2021- عام انتصار الابرتهايد و\أو وصوله للذروة، فماذا بعد؟
يميل الكثير من الزملاء الاكاديميين والناشطين في الحقل السياسي والاجتماعي الى الاستشهاد بحالة الانتقال الديمقراطي في جنوب افريقيا كحالة ممكن “نسخها” في فلسطين، وهذا برأيي مبالغ فيه، ولا ينظر الى فروق جدية بين الحالتين، لكنننا بالتأكيد نستطيع ان نستلهم امكانيات التغيير مما حصل في جنوب افريقيا قبل ثلاثة عقود، ونستطيع النظر الى بعض الدروس لأجل قراءة ما يحدث في فلسطين. ومن هذه الدروس هو فهم اللحظة او المرحلة التي اصبح بالإمكان ادانة الابرتهايد والعمل جليا على تقويضه كوضع يستند الى نضوج الابرتهايد او تغوله ووضوحه، فكما كل شيء يُعمل على نفيه او ابطاله، تكون عملية مقاومته اسهل او اوضح عندما يكون شفافا، واضحا وجليا.
عام 2021، كما كل ما سبقه، مجبولاً بالكثير الكثير من الاحداث والشخصيات والتطورات، لكنني اختار “انتصار الابرتهايد” ووصوله الذروة كسيرورة، وتعبيراُ عن بنية وليس حدثا محددا كاهم احداث العام. اقترح ان نتخيل العام 2021 كعام انتصار الابرتهايد في فلسطين، او وصوله الذروة، وذلك ليس لأننا لم نشهد احداثا مفصلية اقوى بكثير مما حدث خلال قرن، او اكثر، من سيطرة قوة استيطان-استعماري في فلسطين، مثل اعلان بلفور عام 1917، او اعلان صك الانتداب عام 1922، او النكبة وتهجير الفلسطينيين عام 1948، او حرب يونيو 1967، او اتفاقية اوسلو عام 1993، الخ من الاحداث التي تركت اثرا قويا وعميقا ومؤثرا الى ابعد الحدود، بل لان الاستعمار الاستيطاني الذي اسس نظام ابرتهايد متكامل، وصل الى اعتى قوته، ونجح في حالات كنا قبل عقد او اقل نظن انها غير ممكنه، مما استدعى نشر تقارير دولية تتعقب تطور هذا النظام وتموضعه كنظام فصل عنصري حسب القانون الدولي والنظرية السياسية، واهمها تقرير صدر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، وتقرير صدر عن “هيومن رايتس واتش” وتقرير صدر عن مؤسسة “بتسيلم” الاسرائيلية، هذا عدى عشرات الدراسات والاوراق المنشورة حول الموضوع.
اعني “بانتصار الابرتهايد أو وصوله الذروة” بقائمة طويلة من “الانجازات”، اولها نجاحات واختراقات اسرائيلية غير مسبوقة في العالم الثالث الذي ساند الفلسطينيين اكثر بكثير من دعمه لإسرائيل قبل عقدين او اقل، فضلا عن اتفاقيات التطبيع مع دول عربية واختراق العالم العربي، وهزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل غير مسبوق، وزيادة تبعية المواطنين الفلسطينيين للنظام الاسرائيلي ولمضمونه بشكل اعمق من اي فترة مضت. وفوق كل ذلك، او فيما يتعدى ذلك، تكامل تشييد بنية سياسية يهودية-اسرائيلية تدعم نظام الفصل والتفوق، وتفتيت من عمل على عكس ذلك داخل المجموعة اليهودية، او ادخلهم في نفق الدعم الفعلي لمشروع الابرتهايد، اننا باختصار امام وصول الابرتهايد وتقدم المشروع الكولنيالي الاستيطاني الى نقطة الذروة، قد يأتي ما بعدها ذروات لاحقة، لكنها ممكن ان تتغول اكثر او ان تزول تدريجيا، وذلك يتعلق كثيرا بنا، نحن الفلسطينيين، الضحايا الاساسيين لهذا النظام المتفاقم.
بعد ثلاثة عقود من مؤتمر مدريد واتفاقيات اوسلو، التي مثلت ذروة الاعتقاد باننا نقترب من تحقيق حل الدولتين والتصالح بين الشعبين، اليهودي-الاسرائيلي والعربي-الفلسطيني، ونشوء حالة من التطبيع بين التطلعات القومية للشعبين، تبين لاحقا بان تلك الذروة كانت ممكنه، لان اللاعبين المركزيين محليا ومناطقيا ودوليا، رغبوا بها، لكنهم لم يعدوا او يسيروا جديا لتنفيذها، وتصدر احد اللاعبين المركزيين لتلك الذروة، واعني اسرائيل، وافسدها تماما، مخلفا لحظات للتأمل والتفكير، والخلاف حول معناها، بدون اية امكانية لتنفيذها.
هنا اود ان اوضح معنى الانتصار اعلاه، سوف اقدم باختصار شديد تجليات هذا الانتصار، مع تأكيدي بانها تستحق كتابا او اكثر، لكنني سأعرضها باختصار ملائم لمقال قصير، وبشكل يفيد في توضيح فكرتي حول هذا الانتصار.
اولا، انتصار مشروع اليمين الاسرائيلي وتلاشي اليسار الى نقطة غير مسبوقة. فبعد اربعة جولات انتخابية خلال العامين الفائتين، تمخضت الانتخابات الاخيرة –مارس 2021- عن اقامة حكومة اسرائيلية هجينة من يمين ويسار وفلسطينيين، قائمة على استثناء نتنياهو والليكود وحلفائه من الاحزاب المتدينة. وتعرض الحكومة على انها “حكومة تغيير” ومع برنامج جديد، الخ. الحقيقة انه لا يوجد اي اساس لهذا الادعاء، وخصوصا في قضايا الصراع مع الفلسطينيين، والتي تقع ضمن القضايا الخلافية كما اتفق بين مركبات الائتلاف، والتي لا يجوز اتخاذ قرارات واجراءات بصددها، اي ان ما كان زمن نتنياهو سيكون هنا. بكلمات اخرى استمرار مشروع التهويد والاستثناء وعدم توقيفه، وتدل الميزانية الاخيرة التي اقرت بدايات نوفمبر الحالي بذلك. كما في ذلك القضايا الجوهرية للفلسطينيين في اسرائيل، مثل قانون القومية وباقي القوانين التي تعد مركبا اساسيا في نظام التفوق العرقي، ولا في قضايا توزيع الاراضي، ولا في قضايا التمييز المركزية، وتكتفي بفتات من دعم مالي محدود جدا، بالإضافة الى اعتراف مشروط بالتنازل عن الارض لثلاث قرى بدوية في النقب، مع ترك باقي القرى –حوالي 25- في مهب الريح والعرضة للاقتلاع والتهويد.
في سبيل التدليل على ما اقول، قام د. منصور عباس – رئيس القائمة الموحدة، قبل ايام، وبعد تصويته ضد مشروع اقامة مستشفى في سخنين، بتصريحات تبرير ذلك بان هنالك اتفاق داخلي داخل الائتلاف بعدم دعم مشاريع غير متفق عليها، وايضاحه بانه لا يدعم مشاريع مثل مشروع المستشفى تماما كما يفعل شركاءه في الائتلاف بعدم تقديم مشاريع خاصة –اضافية- لدعم الاستيطان. في هذا الكلام خداع كبير لجمهور المستمعين، فإفشال مشروع قرار لإقامة مستشفى في سخنين (وحتى قرار اقامة مستشفى) لا يعني ابدا اقامة مستشفى حكومي في بلد عربي، اما تقديم مشاريع قانون لدعم الاستيطان وانجاحها او افشالها فليس لها اي تأثير، فالاستيطان قائم بقانون وبغيره، ولا تستطيع الحكومة ولا الكنيست، وباي نوع من القرارات توقيف ذلك. اي انه عمليا د. منصور عباس جزء من حكومة تدعم الاستيطان ضمنا، اذا لا عباس – ولا غيره – يستطيع توقيف ذلك، بينما موقفه ضد اقامة مستشفى فإنها تحمل معنى واحد، انه يقف هو ومن يدعمه ضد مصالح شعبه، حتى لو ان ذلك من قبيل الاعلان وليس له علاقة بإمكانيات التنفيذ.
ثانيا، اختراقات دولية وعربية غير مسبوقة. هنا القصد بانه مع استمرار الاستيطان والتهويد وتوحشه، ومع الاعلان للحكومة الحالية وسابقتها برئاسة نتنياهو، ومع الوقوف بوضوح ضد اقامة دولة فلسطينية وانهاء الاحتلال، وهي شروط كانت تسوّقها دول مساندة للفلسطينيين، بما في ذلك في العالم العربي، وقبل عقد من الزمن او اقل، كشرط لفتح علاقات مع اسرائيل، بدأت دول افريقية والهند والصين وروسيا ودول في امريكا الجنوبية وخمس دول عربية –الامارات والبحرين والسودان والمغرب وموريتانا- ببناء وفتح علاقات غير مسبوقة مع اسرائيل، التي تمارس سياسات قمع وتهويد وابرتهايد مكشوفة، اكثر من اي وقت مضى. اقصد بان نظام الابرتهايد يحصد نجاحات واعترافات ودعم دولي غير مسبوق، وهذه انجازات وصلت اوجها عام 2021.
ثالثا، تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية وادائها بشكل غير مسبوق وتحولها الى مركب مهم في تشكل الابرتهايد. وهي عملية تراجع ممتدة منذ عدة عقود، وتعاظمت مع وصول محمود عباس الى قيادة الحركة الوطنية ،المنظمة والسلطة، لكنها وصلت ذروتها متمثلة في التراجع في العام 2021، وخصوصا بعدما اعلن عباس ابطال الانتخابات العامة بسبب خشيته من خسارة حركة فتح في الانتخابات، وتزامن ذلك مع تصعيد كبير في الاعتداء على المواطنين والنشطاء بشكل اكثر من ذي قبل، عبر عن ذلك باغتيال الناشط نزار بنات وقمع وحشي لمظاهرات الاحتجاج في اعقاب ذلك.
كل هذه التطورات مع توضيح باننا لسنا امام حل منصف، ولو قليلا للفلسطينيين، بل نحن امام سلطة وطنية هي بالحقيقة بانتوستان مساند للاحتلال ويعمل لحفظ مصالح اسرائيل وامنها، ومن خلال ذلك الحفاظ على المصالح الشخصية المادية والمناصب للمتنفذين للسلطة، بما في ذلك دعمهم الضمني لنظام الابرتهايد وكونهم جزء مهم من تشكله. هنا يمكن الإطالة بالشرح والتفسير، لكن الامر واضح برأيي وكتب عنه كثيرا خلال السنة المنصرمة وقبلها، وممكن الرجوع لذلك لمن يرغب بالاستزادة.
رابعا، تحول جوهري في نشاط الفلسطينيين في اسرائيل، من مقارعة الابرتهايد الى دعمه. تاريخيا ناضل الفلسطينيون في اسرائيل في غالبيتهم الساحقة في اطار ما سماه كل من اريج صباغ-خوري ونديم روحانا “المواطنة الاستعمارية”، وشهد تاريخ نضالهم موجات من الصعود والتراجع، من نضالات الخمسينات من القرن الماضي، مرورا بمقاومة الحكم العسكري حتى اواسط ستينات القرن الماضي وصولا الى نضالات يوم الارض وفي سبعينات القرن الماضي، ونضالات المسكن والمساواة المدنية التي تعاظمت في ثمانينات القرن الماضي مع ارتفاع منسوب الايمان بإمكانية انهاء احتلال الضفة والقطاع واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة الى جانب اسرائيل، مع قبول الفلسطينيين في اسرائيل بمكانة المواطنة المتساوية في اسرائيل، وهو مسار وصل ذروته مع اوسلو ودعم حكومة رابين من قبل الاحزاب العربية في الكنيست.
تنامت في تسعينات القرن الماضي وما تلاها قوة الفلسطينيين في اسرائيل وعناصر تنظيمهم الجماعي، مما قاد الى ارتفاع صوتهم بوضوح ضد نظام الاستعمار الكولنيالي والفصل والتفرق الاثني -الابرتهايد وقد تجلت مواقفهم المناهضة للابرتهايد والداعية الى مساواتهم في وطنهم في اعلان وثائق “التصور المستقبلي”، التي شارك في اعدادها مثقفين وسياسيين من كل التيارات السياسية لدى الفلسطينيين في ال-1948، وخصوصا في وثيقة “التصور المستقبلي” التي رعاها رئيس لجنة المتابعة العليا، واقرت رسميا في لجنة رؤساء المجالس والبلديات في بداية عام 2007.
صيغت وثائق التصور المستقبلي في سياق انسحاب اسرائيل من امكانيات التسوية السياسية مع منظمة التحرير، لكن غالبية المشاركين في التحضيرات لإطلاق هذه الوثائق اعتقدوا بوجوب الاستمرار في مطلب اقامة دولة فلسطينية وعودة اللاجئين والمساواة للمواطنين الفلسطينيين في اسرائيل. لكن مسألة الحل السياسي على اساس المفاوضات نفقت نهائيا مع صعود نتنياهو للحكم عام 2009، وبذلك فان فكرة الحل السياسي لم تعد حتى تسمح بوجود امل باي حل سياسي معقول، وبدا مشروع بناء نظام الابرتهايد اكثر وضوحا ما سبق، بما في ذلك تقوية وتدعيم نظام التفوق العرقي داخل الخط الاخضر، ووصوله الى الذروة في اقرار قانون “اسرائيل الدولة القومية” عام 2018. هذه التطورات ادت الى فرز واضح داخل الفلسطينيين في اسرائيل، بين من يعارض نظام التفوق العرقي ويواجهه، وبين من يتماثل معه ويسانده، وحتى انه يبادر الى تقوية العلاقة الحميمية والتماثل معه. وقد زادت قوة التيار الثاني، الداعم للابرتهايد، بشكل مباشر وواضح او بشكل غير مباشر في العامين المنصرمين، وهذا التطور شكل انتقالا جديا في سياسات الفلسطينيين في اسرائيل على مركباتهم الاساسية، الموحدة والمشتركة بشكل اساسي، كما سنبين ادناه.
عند الحديث عند دعم الابرتهايد في العقد الاخير يذهب الكثيرون الى الاعضاء العرب في الاحزاب اليهودية المركبة للائتلاف الحالي والذين قبلوا الانضواء داخل الابرتهايد ضمنيا وخدمته، بما في ذلك تمثيل اسرائيل في العالم، بما في ذلك دول العالم العربي وفي لقاءات مع السلطة الفلسطينية ورئيسها، او الى ظاهرة د. منصور عباس ودخول القائمة الموحدة للحكومة، التي تمارس وتشيد نظام الفصل العنصري والابرتهايد بشكل لا يقل عن سابقاتها، لكنني اعني بان الامر اكبر وابعد من مشاركة الموحدة ومنصور عباس. بالنسبة للموحدة ولد. عباس الامر واضح ولا لبس فيه، فقد اختار ان يكون جزءا من حكومة ابرتهايد، من حيث اعلان اقامتها كما في حيثيات عملها، وتنازل طوعا عن مواقفه السابقة ضد التفوق العرقي. وتدلل على ذلك عشرات الوقائع والتصريحات لمركبات الموحدة: دعم سياسات الحكومة داخل الخط الاخضر وخارجه بما في ذلك في القدس، ومسؤوليتها في ذلك كشريك في الحكومة، تمرير ميزانية تدعم الابرتهايد، تصويتها الى جانب او امتناع بعض اعضائها في قانون “لم شمل العائلات”، وتغاضيها عن قوانين التفوق العرقي وعشرات الخطوات العملية التي تعتبر جزءا من الابرتهايد ومبنى الفصل والتفوق العرقي، وتصريحات منصور عباس بشأن دعمه “لميزانية تدعم امن اسرائيل”، وهنا أيضا لا حاجة للتوسع، فالدلالات كثيرة وكتبت تقارير ودراسات عديدة بصددها، ويمكن الرجوع اليها بسهولة.
الامر الذي لا يقل خطورة في هذا السياق هو ما قامت به المشتركة بقيادة رئيسها النائب ايمن عودة. لقد تقلد عودة منصب رئيس قائمة الجبهة الديمقراطية، وترأس القائمة المشتركة اوتوماتيكيا بفضل ذلك، وكشاب له مساهمات في التصورات المستقبلية وفي نضالات سابقة توسمت خيرا من انتخابه وترأسه للمشتركة وحتى انني نشرت مقالتين في المجلة العالمية “فورن افيرز”، عنه وعن المشتركة واهميتها. فعلا، شكلت القائمة المشتركة امكانية جدية لتنظيم صفوف الفلسطينيين وتعضيد قوتهم في مجابهة نظام التفوق العرقي وسياسات الدولة، داخل وخارج الخط الاخضر. الا ان الواقع حمل الكثير من التراجع في السياسات الجماعية للفلسطينيين في اسرائيل وتردي قوتهم السياسية في الحيز العام، وذلك بدأ قبل انسحاب القائمة الموحدة من القائمة المشتركة، لكنه تعاظم بعدها، ومنعها من تقديم اي انجاز جماعي ملموس لمصلحة مجتمعنا، ويمكن ان ينسب الى القائمة المشتركة خلال ست سنوات من نشاطها، وذلك رغم ان المشتركة مثلت ارتفاعا موضوعيا جديا في قوة الجمهور الفلسطيني في اسرائيلي، فما تفسير ذلك؟
يرجع هذا الاخفاق الى عدة اسباب، اهمها قوة الدولة وسياساتها في اخضاع ابناء الاقلية العربية، والدعم الكبير لسياسات التفوق العرقي لدى الجمهور اليهودي في اسرائيل، ومن اسباب التردي يمكن ايراد ضعف الاداء السياسي المنفرد للأحزاب المشكلة للمشتركة، وضعف قياداتها في تناول القضايا الجمعية والوطنية للفلسطينيين في اسرائيل، وتراجع الوضع العربي والفلسطيني عموما. لكن اهم الاسباب، هو دور ايمن عودة شخصيا في اضعاف النضال الفلسطيني في اسرائيل، وذلك يرجع الى عاملين اساسين. الاول ضعف دوره كقائد وعدم تمكنه من اداء هذا الدور، وثانيا، اتباعه مواقف وطرق مقصودة لأجل خدمة اهداف ليس لها علاقة بالوضع الجماعي للفلسطينيين في اسرائيل. اعني تحديدا قيامه بالانضواء تحت سقف سياسات الابرتهايد والاستعمار الكولنيالي، وقيامه شخصيا بالدعوة من على منصات عديدة لقبول اسرائيل كدولة “يهودية” وقد قام بذلك محليا وعالميا من خلال منصات وفرتها له جمعيات ومراكز ابحاث ولوبيهات تعمل في سياق دعم اليسار الصهيوني ومشروعه في دولة “يهودية-ديمقراطية” وتدعم حل “الدولتين” الذي اصبح غير منطقي وغير ممكن عمليا. فضلا عن التصوية على غانتس والاعلان عن دعم حكومة يشكلها، وفقط رفضه منع استباق تجربة القائمة الموحدة ولو بشكل اقل حدة.
باختصار تفسيري المركزي هو ان عودة، ومن وراءه المشتركة، عمل قصداً على منع بناء مشروع سياسي جماعي ووطني للقائمة المشتركة يقوم بتحدي جماعي للأكثرية وممثليها وسياساتها، وذلك بفضل ضغوطات وقعت عليه و\او تقييمات شخصية، هدفت الى ارضاء اليسار الصهيوني وجمعياته وصناديق وممولين يعملون على دعمه، خصوصا من قبل يهود امريكيين، وشمل ذلك وصول اموال بمبالغ كبيرة لدعم جمعيات عربية ونشر ثقافة افساد مثقفين واعلاميين، وهي اموال لا زالت تتدفق حتى كتابة هذه السطور، وتهدف برايي الى “شراء المشتركة” والجمهور الفلسطيني في اسرائيل من خلفها. والاسوأ من ذلك كله هو تشجيع قيادات في السلطة ومنظمة التحرير وجزء كبير من قيادات ونخب الاحزاب الفاعلة في الداخل، لهذا النهج الذي ضرب العمل الوطني في العمق.
هدف اليسار الصهيوني ومموليه من يهود امريكيين وغيرهم الى اخضاع الفلسطينيين في اسرائيل الى مشروع “الدولة اليهودية-الديمقراطية” وبث امل واهم بان مشروع حلّ الدولتين لا يزال قائما، وان المساواة الفردية في الدولة اليهودية للفلسطينيين في اسرائيل هي الحل لمشاكلهم، وقد لعب عودة، ومن خلفه المشتركة، دورا مركزيا افقد الفلسطينيين في اسرائيل قوتهم المفترضة في احداث تغيير جدي في مواجهة الاستعمار-الاستيطاني في فلسطين ونظام التفوق العرقي القائم منذ 1948 والمتعاظم بعد احتلالات 1967. وطبعا لا يمكن فهم هذا من غير الانتباه الى تهتك العمل الجماعي وتعمق النيوليبرالية الاقتصادية الفردية بين الناس، وتفتيشهم عن اي انجاز تحت شعار “بدنا نعيش” والامر مدعوم بطيف كبير من المثقفين والاعلاميين والمروجين لخط الخلاص الفردي، وحتى الجماعي، من خلال القبول بانتصار التفوق العرقي والعيش في كنفه.
******
ملاحظة عن “محاربة العنف”
لا يمكن فصل الاخفاق والتردي في العمل الجماعي، عن تفشي ظاهرة العنف والجريمة، وطرق تعاملنا نحن، المجتمع الفلسطيني في اسرائيل، ونخبنا وقياداتنا، معها. فقد شكلت، ولا زالت، اهم ظاهرة تقض مضاجع مجتمعنا في كل المستويات، وهي كذلك لأنها اصبحت شاغلا للناس ومصدر خوف رئيسي لهم. طبعا كلنا نعرف بان ظاهرة العنف ليست جذر المشكلة، بل انها العارض لمشكلة تشكلت تدريجيا نتيجة لسياسات الدولة الاستعمارية ولترتيبات نظام التفوق العرقي، كما لانفصالنا عن الهوية الجمعية الفلسطينية من حيث المشروع السياسي، بالإضافة الى عوائق اجتماعية وبنيوية لها علاقة بمجتمعنا.
تصل ذروة العنف في اعداد متزايدة من الضحايا الذين يقتلون في بيوتهم والمقاهي والشوارع، لكنه من المهم الاشارة هنا الى امرين. الاول، القتل، وهو ذروة العنف، قد يصل من حيث الكم الى عشرة بالمائة من ظاهرة العنف – على اعلى تقدير- اذا فكرنا في العنف الاجتماعي والفردي والعائلي وفي المدارس وفي الشوارع والاعتداءات على الاملاك العامة واغلاق الشوارع في المناسبات الخاصة، الخ… وثانيا، تتنوع مصادر القتل على الاقل بحسب السياق، اعني ان نصف من قتلوا –حسب تقارير جمعيات تعمل بالموضوع- تم الاعتداء عليهم في سياق اجتماعي من حيث شجارات وتجاوزات اجتماعية، وخلافات داخل العائلات وبينها، بينما تصل نسبة الاعتداءات من قبل عصابات الاجرام على خلفية الخاوة والمنافسات على تملك مصادر مالية في المجالس المحلية وغيرها الى 50 بالمائة، او اقل.
في هذه الوضعية، ما يمكن ان يكون مجابهة شاملة للظاهرة، هو العمل على اعادة بناء مجتمعنا وسبل تعضيد بناه الاجتماعية والثقافية، على الاقل بنفس الحالة التي كانت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وهو ما رمت اليه المتابعة في “مشروعها الاستراتيجي لمكافحة العنف”، والذي عملت على انجازه طاقات مهنية عربية رائعة وكبيرة. لكن قياداتنا والكثير من نخبنا اختارت الطريق الاسهل، تحميل حصري لشرطة اسرائيل ومؤسساتها مسؤولية ذلك من حيث علاج المشكلة. وتكفي هنا مراجعة تصريحات في الآونة الاخيرة لرئيس لجنة المتابعة، ولأعضاء الكنيست ورؤساء سلطات محلية. وكلها تدور حول مسؤولية الدولة حصريا وحول اهمية “مشروع مكافحة العنف” المقر من قبل حكومة اسرائيل، ومطالبة الشرطة لتطوير أدائها، الى اخره،.. اي تسليم الدولة مهمة مكافحة العنف والتلويح بإخفاقاتها او نجاحاتها كل حسب موقعه.
طبعا تحمل الدولة والشرطة مسؤولية جمع السلاح، الذي سهلت انتشاره سابقا، وهو امر واضح وجدير ويجب ان يكون، لكن تسليم الدولة ومؤسساتها واذرعها، من شرطة وشاباك ووزارات، الخ.. مسؤولية مكافحة العنف، كما سلمناها سابقا تعليمنا كاملا، واقتصادنا كاملا، وقسطا كبيرا من ثقافتنا، الخ.. لاننا لا نملك ارادة وطنية جماعية مقاومة للتفوق والفصل العنصري واستمرار مصادرة وطننا وارادتنا، وعدم مطالبة فعالياتنا ومجالسنا وجمعياتنا بذلك، يعني ان هندسة مجتمعنا من خلال اعادة بنائه على خلفية الخراب الحالي ستكون مهمة خارجة عن ارادتنا وستعمل الدولة على هندسة مجتمعنا كما تريد. هذا يعتبر انتصار اخر للسياسات الاستعمارية ولنظام التفوق العرقي، طبعا بسكوت جزء كبير منا وبدعم نشط لجزء ليس باقل.. اننا نسلم مجتمعنا ثمرة ناضجة لنظام الابرتهايد، لان قياداتنا ونخبنا، في غالبيتها الساحقة، لا تريد او لا تستطيع تحمل دورها في هذا السياق تحديدا.
نحو المستقبل
وصول الابرتهايد الى الذروة من حيث انتصاراته ونجاحاته، ممكن ان تكون نقطة الذروة لحظة تقود لانتصارات اخرى، وممكن ان تكون بداية التهاوي والسقوط كما حدث في جنوب افريقيا. فتغول الابرتهايد والسياسات الاستعمارية، داخليا وخارجيا، هي التفسير لصدور تقارير دولية واسرائيلية حول الابرتهايد وجريمة التفوق العرقي، وهي التفسير لاعتقاد غالبية الاكاديميين الذين يعملون حول الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي في جامعات الولايات المتحدة والغرب، بان ما يحصل في اسرائيل\فلسطين هو نظام تفوق عرقي، ابرتهايد (واشنطن بوست 17\9\2021 ). هذا الفهم وانتشاره في العالم، هو التفسير المركزي لنجاحات تقودها طاقات شبابية في الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، مثل حركات المقاطعة، وطرد سفيرة اسرائيل في بريطانيا من ندوة جامعية، وغيرها من عشرات النشاطات التي تشير الى تعمق الفهم بان اسرائيل اقامت نظام استعمار استيطاني طور نظام ابرتهايد وتفوق عرقي، اعني ان وضوح “الانجازات الاسرائيلية” هي التي مكنت معارضي الابرتهايد من تدعيم مواقفهم ضد هذا النظام، تماما كما حدث في برامج مقاومة الابرتهايد في جنوب افريقيا في الغرب عموما، والولايات المتحدة خصوصا، في ثمانينات القرن الماضي.
نستطيع التقاط فرصة “ذروة الابرتهايد” للعمل على تقويضه نهائيا، ولو بمراحل، والنخب الفلسطينية، وعموم فعاليات الشعب الفلسطيني، داخل وخارج الخط الاخضر، تستطيع القيام بالكثير في سبيل ذلك، ولنا في تجربة المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع تحت الاحتلال عام 1967 وفي تجربة سبعينات وثمانينات القرن الماضي لدينا هنا في الداخل، دروسا كثيرة في كيفية التصدي وبناء المجتمع وارادته. لقد بدت ملامح تغيير فلسطيني ممكن خلال مواجهات مايو 2021، في تشييد موقف وعمل ميداني فلسطيني وموحد وعابر للحيثيات الخاصة لكل مجموعة، وهو مجهود اجهض لأسباب عدة اهمها دخول حماس على “خط المقاومة” واطلاقها صواريخ في العمق الاسرائيلي، مما افقد المناضلين الشباب في الشوارع والاحياء المختلفة، داخل وخارج الخط الاخضر، صوتهم وقوتهم المميزة في مقارعة التفوق العرقي واستراتيجيات الاستعمار في القدس وغيرها. لكن امكانيات العمل لا زالت مفتوحة وتنادينا لالتقاط الفرصة. بداية يجب ان نعمل على اعادة بناء الوعي العام، من قبول التفوق والانخراط به، الى مقاومته، من خلال العمل على تشييد وعي وطني للكل الفلسطيني وملتزم بالقيم الانسانية المعادية للابرتهايد وللتفوق العرق. كما نستطيع المساهمة في رسم خريطة طريق لخروج دولي وعربي وفلسطيني واسرائيلي من الابرتهايد والوضع الاستعماري، الى ما بعده – وهذا اضعف الايمان في هذه المرحلة، فهل نقوم بذلك؟