شهادة شخصية: في رثاء الكتب والمكتبات لـ ماجد كيالي


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

تفتحت عيوني على المجلات والكتب، وأقصد في البداية مجلات سمير وميكي وسوبرمان والرجل الوطواط وتان تان وبساط الريح، والكتب تلك المتعلقة بالأساطير والقصة والشعر والرواية، منذ المرحلة الابتدائية، أي منذ مطلع الستينيات، وطبعا لم يخلو الأمر من متابعة مجلات فنية مثل الموعد والشبكة، أو مجلات أسبوعية سياسية مثل الأسبوع العربي اللبنانية والمصور واخر ساعة المصريتين.

في تلك المرحلة لم يكن بإمكاني اقتناء مجلة ولا كتاب، إذ لم يكن الوضعي المعيشي لأهلي يسمح بذلك، مع مصروف يومي، في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، لا يتجاوز 15ـ 25 قرشا، في ذلك الزمن، وحتى لو وفرت بعضها فإنه لم يكن بإمكاني شراء ولو مجلة واحدة أسبوعيا، ثمنها 25 او 35 قرشا، وقتذاك. بيد أن ذلك لم يكن يحول بيني وبين شغفي للمطالعة، إذ كانت تلك الميزانية تسمح لي بدفع بدل قراءة لمجلة على عتبة احدى المكتبات مقابل دفع خمسة قروش مثلا.

طبعاً، لم تكن القراءة على عتبة المكتبات، ولا استئجار كتاب ما من مكتبة، أو استعارته من مدرسة أو من صديق، يكفي، أو يروي عطشي للقراءة، لذا فإن تغطية شغفي للمطالعة وقتها تأتّى من عاملين: أولهما، وجود مركز ثقافي في منطقة قريبة من الحي الذي أسكن به، وهذا المركز كان يوفر المجلات الأسبوعية، حيث كان متابعو تلك المجلات يتوافقون على أخذ دورهم في مطالعة تلك المجلة، واحدا وراء أخر. كما أتاح لي ذلك المركز مطالعة الكتب، حيث استهوتني قراءة الأساطير من مثل سير عنترة بن شداد والملك سيف بن ذي يزن وعمرون شاه وألف ليلة وليلة، ثم روايات نجيب محفوظ وغسان كنفاني وقصص يوسف ادريس، ودواوين المتنبي وأبو فراس الحمداني ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد.

وعلى أية حال فقد كان الذهاب إلى المركز الثقافي بمثابة طقس جميل، ومحبب، بالنسبة لي، حتى أنني كنت اقطع المسافة من بيتنا، في بستان القصر في حي الكلاسة في حلب، إلى المساكن الشعبية، ركضا، كسبا للوقت، أو كأني ذاهب إلى موعد إلى شخص كلي اشتياق إليه.

العامل الأخر، الذي ساعدني على الاستمرار بالمطالعة، والتوسع بها، كان اشتغالي في مكتبة لبيع الكتب، وهي مكتبة شعبية، بغض النظر عن دلالة اسمها (مكتبة الجماهير)، وهي الكائنة في قبو بين شارع بارون، حيث دور السينما في حلب، وساحة سعد الله الجابري، مقابل جريدة الجماهير الحلبية، ومبنى الهلال الأحمر، وقريبة من ناجي الضباط القديم.

كان عملي في تلك المكتبة جاء بالصدفة، إذ كان صاحبها جار لنا، وكان كثير السفر والغياب، وهكذا سلمني المفاتيح، رغم صغر سني وقتها (بداية المرحلة الإعدادية)، لكن عملي كان يقتصر على عرض الكتب على الحائط، أي مكتبة على الرصيف، والشارع مشهور في حلب في ذلك الزمان.

المهم أن بيعي للكتب عرفني على الروايات الأجنبية، وعلى ذوق القراء في حلب، وشجعني على مطالعة ما يشترون، إذ كنت اقضي وقتي من العاشرة إلى السادسة في قراءة الكتب أكثر منه في بيعها، لاسيما في فترة الظهيرة، إذ أن الوقت الذي يصادف الذهاب إلى دور السينما أو الخروج منه، كان لا يساعد على ذلك، لأنه الوقت الأفضل للبيع. ومعروف أنه في تلك الفترة كان شارع بارون لوحده يحتوي على سبع دور عرض سينما، ضمنها على ما اذكر سينما حلب وفؤاد والأوبرا وروكسي وأوغاريت والحمراء، وكانت كل دار عرض تعرض يوميا  أربعة مرات، واحدة قبل الظهر (من 10,30)، في حين تبدأ العروض الثلاث التالية، من 3,30 و6,30 وو9,30، وكانت فعلا فترة الخمسينيات والستينيات والنصف الأول من السبعينيات، هي فترة ازدهار السينما، لاسيما المصرية واللبنانية، وذلك قبل انتشار التلفزيون، واظن ظاهرة السينما في حلب لم يكن لها ما يضاهيها حتى في العاصمة دمشق، وربما أن ذلك ينطبق حتى على ظاهرة بيع الكتب على الرصيف كما في الشارع الذي ذكرته.

وعودة إلى قصتي مع مطالعة الكتب، ففي تلك الفترة، وأظن أنها استمرت ثلاثة أو أربعة أعوام، حتى 1970، حيث انتقلت إلى مرحلة أخرى، هي الانخراط في العمل السياسي وفي حركة فتح، تعرفت على روايات ذهب مع الريح والبؤساء وبائعة الخبز وكانت من الأكثر مبيعا، وهو ما شجعني على قراتها، كما تابعت قراءتي لنجيب محفوظ ويوسف ادريس، واحسان عبد القدوس، وطبعا دواوين الشعر، وذلك من على درج البيت، فوق قبو المكتبة. وفي حادثة طريفة حصلت معي أن صاحب المكتبة أتى فجأة، وعندما لاحظ انني مستغرق في المطالعة ولم انتبه له، ولا الى فتحه باب المكتبة ـ القبو، قام بسحب الكتب (البسطة) واحدا واحدا، وفعلا لم انتبه إلا عندما بدأ بسحب الكتب القريبة من الدرج حيث اجلس، أي انه علّم عليّ.

في غضون كل ذلك بات بإمكاني اقتناء الكتب والمجلات، بيد أنه بعد العام 1970 ليس كما قبله، إذ دخلت ميدان العمل السياسي مبكرا، وأخذ بكياني العمل الفدائي الفلسطيني، ومن باب حركة فتح، دخلت السياسة (1970، في عمر مبكر (16 سنة)، وهكذا بات لي اهتمامات سياسية وفكرية، وضمن ذلك فقد استهوتني فكرة الماركسية، والعدالة الاجتماعية، والتوق إلى التغيير، والثورة على الركود الخ، وصادف أنني كنت في إطار مجموعة فتحاوية ذات اهتمامات فكرية، وأقرب إلى الماركسية.

كانت اول مكتبة لي هي مجموعة من دواوين الشعراء الفلسطينيين، وكتب سياسية، لـ الياس مرقص وناجي علوش وجورج طرابيشي ولينين وماركس، مثلا، وبت اجمع مجلات الثورة الفلسطينية (وهي كانت تصدر عن فتح مطلع السبعينيات)، ثمة مجلة فتح، وبعدها فلسطين الثورة (تصدر عن الاعلام الفلسطيني الموحد)، حتى انني جمعتها كلها في مجلدات فيما بعد، وكانت مكتبتي في ذلك الوقت عبارة عن درفة في خزانة الثياب الخاصة بالعائلة.

بيد أن محاولاتي المتعددة لبناء مكتبة شخصية باءت بالفشل، او لم تنجح، فالمكتبة الأولى، تم توزيعها بسبب انتقالي من حلب إلى دمشق، بسبب التدخل السوري في لبنان (1976)، وتملصي من محاولة اعتقالي وقتها، وأيضا بسبب انتسابي لكلية الآداب (قسم التاريخ) في تلك الجامعة.

في دمشق بدأت ببناء مكتبة جديدة، ففي تلك الفترة بات في مقدوري شراء كتاب أو اثنين بين فترة وأخرى، وأيضا، بت أتي ببعض الكتب من لبنان، من مكاتب فتح، وكان أكبر مصدر لي لتأمين الكتب هو الشهيد ماجد أبو شرار، الذي كان يعطيني رسالة إلى دار الطليعة لأخذ ما اريد من الكتب، إضافة إلى ما اخذه منه، من اصدارات الإعلام الفلسطيني الموحد الكثيرة تلك الأيام، وطبعا كنت احسب حصة أصدقاء كثر من تلك الكتب.

المهم أنني في دمشق استطعت بناء مكتبة جيدة، وتتناسب مع اهتماماتي السياسية والفكرية، ثم مع اهتماماتي ككاتب، التي زاد عليها مطالعاتي اليومية لعدة صحف يومية، مثل الحياة والسفير والنهار والشرق الأوسط، لكنني مع الزمن شعرت أن كثيرا من تلك الكتب باتت لزوم ما لا يلزم، وانها أضحت عبئاً، لذا فقد كانت فرصة مناسبة لي لتوزيع قسم كبير منها، وكانت فرصتي إلى ذلك قيام الجبهة الديمقراطية بفتح مكتبة عامة لها في مخيم اليرموك، وقيام بعض نشطاء في فتح بجمع تراث تلك الحركة، وكانت حصتهم مجلات الثورة الفلسطينية وفتح وفلسطين الثورة، وطبعا، لم اعد اعرف مصير تلك الكتب أو المجلدات، بعد أن تم تدمير معظم مخيم اليرموك.

الآن، أو منذ ما بعد 2012، بت بعيدا عن مكتبتي التي كانت لفترة طويلة جزءا عزيزا مني، أتذكر كل كتاب فيها، أو أحاول ذلك، كما أحاول أن أتذكر كل عزيز علي، احن إلى مكتبتي واشعر بشوق كبير إليها لكنها بعيدة علي، وأمل ان تكون بأمان، وأن تبقى بسلامة، على امل لقاء قريب.

مع ذلك لم استسلم، ففي غربتي، في نيويورك منذ 2012 حاولت بناء مكتبة جديدة، ساعد عليها تخصيصي من قبل مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت) بإهدائي اصداراتها من كتب ومجلة دورية، بيد انها توزعت على أصدقاء لي بعد انتقالي ومغادرتي الولايات المتحدة، وفي إسطنبول، في غربتي الثانية منذ 2016، حاولت بناء مكتبة أخرى، إلا انها توزعت أيضا بعد انتقالي إلى مكان أخر، وهو ما حاولته في برلين (صيف 2018)، إلا أن تعذر ترتيب إقامة طويلة فيها وعودتي إلى إسطنبول أوقفت ذلك. في تلك العودة بت متيقنا بأنه لم يعد ثمة إمكانية لبناء مكتبة جديدة، رغم توفر كتب كإهداءات أو كشراء، سيما مع استمرار مؤسسة الدراسات الفلسطينية بإرسال إصداراتها لي (انقطعت بعد فترة بسبب الاقتصاد بالتكاليف)، لكن هذا اليقين ازداد أو ترسخ بعد مغادرتي تركيا، إلى الولايات المتحدة الأمريكية مجددا، حيث أعيش الآن لظروف عائلية خاصة.

في الغضون ومع الانترنت، ومع توفر نسخ من الكتب الإلكترونية، كنت طوال الفترة الماضية اشتغل على بناء مكتبة الكترونية، متنوعة وكبيرة، بقدر المتاح، في محاولة مني لترميم ما نقصني، أو ما أرى فيه قول الشاعر “خير جليس”، ولا زالت مكتبتي الإلكترونية بخير.. (طبعا هذا إلى جانب مطالعتي المنتظمة واليومية لعديد من الصحف اليومية عبر الانترنيت)، بمعنى انني بت مدين إلى هذا الفتح في تكنولوجيا الإعلام والمعلوماتية بالكثير، شأن غيري، فهي سهلت حياتنا، وخففت عنا فقداننا مكتباتنا، كما ساعدة على تحمل معاناة الغربة.

طبعا لا بديل عن الكتاب الورقي، ولا عن متعة تصفحه ورقة ورقة، ووضع إشارات أو ملاحظات عليه، فضلا عن ذلك فإنك تشهد كيف أن الكتاب يكبر معك، وتصفر أوراقه، وتبدو خطوط الزمن واضحة في تعرجات صفحاته، تماما مثلك، عندما تكبر وتظهر التجاعيد في وجهك، وخطوط الشيب في شعرك، ومع أن الايباد سهل العملية، إلا أن الحنين الى الكتب، إلى الحبيب الأول، يبقى على حاله.

لا أدري ان كان هذا رثاء للكتب والمكتبات أو رثاء للأمكنة التي سكنتنا وسكناها، أو رثاء لأنفسنا التي تتنقل من مؤقت إلى أخر، في عالم لا يبدو أنه لنا، أو أننا نعيش فيه كبشر عاديين، أو كبشر افتراضيين.

تحية إلى الكتب وقراء الكتب، وإلى كل من لي عنده كتاب أو مجلة، وإلى كل من اهداني كتاب، طوال سنين عمري، فهذه ليست سيرة شخصية لي فقط، وإنما هي سيرة لكثر مثلي، سوريين، ولاسيما لسوريين ـ فلسطينيين.

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *