ملاحظات حول التصويت على قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالقدس
عبد الحميد صيام
“القدس العربي”، 24/8/2019
نيويورك-“القدس العربي”:يعتبر قرار التقسيم 181 (1947) أول قرار أممي صادر عن الجمعية العامة تعامل بشكل شامل مع القضية الفلسطينية بما فيها القدس. لكنه ميز بين فلسطين والمدينة المقدسة وضواحيها. ففي الوقت الذي قسم القرار فلسطين إلى نصفين غير متساووين بين مهاجرين تجمعوا من أركان الأرض لا يشكلون أكثر من 30 في المئة وبين سكان الأرض الأصليين الذين يمثلون أكثر من 70 في المئة من كل سكان البلاد، إلا أن قرار التقسيم المجحف اقتطع نحو 55 في المئة من فلسطين ومنحها للأغراب وأعطى الفلسطينيين أصحاب الأرض نحو 42 في المئة وأما 3 في المئة التي تضم القدس القديمة وبعض ضواحيها تعامل معها على أنها “كيان منفصل” يجب أن يدار من قبل الأمم المتحدة. كان ذلك أخطر القرارات وأظلمها وأبعدها عن العدل والقانون والإنسانية، اعتمد في لحظة من الغياب العربي والفلسطيني وتوافق الدولتين الأعظم والتعاطف الأورربي أساسا مع ضحايا المحرقة النازية لليهود. وقد صوتت 33 دولة مع القرار بينما صوتت ضده 13 دولة وصوتت بـ “امتناع” 10 دول.
بعد غياب طويل عادت مسألة القدس بقوة أمام مجلس الأمن بعد احتلال الجزء الشرقي منها في حرب حزيران/يونيو 1967 ووقوع المدينة بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية. وسنراجع في هذا المقال مجموعة من القرارات التي اعتمدها مجلس الأمن بعد تلك الحرب ونتابع مسألة التصويت عليها لنرى كيف أن الوجدان العالمي ما زال يختزن مكانة عليا للقدس ولا يقبل أن تصبح عاصمة لإسرائيل ولم يشذ عن هذا الموقف إلا الولايات المتحدة التي إما تستخدم الفيتو لقتل مشروع القرار أو تختار التصويت بـ “امتناع” في الحالات الصارخة. ولو كان العرب، وخاصة الفلسطينيين، يتابعون تصويت الولايات المتحدة ومواقفها المعلنة ودعهما المتواصل للكيان منذ إنشائه لما فوجئوا بقرار “ملك إسرائيل واليهود الجديد” دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
العرض العسكري وحريق المسجد الأقصى
كانت الجمعية العامة أول من بحث مسألة قرار إسرائيل بعد نهاية الحرب مباشرة، إعلان القدس مدينة موحدة واعتبارها عاصمة لإسرائيل. وقد اعتمدت القرار 2235 بتاريخ 4 تموز/يوليو 1967ـ الذي أكد على عدم شرعية قرار إسرائيل وطالبها بإلغاء القرار. وعادت الجمعية بعد عشرة أيام واعتمدت القرار 2254 الذي يدين إسرائيل لعدم إلتزامها بالقرار السابق وطالبها مرة أخرى أن تلغي كافة الأنشطة وخاصة تلك التي تعمل على تغيير معالم المدينة.
تعامل مجلس الأمن مع ملف القدس إبتداء من عام 1968 عندما طالب إسرائيل في قراره رقم 250 المعتمد بتاريخ 27 نيسان/أبريل 1986 إلغاء عرض عسكري قررت إسرائيل إقامته في الجزء الشرقي من القدس في الذكرى السنوية الأولى لاحتلالها. وجاء التصويت بالإجماع بما في ذلك الولايات المتحدة.
عاد المجلس واعتمد بتاريخ 21 أيار/مايو 1968 القرار 252 الذي يندد بإسرائيل لعدم إستجابتها للقرار السابق واستمرارها في اتخاذ إجراءات من شأنها تغيير وضعية المدينة القانوني واعتبار تلك الإجراءات لاغية لا قيمة قانونية لها. وقد اعتمد القرار بغالبية 13 صوتا بينما صوتت كل من الولايات المتحدة وكندا بـ “امتناع”. ومن بين الدول التي صوتت لصالح القرار الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية (علما أن الصين لغاية تلك اللحظة كانت ممثلة بتايوان) بالإضافة إلى دولة مثل البرازيل وإثيوبيا والدنمارك.
أما القرار 267 والذي اعتمد بالإجماع يوم 3 تموز/يوليو 1968 فقد كان قويا أكثر من سوابقه واستعمل عبارة “يشجب بشدة جميع الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضعية القدس” كما أعرب عن أسفه لأن إسرائيل لم تنفذ القرار 252 وقراري الجمعية العامة بخصوص القدس 2253 و2254 (1967). واعتبر القرار جميع إجراءات إسرائيل في المدينة باطلة وطالبها بالتوقف عنها. لكن الجديد في القرار أنه حمل نوعا من التهديد المبطن، إذ جاء في نقطته السابعة أن المجلس سيعود للاجتماع بدون تأخير للنظر في الخطوات التي يمكن أن يتخذها في حالة “إذا أجابت إسرائيل سلبا أو لم تجب” عن الطلبات المدرجة في البنود الستة السابقة. هنا نجد غرابة في الموقف الأمريكي، فمن جهة امتنع عن التصويت على القرار 252 ثم ذهب مع الإجماع في شجب إسرائيل لأنها لم تنفذ ذلك القرار بل ومع توجيه رسالة قد تعني التهديد.
في 15 أيلول/سبتمبر اعتمد المجلس القرار 271 حول الحريق الذي أضرم في المسجد الأقصى يوم 21 آب/أغسطس وعبر عن حنقه لقيام متطرف بحرق وتدنيس المسجد الأقصى وطالب إسرائيل بالتقيد باتفاقيات جنيف الرابعة والقانون الدولي الذي ينظم الاحتلال العسكري. وطالب إسرائيل بإلغاء كافة القرارات التي اتخذتها لتغيير وضعية القدس. وأكد بشدة على حماية الحرم الشريف ووقف كافة الأنشطة التي تعمل على تغيير معالم المدينة ووعد بالعودة ثانية للاجتماع لدراسة إجراءات إضافية في حال عدم إلتزام إسرائيل بقرارات المجلس المتعلقة بالقدس بما فيها القرار الحالي. وللعلم فقد ذكر مجلس الأمن في هذا القرار “أنه يشعر بالأسى للخراب الكبير الذي لحق بالمسجد الأقصى المقدس” نتيجة الحريق الذي لحق به تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ولم يلحق بالتسمية مصطلح جبل الهيكل الذي أقحم فيما بعد على لغة الأمم المتحدة.
وقد صوتت 11 دولة فقط لصالح هذا القرار وامتنعت كل من الولايات المتحدة وبراغواي وكولمبيا وفنلندا. بينما صوتت لصالحه دول مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا. نلحظ في هذا القرار مسألتين: أولا تم تعطيل اعتماد القرار أكثر من ثلاثة أسابيع بحثا عن لغة مشتركة مخففة. كما أن عدد الممتنعين قياسا للقرارات السابقة كبير ويبدو أن التأثير الأمريكي في تلك المرحلة أكثر ما كان جليا على دول أمريكا اللاتينية.
راجع مجلس الأمن ملف القدس واعتمد القرار 298 بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 1971 الذي جاء حاداً أكثر في انتقاده للممارسات الإسرائيلية حيث أكد “أن كافة الإجراءات الإدارية والتشريعية التي قامت بها إسرائيل في المدينة مثل التحويلات العقارية ومصادرة الأراضي غير شرعية” كما دعا إلى وقف كافة الأنشطة والإجراءات التي تحاول تغيير تركيبة المدينة السكانية. كما دعا القرار الأمين العام أن يقدم تقريرا حول مدى تنفيذ هذا القرار خلال 60 يوما. والأغرب ما في التصويت على هذا القرار أن سوريا هي التي امتنعت عن التصويت بينما صوتت لصالحه 14 دولة لأن القرار ذكر موضوع “الجزء المحتل من القدس” وكأن هناك جزءا غير محتل. ويلاحظ في التصويت أن حلفاء الولايات المتحدة يتشجعون بالتصويت بـ”نعم” عندما يرون أن الدولة العظمى تصوت مع القرار. وقد صوتت دول مثل نيكاراغوا والأرجنتين مع هذا القرار أسوة بواشنطن.
الرد على القانون الأساسي الإسرائيلي
اعتمد مجلس الأمن قرارين مهمين جدا بعد قيام المحكمة الإسرائيلية العليا باعتماد القانون الأساسي عام 1980 الذي اعتبر القدس رسمياً عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة. وحدد القانون مكانة القدس كعاصمة لإسرائيل وتأمين سلامتها ووحدتها وعدم التنازل عن أي جزء منها قانونا ملزما. كما أقر القانون أن القدس هي مقر رئيس الدولة والكنيست والحكومة والمحكمة العليا. هذا القرار أثار مجلس الأمن فاعتمد أولاً القرار 476 بتاريخ 30 حزيران/يونيو 1980 الذي أكد مجدداً أن “جميع الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل والرامية إلى تغيير معالم المدينة ليس لها أي سند قانوني وتشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين” كما أكد أن “كافة الأجراءات التي تعمل على تغيير معالم مدينة القدس الشريف ووضعها الجغرافي والسكاني والتاريخي باطلة أصلاً ويجب الغاؤها”. وقد صوت لصالح القرار 14 عضوا من بينها الفلبين والمكسيك وجامايكا والنرويج بينما شذت الولايات المتحدة وصوتت بـ “امتناع”. والملاحظ هنا أن القانون الذي سنته إسرائيل فيه اختراق فاضح للقانون الدولي من الصعب هضمه أو التغاضي عنه.
وعندما لم تمتثل إسرائيل كعادتها لأحكام القرار 476 عاد مجلس الأمن واعتمد القرار 478 بتاريخ 20 آب/أغسطس 1980 والذي شجب سن إسرائيل للقانون الأساسي بشأن القدس ورفضها الامتثال لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. واعتبر ضم القدس إلى إسرائيل انتهاكاً للقانون الدولي وطالب جميع الدول بعدم الاعتراف به وطالب الدول التي لديها سفارات بالقدس نقلها إلى خارج المدينة. وجاء التصويت نسخة مطابقة للتصويت على القرار السابق 476 أي بغالبية 14 صوتا مقابل “امتناع” الولايات المتحدة. واعتبر القراران المذكوران أهم قرارات المجلس عن القدس وأرضية للقانون الدولي أشار إليهما معظم من تحدث في جلسة مجلس الأمن التي عقدت يوم 18 كانون الأول/ديسمبر 2017 لمناقشة قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وبدل “الامتناع عن التصويت” قامت نيكي هيلي، مندوبة الولايات المتحدة، باستخدام الفيتو وقتل مشروع القرار الذي حظي على 14 صوتا إيجابيا.
ملاحظات
من الواضح أن إسرائيل ما فتئت تجري تغييرات في مدينة القدس منذ اليوم الأول لاحتلالها، ولم تتوقف هذه الإجراءات لحظة واحدة بغض النظر عن من هو رئيس الوزراء. الإجراءات سارت في خط صاعد تراكمي غير منقطع والمجتمع الدولي يراقب هذه الإجراءات، يشجب ويندد بدون أي مردود على الأرض لا من قريب ولا من بعيد.
والنقطة الثانية أن الولايات المتحدة لم تكن في يوم من الأيام إلا إلى جانب إسرائيل. وكلما تمادت إسرائيل في وحشيتها وعدوانيتها كلما قدمت لها الولايات المتحدة المزيد من الدعم العسكري والمالي من جهة والغطاء السياسي والحماية من المساءلة من جهة أخرى.
والنقطة الأخرى أن هناك تفهما دوليا عارما لحساسية مسألة القدس وتكاد تقف الولايات المتحدة وحيدة معزولة في موقفها مع إسرائيل. وقد ذكرنا عينة من الدول من كل المجموعات الجغرافية ولم نأت على ذكر الدول التي تصوت دائما مع القرارات.
وأخيرا نود أن نلفت نظر الذين يراهنون على المجتمع الدولي وعلى الأمم المتحدة بأنهم يراهنون على حصان خاسر، ولا عجب أن المراهنين من الفلسطينيين قد أوصلو القضية إلى حافة الانهيار الشامل الذي نشهده الآن.