّلة من قبل؛ وبعد استماعها إلى شريط منها، من ضمن ما ورد في الفيلم، أقرت القاضية بأن ما أصدرته محكمتها من حكم كان يمكن أن يكون مختلفاً”.
إبراز حقائق تاريخية جديدة
تابع المؤرخ إيلان بابيه في المنفى البريطاني الذي اختاره أبحاثه، كاشفاً حقائق تاريخية جديدة. ففي كتابه: “أكبر سجن على الأرض. تاريخ الأراضي المحتلة”، الذي أصدره في ذكرى مرور خمسين عاماً على عدوان حزيران/يونيو 1967، بيّن، استناداً إلى وثائق أرشيفية جديدة، أن حرب سنة 1967 لم تُفرض على إسرائيل، بل هي استعدّت لها منذ سنة 1963، عندما “التحقت شخصيات من الجيش الإسرائيلي والسلطات القضائية والمدنية بدورة في الجامعة العبرية في القدس لوضع خطة شاملة لإدارة الأراضي التي ستحتلها إسرائيل، والتي كان يعيش فيها نصف مليون فلسطيني”، وأنه، في أيار/مايو 1967، أي قبل أسابيع قليلة من اندلاع تلك الحرب، تلقى قادة الجيش الإسرائيلي “تعليمات قانونية وعسكرية للسيطرة على البلدات والقرى الفلسطينية”. وفي مقابلة أجراها معه موقع “ميدل إيست أي”، أكد إيلان بابيه أن كتابه هذا هو امتداد لكتابه عن “التطهير العرقي في فلسطين”، ذلك إن المشروع الصهيوني هو، في تقديره، مسلسل أحداث، وليس حدثاً واحداً، بمعنى أنه في سنة 1948، “كانت هناك خطة واضحة للغاية هدفها محاولة طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من أكبر جزء ممكن من فلسطين”؛ بيد أن هذه الخطة لم تنجح تماماً، واعتقد بعض صنّاع السياسة الإسرائيليين “أن في إمكانهم أن يفعلوا في سنة 1967 ما فعلوه في سنة 1948، لكن الغالبية العظمى منهم أدركوا أن حرب 1967 كانت حرباً قصيرة جداً، وأن التلفزيون كان في داخلها وأن العديد من الأشخاص الذين أرادوا طردهم كانوا بالفعل لاجئين من سنة 1948″؛ لذلك لجأوا إلى “التطهير العرقي التدريجي، وفي بعض الحالات طردوا حشوداً من السكان من مناطق معينة مثل أريحا، والبلدة القديمة في القدس ومنطقة قلقيلية، لكن في معظم الحالات، قرروا أن إقامة حكم عسكري وحصار لحصر الفلسطينيين في مناطقهم سيكون مفيداً مثل طردهم”.
من ناحية أخرى، يلاحظ الكاتب والصحافي سيلفان سيبل، صاحب كتاب “دولة إسرائيل ضد اليهود” (2020)، بعد أن يقرّ بأن ظاهرة “المؤرخين الجدد” في إسرائيل قد “تفككت”، تزايداً في عمل “خلفاء” هؤلاء المؤرخين من “المؤرخين والصحافيين وصناع الأفلام الوثائقية والشهود أو المشاركين المباشرين في الجرائم التي ارتكبتها دولة إسرائيل”، متوقفاً، في مقال نشره على موقع “أوريان 21” في 15 أيلول/سبتمبر 2022، عند بعض عض شواهد تعود إلى سنتَي 2021 و 2022.
ففي 24 آب/أغسطس 2021، عرض مهرجان القدس السينمائي –كما يكتب- فيلماً وثائقياً للمخرجة الإسرائيلية نوريت كيدار بعنوان The Schoolyard (ساحة مدرسة) سلطت فيه الضوء على القسوة المذهلة التي تميّز بها الجنود الإسرائيليون في تعاملهم مع الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين الذين احتجزوهم إبان اجتياحهم للبنان في صيف سنة 1982. فمع أن الظروف الرهيبة التي فرضت على آلاف معتقلي “معتقل أنصار” في جنوب لبنان كانت معروفة إلى حد كبير، إلا أن ما حدث في باحة مدرسة دير القديس يوسف في مدينة صيدا، حيث تم حبس ألف أسير، غالبيتهم الساحقة من غير المقاتلين، لم يكن معروفاً، وهو ما كشف عنه هذا الفيلم الذي أظهر كيف فُرض لأيام على المعتقلين في تلك المدرسة الجلوس تحت أشعة الشمس الرهيبة، والتعرض للعطش القاتل حتى إن بعضهم اضطر لشرب بوله، وكيف اقُتلعت عيون بعضهم الآخر، واستشهد سبعة منهم نتيجة الضربات، وجرح المئات. وتورد مخرجة الفيلم ما ذكره قائد السرية الإسرائيلية المسؤولية عن السجن، عيدان هرباز، الذي حاول تبرير فعلتهم بالزعم أنهم كانوا “محاصرين Bottom of Form في موقف مروع، ولم يكن في وسعهم التصرف بطريقة أخرى”، وأنه “تمّ تقديم شكوى ضده، في وقت لاحق، واستجوبه الجيش، ولكن لم يحدث شيء”.
وفي 9 كانون الأول /ديسمبر 2021. نشر المؤرخ آدم راز، صاحب كتاب “نهب الممتلكات العربية خلال حرب الاستقلال” (2020)، الذي تمكن من الوصول إلى محفوظات جديدة، مقالاً عن المجازر التي ارتكبها الإسرائيليون خلال فترة ما قبل وما بعد “استقلال” إسرائيل، أشار فيه إلى أن محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية “لا تترك مجالاً للشك في أن القادة الإسرائيليين كانوا على علم بالأعمال الدموية التي صاحبت احتلال القرى العربية” في 1947-1948، حتى إن بعض الوزراء تحدث خلال اجتماعات مجلس الوزراء عن “انهيار الأسس الأخلاقية” لإسرائيل جراء “الأعمال اللاإنسانية” المرتكبة، وإلى أنه بحلول تشرين الثاني /نوفمبر 1948، كانت أخبار مجازر المدنيين الفلسطينيين قد انتشرت على نطاق واسع لدرجة أن مجلس الوزراء “قرر تشكيل لجنة لمراجعة حالات القتل التي يرتكبها الجيش”. وبينما عدّد الباحث بيني موريس 24 مجزرة ارتكبتها القوات الإسرائيلية في 1947-1948، تمكن آدم راز “بعد استعراضه أرشيفات أخرى، من العثور على بضع عشرات من المجازر التي لم يتم الكشف عن الكثير منها”.
ويتابع سيلفان سيبل أنه في 17 شباط/ فبراير 2022، أوضح حاييم روبوفيتش، الذي كان يشغل سابقاً الموقع الثالث من حيث الأهمية في جهاز “الشاباك”، في مقابلة مع صحيفة “هآرتس”، أن جهازه اعتقل، خلال سنوات خدمته ما بين 1980 و 2005، “عدداً لا يحصى من الفلسطينيين من دون سبب”، ولجأ “إلى الاستخدام المنتظم للتعذيب”، مستحضراً، بصورة خاصة، تداعيات اندلاع الانتفاضة الثانية، في سنة 2000، عندما “تعرض عشرات الآلاف من الشباب الفلسطينيين لاستجوابات قاسية، وسجن تعسفي، وتصفية جسدية في بعض الأحيان”. ومع أن هذه الأعمال “قد تكون حسّنت أمن إسرائيل –كما قال-لكنها بالتأكيد لم تزد من قدرتها على السيطرة على السكان الخاضعين للاحتلال”.
وفي 8 أيلول/سبتمبر 2022، حصل المحامي الإسرائيلي إيتاي ماك، الذي ساهم أكثر من غيره في الكشف عن فضيحة “بيغاسوس”، على موافقة من المحكمة العليا الإسرائيلية للاطّلاع على أرشيف سري لجهاز “الموساد” عن نشاطه في لبنان، ولا سيما خلال الغزو الإسرائيلي في سنة 1982. ومع أن المحكمة منحت إدارة الجهاز المذكور إمكانية إخفاء الوثائق الأكثر حساسية، إلا أن السجلات التي اطّلع عليها المحامي كشفت “أن أريئيل شارون وهيئة الأركان العامة للجيش كانوا يشنون هذه الحرب خارج سيطرة الحكومة”، وأن هذه الحرب، التي زعم أنها شُنت رداً “على محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن”، قد “خُطط لها بدقة خلال عام ونصف العام”، وأن مذبحة صبرا وشاتيلا “لم تكن سوى حدث في سلسلة مجازر، وإعدامات، وعمليات خطف، وإخفاء، وبتر أعضاء وتشويه جثامين ارتكبتها الميليشيات المسيحية في هذه الحرب”.
وأخيراً، وفي أواخر شهر تموز/يوليو 2022، عندما برزت كشوفات جديدة حول مجزرة كفر قاسم التي وقعت في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1956، كتب المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف، مشيراً إلى “تمثيلية” المحاكمات التي خضع لها الجنود الذين ارتكبوا تلك المجزرة، ما يلي: “إذا كانت هذه الكشوفات صادمة، فذلك ليس لأنها تكشف معلومات غير معروفة للمؤرخين، ولكن لأنها تظهر كيف لعبت جرائم الحرب الإسرائيلية دوراً هامشياً في تشكيل المبادئ الأساسية للدولة”؛ فهذه “المبادئ الأساسية” ليست معنية بالجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين؛ فالمهم، كما يقدّر سيغف، هو “أن الجنود [الذين ارتكبوا المجزرة] أطاعوا الأوامر لأنهم وجدوها مبررة، ومتماشية مع الأوامر التي أفضت إلى الطرد الجماعي للفلسطينيين قبل سبع سنوات”. ففي سنة 1956، كما يتابع، “ظل عدد كبير من الإسرائيليين يعيش في روحية أحداث حرب الاستقلال”. وكان بن غوريون، رئيس الوزراء آنذاك، “داعماً لمخططات تهجير متنوعة”، ودخلت كلمة “تهجير” في نطاق “اللغة الإسرائيلية المشفرّة للدلالة على الطرد المشروع للفلسطينيين”.
هل ستساعد هذه الحقائق الجديدة في تغيير عقلية الإسرائيليين؟
في رده عن هذا السؤال، يلاحظ سيلفان سيبل أن “ما يميّز هذه الاكتشافات الحالية هو أنها إلى حد كبير من عمل باحثين شباب، بينما غالباً ما تكون الشهادات التي تم جمعها شهادات شهود مسنين يعطون انطباعاً، في سنوات حياتهم الأخيرة، بأنهم يريدون تحرير أنفسهم من عبء يقع على كاهلهم”، هذا هو حال مرتكبي مجزرة قرية الطنطورة، الذين “يعترفون اليوم بأفعال كانوا قد أنكروها قبل عشرين عاماً”، وحال يعكوف شاريت، أحد مسؤولي “الشاباك” المهمين وابن رئيس الوزراء موشي شاريت ما بين 1954-1955، الذي صرّح في أيلول/سبتمبر 2021، بعد أن بلغ الخامسة والتسعين من العمر: “لقد ولدت دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني في الخطيئة، وأنا ساهمت مع بلد إجرامي”. لكن سيلفان سيبل يضيف أن تأثير هذه الاعترافات المتأخرة “لا يزال ضئيلاً” داخل المجتمع، مقدراً أن “تراكم الشهادات حول جرائم الماضي لا يغيّر أي شيء جوهري في العلاقة الإجمالية لليهود الإسرائيليين بالفلسطينيين”؛ فمهما كانت الجرائم التي ترتكبها إسرائيل اليوم “يظل الإسرائيليون، في جميع الظروف، أولاً وقبل كل شيء، ورثة ضحايا الماضي، وهذه الحاجة إلى الحفاظ على موقف الضحية المهددة باستمرار هو ما يفسر سبب بقاء الإسرائيليين غير مبالين إلى حد كبير بجرائمهم ، في الماضي أو الحاضر”، كما أن “الإفلات من العقاب الذي يعيش فيه الإسرائيليون اليوم يمنعهم من القدرة على تحرير أنفسهم من العقلية الاستعمارية السائدة الآن في مجتمعهم”.
ويتفق المؤرخ والصحافي دومينيك فيدال مع هذا الرأي، إذ هو يعتقد أن النكبة، وعلى الرغم من كل الحقائق التي كُشفت، “لم تتوقف قبل 75 عاماً، بل أضيف إلى الـ 900 ألف فلسطيني الذين طردوا في سنة 1948 نحو 430 ألفاً آخرين خلال حرب 1967”. وعندما تولى أريئيل شارون سنة 2001، كرر صيغة “غريبة” هي: “حرب الاستقلال لم تنتهِ بعد”، ويتساءل فيدال: “إذن ما الذي تبقى حتى ينتهي؟ لقد أصبحت إسرائيل دولة ذات سيادة، وتم قبولها في الأمم المتحدة، واحتلت باقي فلسطين، بالإضافة إلى الجولان؛ باختصار، الشيء الوحيد الذي يجب استكماله هو ترحيل الفلسطينيين”، وهذا ما قد يقوم به القادة الجدد الذين أفرزتهم انتخابات 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، والذين “يقدمون أنفسهم على أنهم الورثة الجديرون للجنرال: فبعد 75 عاماً من ولادة إسرائيل، لم يعودوا يخفون رغبتهم في ضم الضفة الغربية بأكملها ويحلمون بصوت عالٍ بطرد جميع السكان العرب، وكأن التاريخ يعود إلى نقطة البداية: حرب 1947-1949”.
في الصورة: يعكوف شاريت، أحد مسؤولي “الشاباك” المهمين وابن رئيس الوزراء موشي شاريت ما بين 1954-1955، صرّح في أيلول 2021، بعد أن بلغ الخامسة والتسعين من العمر: “لقد ولدت دولة إسرائيل والمشروع الصهيوني في الخطيئة، وأنا ساهمت مع بلد إجرامي” – الصورة للاجئ وحفيدته، تجسّد هذا الاعتراف.
عن الاتحاد