حسرتنا الفلسطينية بين الكرمل والبحر !
في فجر هذا اليوم قبل 73 عاما انقضّت العصابات الصهيونية من أعالي الكرمل على المدينة ، واحكمت السيطرة عليها بالتعاون الوثيق مع سلطات الانتداب البريطاني ، وحشرت عروس الكرمل الفلسطينية في الميناء ، واجبرتها على ركوب البحر وتشردت حيفا عن حيفا .
73 عاما بلا حيفا .. شاخت بها عروس الكرمل في مخيمات اللاجئين ، وشابت جدائلها وهي تقف كل يوم على تلال عرمون وتطل على بيروت التي تشبه اطلالة الكرمل على حيفا ! لم تعد حيفا الى حيفا ، وتناثر جسد عائد غسان كنفاني الى حيفا في قنبلة اسرائيلية في حي الحازمية في بيروت ولم يعد الى حيفا ، وعرمون لا يتقن الكرمل وبيروت لا تحل مكان حيفا .
وما تبقى من حيفا في وادي النسناس يتفرج على تزوير المدينة بالمكياج الاسرائيلي الذي حوّلها الى مدينة لقيطة بعد ان نزع عنها كوفيتها الفلسطينية ، والبسها القبعة اليهودية .
وهكذا بدأت حيفا العربية تفقد معالمها العمرانية بعدما تمّ هدم عشرات المباني وشق طرقات وشوارع اخترقت المدينة من شرقها إلى غربها، طامسه معالم عربية عديدة.
تغيرت معالم هذه المدينة ما عادت كما أراد لها أهلها أن تكون، وأن تتطور وتنمو. اخترقتها أيادي المهاجرين – المستوطنين اليهود الوافدين إليها وإلى باقي أرجاء فلسطين من كل حدب وصوب. هؤلاء أحدثوا تغييرات جذرية في مبنى المدينة ليس العمراني وحده، بل الوظيفي، وبالتالي ترك هذا التغيير أثرًا بالغًا في سلوك سكان المدينة وتوجههم في التعامل اليومي قالت لي صديقة فلسطينية تسكن في حيفا المزورة : لقد سرقوا حيفا من حولنا وفرضوا عليها ” العبرنة ” ولم يبق من مدينة ظاهر العمر الزيداني ما يدل على تاريخها الا نتف هنا وهناك !
وأنا في حيفا قبل ثلاث سنوات وقفت على الكرمل أطلّ على حيفا .. رأيت حيرتي مثل حيفا بين الكرمل والبحر لا البحر يصعد الى الكرمل ولا الكرمل يغطس رأسه في البحر ، وتفرجت على بهاء حيفا أطل عليها من فوق حديقة البهائيين الى الميناء .. هو الميناء الذي حشرت به حيفا وضاعت بالبحر ، وكنت ألهث بحثا عن الحناطير في ساحة الحناطير التي صارت ساحة باريس ، وتذكرت هتاف الثوار السوريين زمان :
” ديغول خبّر دولتك باريس مربط خيلنا ” لا خيول عربية في ساحة باريس ولا حناطير في ساحة الحناطير !
أمام مسرح الميدان ترحمت على أم داوود الحيفاوية التي ماتت في مخيم اليرموك ، تلك الفلسطينية التي منحت ام كلثوم لقب كوكب الشرق حين صعدت على مسرح الانشراح في شارع الملوك عام 1928 وقالت لسيدة الغناء العربي انت كوكب الشرق !
في ” الحليصة ” والعشب ينمو في حيطان البيوت المتهالكة ، التي تبحث عن أهلها ! للبيوت حشيشة قلب تلوب أيضا قلت لصديقتي الحيفاوية ، فبكى عسل عينيها في ” ستيلا ماريس ” فوق الكرمل وانتصب حزنها كعامود الملك فيصل في مدخل حيفا الشرقي ، ورأيت دموعها تلهث وهي تهبط من الكرمل الى “وادي الجمال ” ورأيت حيفا في أبنيتها الشاهقة وفنادقها الفخمة التي أقيمت على ظلنا الذي مازال في وادي النسناس يبحث عن حيفاه التي سلبت من بين يديه في مثل هذا اليوم .