وعد بلفور بعد أكثر من قرن: أسئلة التاريخ والحاضر


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

لا أعرف بالضبط متى توقفت حناجر أبناء الشعوب العربية ، ومعهم ، والأصح ، في مقدمتهم ، أبناء فلسطين، عن ترداد شعار: ” فليسقط وعد بلفور”، لكن الأكيد أنه استمر حتى نهاية القرن العشرين، ومطلع الواحد والعشرين، علما بأن عقودا طويلة مضت على إصدار الخارجية البريطانية ذلك الوعد، ثم تبني حكومة بريطانيا له والعمل على تنفيذه، بما يعني بناء وطن” قومي لليهود” في فلسطين.

ربما كان هذا الشعار، قبل الإعلان عن قيام إسرائيل، يحتمل الرهان، وهو وهم في كل حال، على إحداث تغيير على المسار المتراكم على الأرض، نحو انتصار المشروع الصهيوني، وبناء ” الوطن القومي اليهودي”.

لكن استمرار مفعوله- الشعار، بعد قيام إسرائيل وخوضها أربعة حروب واحتلالها مساحات جديدة من الأراضي العربية، وكامل أرض فلسطين. ودخول أكثر من بلد عربي مسرح ” التسويات السلمية” وتوقيع القيادة الفلسطينية اتفاق اوسلو وملحقاته، كل ذلك يجعل الشعار”فليسقط وعد بلفور” الذي يرفع في2  تشرين الثاني من كل عام هبلا سياسيا، يثير الشفقة والحزن على مستوى الحال الذي نحن فيه.

المشكلة الجاثمة، في الوعي العربي العام، للتناقض مع المشروع الصهيوني، أنه وعي يحمل بريطانيا المسؤولية الكاملة والمطلقة في نشوء دولة إسراتئيل.

لا أحد يقلل من تحالف الامبراطورية التي لم تكن “تغيب عن مستعمراتها الشمس” مع الصهيونية، وبالتالي دورها في إيصال تطورات الأحداث نحو ” بر الأمان” لنجاح الصهيونية في مراكمة انجازاتها على الأرض، لتتمكن في اللحظة المناسبة لإعلان قيام دولة إسرائيل، مع ضرورة لفت الانتباه إلى أن اللحظة السياسية الدولية حينها، كانت تحمل تناقضا واضحا،  بين سياسة بريطانيا، وبين القرار الصهيوني المدعوم أميركيا بالكامل لإعلان الدولة الصهيونية” إسرائيل” على أرض فلسطين.

في استمرار “نخبنا” السياسية والفكرية التفكير على هذا النحو خللان ، يشفان عن عمق الأزمة الفكرية والسياسية التي تسود في الواقعين، العربي والفلسطيني.

الخلل الأول: النظر لسياسات الدول، ومواقفها، بثبات دائم، وعدم القناعة بإمكانية التأثير بتحولاتها، ودفعها إلى مستوى أعلى يقترب من مصالحنا، أو على الأقل، وهو أضعف الإيمان، تخفيف آثاره السلبية الضارة على مصالح شعوبنا وبلادنا. وهنا النموذج البريطاني السافر كما عبر عنه وعد” اللورد بلفور” وزير خارجية بريطانيا في تلك الفنرة.

الخلل الثاني: وهو القائم على الاستهتار بقدرات المنظمة الصهيونية، نتيجة الجهل ببنيتها ودرجة تنظيمها وإمكانياتها وأساليب عملها. وهو ما جعل الفكرة السائدة في الوعي العربي عن العدو، بأن الصهيونية دون بريطانيا لا تساوي شيئا، وهو إنكار لقوتها وفاعليتها في تنفيذ مشروعها، حتى وان اقتضت الظروف العمل بمعزل عن الانتداب، أو حتى بالصدام التكتيكي مع مراكزه وقواه العسكرية.

وهكذا انبثق عن هذين الخللين تركيز الصراع،  والمسلح منه خاصة، ضد الوجود البريطاني في فلسطين، وكانت تجربة الثورة 1936 المثال البارز، حين مارست تكتيك الحرب على وجود قوات حكومة الانتداب، ولم تعط الاهتمام الرئيسي لإعاقة تطور الاستيطان اليهودي، ومنع منظمات الصهيونية المسلحة من فرض المزيد من سيطرتها على مساحات جديدة من ارض البلاد. زد على ذلك وهو الأهم، التعامل السياسي العدمي مع كل المبادرات البريطانية التي جاءت تحت عنوان: حل الصراع في فلسطين، بين اليهود والعرب. وبديهي أن ينظر العرب، ومنهم القيادات الفلسطينية إلى بريطانيا كدولة منحازة للمشروع الصهيوني، لكنها ليست هي صاحبة الجدوى المطلقة أو الأساسية من تنفيذه. بل ويمكن ملاحظة بعض التعارضات التي نشأت على مراحل، بين قيادة الصهيونية من جهة، وحكومة الانتداب من الجهة الأخرى ،خلال الكتب البيضاء التي طرحتها بريطانيا منذ 1922 وحتى 1939.

في مكان ما من العقل السياسي العربي والفلسطيني، كانت تكمن فكرة: ” أن على بريطانيا التخلي الكامل عن دعم المشروع الصهيوني” وهي فكرة خرقاء لا مجال لصرفها في ميدان العمل السياسي، لأنها لا تنطلق من وعي كوني شامل للمعطيات السياسية القائمة في العالم آنذاك، ولموقع الحركة الصهيونية في شبكة العلاقات المعقدة، وفي بلد تجري فيه صراعات حادة وجذرية تهدد مستقبله شعبا وأرضا.

في هذا المجال، وبعد صدور الكتاب الأبيض 1939، امتعضت القيادة الصهيونية، واعتبرته تراجعا عن المواقف البريطانية, وحتى عن وعد بلفور، لكنها بلسان قائدها السياسي المحنك، والذي كان له الدور الأساسي في تقرير لحظة الإعلان عن دولة إسرائيل، لخص الموقف الصهيوني، وبكثافة واقتصاد بالمفردات، فقال: ” نشارك في الحرب إلى جانب بريطانيا وكأن لا كتاب أبيض هناك، ونعمل لإفشال الكتاب الأبيض وكأننا لا نتحالف معها في الحرب”.

اعترضت القيادات الفلسطينية، بدرجة ما، على الكتاب الأبيض، دون أن تحاول البناء على بعض بنوده، سيما المتعلقة بالمهاجرين اليهود المسموح لهم القدوم شهريا، وكذلك على نسبة الثلث اليهودي المسموح وجوده في فلسطين، والثلثين الباقيين من العرب.

مع نشوب الحرب الكونية الثانية، تصرفت القيادات العربية، ومعها الفلسطينية بحماقة سافرة، فراحت تراهن على انتصار هتلر ومحوره، وشرعت ببناء اتصالات مع القيادة النازية، عملا بالمبدأ السخيف ” عدو عدوي صديقي” فجلبت على الشعب الفلسطيني الكارثة، وسهلت بهزيمة الحركة الفلسطينية، حين وضعت قضية فلسطين ورقة بأيدي القوى العنصرية والفاشية العالمية، فألبت كل دول العالم على حقوق الشعب الفلسطيني وحركته التحررية. بينما الصهيونية زادت من مكتسباتها، فعززت موقف ستالين” الأحمق” إلى جانبها، وضبطت تكتيكاتها على شاخص مصالحها، وبما يضمن نجاح الخطوة الأولى على طريق مشروعها المفتوح.

حاضرنا بعد قرن ونيف من وعد بلفور، وبعد 72 عاما على تجسيد المشروع الصهيوني بإقامة الدولة على أرض فلسطين، لا زالت مشكلاتنا الجوهرية العميقة قائمة، رغم الزمن وتبدلاته، والتضحيات الجديدة الباهظة التي قدمها الفلسطينيون. وإذا جاز لي اختصار تلك المشكلات بنقطتين، سأقول : النقطة الأولى أننا لم نمارس النقد الذاتي لما حصل منذ وعد بلفور وحتى قيام دولة إسرائيل. كما أننا لم نمارسه اليوم بعد مضي 55 عاما على نشوء حركتنا الوطنية الجديدة بعد النكبة، حيث هي الأخرى وصلت وأوصلتنا نحن الفلسطينيين إلى مانحن عليه من فشل وتفكك وضياع. وكل ما ورد ويرد حتى الآن في أدبيات القيادات الفلسطينية، وبعض النخب، لا يعدو كونه سجالات ضد الآخر المختلف، أو اجتراح الذرائع والتبريرات، في محاولة للدفاع عن الموجود السائد من مرجعيات وفصائل.

النقطة الثانية: أننا دائما نحيل الفشل والهزائم إلى قوى ودول خارجية، وهذه النقطة تتكامل مع الأولى للهروب من نقد الذات، والاكتفاء ” بالندب على حظنا العاثر”. والمنطقي ونحن على هذا الحال في تبرير الفشل والهزائم بإحالتها إلى شيء من خارجنا، أن يقابلها تفكير ومنظومة وعي يسعيان إلى جلب النصر لنا ولقضيتنا من خارجنا أيضا.

وهنا أسمح لنفسي بتسمية صفقة القرن الأميركية، بوعد بلفور الثاني في القرن الواحد والعشرين. والواضح أنها تستهدف إنجاز مرحلة جديدة من مراحل المشروع الصهيوني إزاء فلسطين، كيف نواجهها، وما هي خطط القيادات لإعاقتها، على طريق إفشالها، وما هي المراجعات النقدية التي أوصلت حالتنا الفلسطينية إلى هذا الحضيض، حتى نخرج منه، ودون ذلك سيتعمق حضيضنا أكثر فأكثر، لتعود القيادات وتلقي المسؤولية على” المؤامرة الأميركية الصهيونية” !

وحتى لا أكون مشاركا، عن قصد أو جهل، بحملة التضليل والتستر على الواقع المزري لمرجعياتنا وفصائلنا بلا استثناء، واجبي أن أبدي رأيي بأن القائم في فضائنا السياسي لا يصلح لمغادرة الحضيض، بل  سيزيده حضيضية وصولا الى درجة مأساوية، يمكن معها أن نتعرض لنكبة- هزيمة جديدة أكثر جذرية ودمارا من هزيمة 1948.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: مصطفى الولي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *