2020 … مرحلة تبدأ وليست سنة تنتهي ..
باستقالة التنظيمات السياسية الرسمية الممثلة للحركة الوطنية الفلسطينية، منظمة التحرير وجميع فصائلها من تاريخ الصراع والتحرر الفلسطيني، يغلق باب على تاريخ هذه الحركة أوافق مع من يعلن عنه تحت عنوان هزيمة الحركة الوطنية الفلسطينية.
أن مرحلة التوسع الحالية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي، الذي تفوق على المشروع الصهيوني الأب، بقدرة الأخير الفائقة على استخراج النتيجة المثلى لتقاطع الأيديولوجيا والعامل الذاتي مع الظروف الموضوعية، والذي فيه تتخذ الدولة العبرية دورا أقليميا وعالميا عنيفا وشريرا لم تحلم به الصهيونية، تشكل تغيرا نوعيا نستطيع تسميته “انتصارا” –وإن كان انتصارا قابلا للرجعة- لكنه انتصار على أية حال.
وتنعكس الهزيمة الفلسطينية في اضطرارنا لإعادة تأكيد سرديتنا التاريخية بل وإحيائها وتدعيم مقومات شرعيتها، وفي الحاجة لإعادة بلورة المشروع الوطني الفلسطيني على أنقاض تصورات سياسية انهزامية ومتشرذمة، كما في الحاجة لإخراج “السلطة الفلسطينية” من المشهد السياسي حيث نجح الاحتلال في تحويلها لثورة مضادة.
لكن هذه المؤشرات ذاتها تحديدا، تشير إلى انتصار الإرادة الفلسطينية المصرة، في تأكيد حي لما يشير إليه علماء الاجتماع بأن “نهاية العالم لا تعني نهاية كل العوالم”، ليس فقط بمعنى أن التاريخ لا يموت، حركته وصراعاته، بل أيضا أن ما قد يبدو موت قضية ما – والكثير من القضايا تموت طبعا- لا يعني موتها بالضرورة، بل قد يعني إعادة تشكلها وفق نسق جديد، سيتخلف الفكر عن الواقع في فهمها.
هذه التطمينات لتي نحتاجها حقيقة، والتي تعلن عدم ” موت الإنسان الفاعل” أو بالأحرى الذات الفاعلة، تشير إلى تزايد وزن هذه الذات على حساب الحركات الاجتماعية أو الحراكات الكبرى التي تموت أو تخرج من التاريخ، بمعنى أن النسق الجديد أي المرحلة الجديدة بقوانينها ومفاهيمها الفكرية، تحمل أشكالها الخاصة من التمرد إلى جانب سطواتها وهيمناتها الجديدة. وإذا كانت حكمة الأدب تسبق أحيانا حكمة العلوم الاجتماعية، فإننا نستطيع الاكتفاء بمقولة شاعر كردي (أعترف بأنني نسيت اسمه) بأن فلسطين ستنتصر ما دام الفلسطينيون قادرين على تخيلها.
بالتالي واعتمادا على آلان تورين عالم الاجتماع الذي رأى أن مهمة علم الاجتماع تكمن في تشخيص مكامن التغيير في العالم، نستطيع أن نشخص في بؤر التمردات الفلسطينية والحراكات المبعثرة الآن لكن المصرة على المراجعة للمضي قدما، ملامح بارادايم جديد في المقاومة والفعل الاجتماعي. وأعتقد أن ما ينقص الفكر الفلسطيني، أو بالأحرى الذات الفلسطينية المتهالكة والتي تريد الخروج وقوفا من بين أنقاضها، هو ليس نظريات وتصورات وقناعات سياسية، فقط، بل أيضا وربما بالأساس قناعات وتصورات تتمحور حول قدرة الإرادة الذاتية للإنسان وآليات المجتمع في توليد بؤر احتجاجاته وتمرداته، أي قدرة الذات الفاعلة على الصمود والفعل الجديد عندما تتعرى وتيتم من تنظيماتها ومن نخبها وحتى من ثوابتها وبديهيات تفكيرها وعملها، كما هو حاصل اليوم فلسطينيا. هنا يأتي دور علم الاجتماع تحديدا لكي ينقذ من يرى انهيارات كبرى تحدث أمام عينيه، ويظن أنها “نهاية العالم”، فيما هي نهاية مرحلة.
وبطبيعة الحال لا تستطيع أي مرحلة أن تعلن هي نفسها انسحابها من التاريخ، من يعلن عن ذلك هي مرحلة أو نسق فكري (بارادايم) يرث مكان السابق داحرا مفاهيمه وحاملا مفاهيم جديدة تستطيع إعطاء معنى شجاع لما يحدث، والمعنى الشجاع هو ذاك الذي يستطيع أن يفهم العالم بطريقة تجعله دائما قادرا على تشخيص مكامن القدرة على التغيير والتمرد، “فالحكمة شجاعة دائما”، كما قال أحد الأعزاء.
حوار وطني مع الداخل …خاضع لمرجعية وطنية واضحة
عالم الانهيارات هذا الذي يعيشه الفلسطيني في كل مكان، يبدو أنه يقفز عن الداخل تحديدا، ليس لأن الداخل يعيش مرحلة ازدهاره، بل لأنه يروي قصة انهيار أخرى. وذاك مصيبة بحد ذاتها.
كان التشخيص الفلسطيني يتحدث دائما عن تشرذمات سياسية وليس فقط جغرافية. لكن ذلك يحتاج الآن تحديدا لنقطتي نظام: الأولى، وهي فكرة كررتها، أن الداخل ليس مجرد شرذمة من شرذمات القصة، بل قد يكون عبارة عن قصة أخرى. لقد ربط ال 48 دائما معايير “وطنيته” و”نضاله” و”هويته” بمفاهيم صنعا وقام بتعريفها هو، ولم تخضع يوما لمرجعية فلسطينية وطنية عامة، حتى تضخمت شعاب مكة الصغيرة واستقلت فتحولت إلى جمهورية لا يدخلها أحد ولا يناقشها أحد.
أما نقطة النظام الثانية التي نحتاج تثبيتها، هي أن على حالة المواطنة التي نعيشها ألا تتحصن –كما يجري التوافق عاد- كاستثناء من حوار وطني يحتكم لبوصلة واحدة. هذا صحيح دائما، لكنه صحيح الآن أكثر (كنت أود لو تبقى “الآن أكثر” لسياق آخر)، فنحن الآن نحتاج لمرجعية فلسطينية وطنية عامة، تفرض نفسها على ما يجري في الداخل، وتحمينا من أنفسنا، وذلك لأسباب عديدة، أهمها:
أولا: المرحلة التاريخية الحرجة التي يمر بها شعبنا لا تقبل استثناء الداخل.
ثانيا: أن شعبنا يرى أن لا خروج من حالة الانهيار الحاصلة إلا عبر مبدأ “شعب واحد، قضية واحدة، وطن واحد”، بالتالي، فإن استثناءنا يعني انهيار هذا المبدأ حتى قبل أن يبدأ.
ثالثا: أننا في الداخل نغرق في حالة من الأسرلة تقودها شخصيات سياسية أحدها يروج لغانتس والآخر لنتانياهو، ووفق منطق الإثنين عليهما الآن أن يتفقا على جدعون ساعر الليكودي. الأول لأنه بهذه الطريقة يتخلص من نتانياهو والثاني لأنه قرر أن جيب اليمين يستطيع أن يتسع لنا كجيب اليسار، وأن الجيوب في الهواء سواء. هذه الحالة التي تعاني منها المشتركة ومعها السياسة في الداخل، حيث لا فاعل حقيقي آخر في المشهد، هي نتاج أداء المشتركة نفسها، الأمر الذي أضعف من قدرتها على محاصرة نهج منصور عباس وقصة حبه المريضة مع نتانياهو، واعتباره متناقضا مع أدائها. هو فقط مختلف، وخارج عن الإجماع، صحيح، لكنه ليس متناقضا بأي حال من الأحوال.
رابعا: أن “نخبنا” السياسية، تلك الحزبية المتحررة فكريا من أزمات أحزابها، وتلك الناشطة سياسيا وتلك الأكاديمية، لا يبدو أنها تتفاعل أو أنها تستطيع لوحدها أن تتفاعل مع تحدي المرحلة، مع أنها “المرشح” الأقوى لالتقاط اللحظة التاريخية لشعبنا: لحظة التقاطع بين إفصاح إسرائيل عن مشروعها الاستعماري لمواطنيها عبر قانون القومية، وبين إعادة إحياء مبدأ “شعب واحد، قضية واحدة”، أقول رغم أن تلك الأوساط هي المرشحة “الطبيعية” –ربما الطبيعية وربما لا- لالتقاط هذه اللحظة التاريخية، إلا أن بعضها، يختار أن يرى التاريخ من زاوية منصور عباس. مع أن التاريخ لا يقرأ من القاع فقط، بل أيضا من السماء.
بالتالي يفتقد الداخل حاليا هذا الصوت الأخلاقي القوي والحاضر في المشهد السياسي، الصوت الذي أنتجه التيار القومي منذ النكبة، والذي عبرت وثيقة حيفا عن هيمنته. وقد يكون تراجع بعض المثقفين عن “وثيقته”، أن صوت المثقف كغيره، بعضه نتاج هيمنات سياسية، حيث يختار هذا البعض أن يقف مع التيار القومي المتصادم مع الصهيونية عندما يهيمن الأخير على المشهد، لكنه يختار أيضا أن يقف مع التوصيات المتتالية على غانتس عندما تتقهقر السياسة وتتقهقر مكانة المشروع الذاتي للضحية، ويهيمن صوت الهامشية. أما تلك الأصوات التي ما زالت خارج المناخ السائد، فهي صامتة، قامت أريج صباغ في مقابلتها ” أكاديميون من الداخل يقودون العودة إلى الإطار الكولونيالي”، مع سليمان أبو إرشيد في موقع عرب 48 بالإشارة لها، لكن الداخل يحتاج لحضورها الفاعل في المشهد السياسي كما لم يحتجه من قبل.
خامسا : لا تمثل المتابعة فاعلا سياسيا بأي معنى من المعاني، وما الصمت الفضائحي لانتخاباتها الأخيرة، واحتكامها لسقف السلطات المحلية فيما يتعلق بالتعاطي مع قضية الجريمة والعنف، إلا مؤشرات مؤلمة لذلك.
سادسا: لا فاعل اجتماعي آخر على الأرض، لا الحراكات الشبابية ولا الجمعيات الحقوقية ولا الأطر النسوية ولا الحراكات الثقافية مرشحة للعب أي دور سياسي فاعل أو حتى ضاغط ومؤثر على المشهد العام، أو على الأقل محرك للركود، ويقتصر دورها حاليا المهم بكل الأحوال، والمؤجل ربما ليتوسع لاحقا، على جمهورها المباشر أو على حلقات ضيقة. لكن بعضها يمثل مع ذلك “بؤر التمردات” وجزر الحفاظ على بعض المقولات الرومانسية في السياسة، وأنا من أولئك الذين لا يفهمون كيف تكون سياسة الضحية التي تعمل ضد العالم، خالية من الرومانسيات ومن عواطف الشغف التي تجرك الإنسان وتحافظ على رشده أمام ما يغلفه من جنون.
سابعا: أن اعتبار الداخل لأنفسهم وسلوكهم السياسي جزءا من قصة إسرائيلية ومن حيز إسرائيلي وليس جزء من حركة وطنية فلسطينية، لا تعني “خصوصية” بل باتت في هذه المرحلة تعني بالضرورة تخريبا وطنيا. فنحن عندها وليست إسرائيل،من سنتكفل بتقويض سرديتنا التاريخية ومن سنناقض مطالب شعبنا بالعدالة التاريخية و”بوحدة الشعب والقضية والوطن”، وبحقيقة إسرائيل الاستعمارية. إن عدم إدراكنا في الداخل للقوة الاستراتيجية للمواطنة، كسياق يستطيع نزع الشرعية عن جوهر وطبيعة إسرائيل ويقدم بالموازاة مشروع مواطنة بديل يتسع لحدود الوطن هو خسارة صافية لشعبنا ولنا كجزء منه.
لم يعد هنالك بعد قانون القومية/صفقة القرن، معنى لأي تمايزات سياسية بيننا، سوى بين تلك المتعلقة بالتباين بين سلوك يعكس منطق حركة وطنية فلسطينية، وبين سلوك يعكس منطق لعبة إسرائيلية، والقضية في النهاية ليست “موازنة بين الوطن والمواطنة” كما يتغطى البعض أمام كل سلوك إسرائيلي، فالموازنات في السياسة تخضع في النهاية لموازين القوى، ونحن نعرف جيدا قوة مواطنة إسرائيل.
هذه القراءة للداخل، تفيد بأن شعبنا الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، لا يستطيع أن ينظر إلينا منتظرا نتيجة ما ستسفر عنه صراعات القوى داخلنا: خيارنا بأن نكون جزءا من مشروع شعبنا أو خيارنا بأننا جزء من قصة إسرائيلية. “للخارج” حصة فينا، كما لنا حصة في شعبنا، وحق كل فلسطيني أن يحرص على عدم تفريط أي جزء منه بما هو حق فلسطيني عام.
عن العربي الجديد
لوحة الفنان نبيل عناني