ذاكرة طفلة: … اين ذهبتم؟ 


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

في اليوم الذي كنت أهرّبُ فيه الطعام للشهداء خرج الطفل التونسي حسين في مظاهرة في بلاده ضد الاجتياح الإسرائيلي لمقر الرئاسة الفلسطينية. بعدها بعشرين عاماً قال لي حسين تعليقًا على واقعنا اليوم: رزان ألا تذكري ما قاله مريد البرغوثي؟ سكتُّ، فأكمل، قال: اسمعي، خلافي معكم ليس سياسياً، خلافي معكم خلاف جَماليّ: أنتم قبيحون. وقال، أيضًا: زرعتم اوسلو فنبتت في بقية العواصم.

قبل الاجتياح الإسرائيلي للمقاطعة بفترة بسيطة، استيقظنا انا واخوتي للذهاب إلى المدرسة وأخبرتنا نجاح -ماما- أنه أصبح في جوارنا جنود فلسطينيين. تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أتعرف فيها على شهيد (حسام). ما أذكره أن اسمه حسام. فضولي قادني لأجد حسام “شاب من الأمن الوطني الفلسطيني” جالس ينظف سلاحه في برندة البيت الذي عسكروا  فيه. أنا أدّعي أن حسام أجمل شاب فلسطيني رأيته لغاية اليوم، اتذكر انه طويل وعريض، وشعره بني فاتح، وبشرته حنطيه، بغض النظر عن أي صفة، حسام جميل لأنه شهيد، ومن أوائل شهداء الاجتياح الإسرائيلي.

كان بيتنا عبارة عن غرفة صغيرة مع مطبخ وحمام صغيرين، وهو مُلحق للبناية التي عسكر فيها الشباب الفلسطينيون، أريد أن اقول الفدائيون (هي المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها فدائيين في حياتي). عسكر جهازان فلسطينيان، الأمن الوطني، وجهاز اللاسلكي. اتذكر منهم أبو احمد رجل بصوت منخفض جدًا، ابو هشام الأقرع، أبو علي وكوفيته، زياد البرغوثي شهيد كوبر والذي قضى وعمره 18 سنة، وهو أصغر الفدائيين في هذا المعسكر، كل من ذكرت اسماؤهم لغاية الآن استشهدوا. ولكنهم ما زالوا يعيشون في عقلي وقلبي. محمد عجاج ومقلوبته، جميل واغاني فضل شاكر، علي ونظارته، ثائر المجنون والذي أصابه الجنود الإسرائيليين في أغلب جسده، وأخيراً، أبو عبد الله وهو الشخص الذي كان يتابع دراستي، أهداني في 11-1-2001 جنيه مصري، وكتب عليه “إهداء إلى الممتازة رزان” أبو عبد الله/ أيمن. منذ أن انتهى الاجتياح لليوم وأنا أسأل أين ذهب معلمي، أين ذهب أبو أيمن، يا أصدقائي من يعرف شخص عمل في جهاز الأمن الوطني في السابق ومن غزة ويحمل نفس الاسم أبلغوه أن “رزان العبيطة” تبحث عنه.

حصل الاجتياح وكانت غرفتنا الجميلة جزء من أراضي المقاطعة، وبالتي تمركزت عليها دبابات الاحتلال الإسرائيلي. غرفتنا مربعة الشكل، كنت تستطيع أن تقفز على السطح دون أن تحتاج لسلم، أخي رمزي كان لاعب كرة قدم صغير، ويملك عشرات الكرات وكان يتباهى بها “طابات مكاسا الأصلية”. عندما اقتحم جنود الاحتلال بيتنا صعدوا على السطح، وفي نفس الوقت هاجموا بيت الفدائيين وأخرجوهم وجعلوهم يجلسون على الأرض وبدأوا يركلون “المكاسات” عليهم واحدًا تلو الآخر، وبعد انتهاء الاقتحام، قرر الفدائيون أن يتخلصوا من مكاسات أخي، كيف لهم أن يقبلوها بعد ما جرى لهم؟ كنا نلعب معهم كرة القدم، ونأكل معهم مقلوبة يصنعها محمد، هو لم يكن يطبخ إلا المقلوبة، ولكن ذات مرة قرروا أن يطبخوا شيئًا مختلفًا، إذ أمسكوا بأفعى واستخرجوا السم منها، واشعلوا الفحم، وشوها، وأطعموا اخوتي منها. كنت اسمع معهم أغنية يا غايب ليه ما تسأل ع حبابك، كانوا يشتاقون، فدائيون عاشقون. كانوا طلبة جامعات أيضاً. أخذني عجاج معه في يوم من أيامه الدراسية إلى جامعة القدس المفتوحة والتي كانت عبارة عن بناية خلف مبنى “مول الإرسال” اليوم، وجلست مع شباب وصبايا في دائرة كبيرة جدًا في الشارع، ولا اذكر منهم أحدا.

قضى الاجتياح على اصدقاء طفولتي، لم يعد لدي أصدقاء منذ ذلك الوقت، كيف لي أن استبدل الفدائي بصديق عادي؟ اليوم ايقنت لماذا لم احتفظ بصديق منذ ذلك الوقت إلى الآن، قتلت إسرائيل أصدقائي الحقيقيين. حتى الذي كان يمكن أن يكسر هذه النظرة، صديق الطفولة الذي تعرفت عليه فيما بعد، وكان من نفس عمري، فجّر الاحتلال بطنه قبل أن نصل السادسة عشر من أعمارنا. اسرائيل قتلت رفاقي. محمد عدنان كان فدائي أيضًا قبل أن يقتلوه، أسره الاحتلال وهو في 13 عشر من عمره، تعرفت عليه وهو في السجن، كان يتحدث مع امه على الهاتف، وطلبت منها أن اتحدث معه لكي أعرف ماذا يعني أسير. خرج من الأسر بعد فترة لا اتذكرها إن كانت طويلة أم قصيرة، وبدأنا نلعب ونتعلم الدبكة والكشافة والعزف على الآلات الموسيقية في نادي اسلامي رام الله، وقال لي ليلة استشهاده: رزان بتعرفي شو أمنيتي؟

– تفضل يا أبو امنيات، شو امنيتك؟

– رزان نفسي يكون عندي السمرة إم زناد، وفجروا بطنه في وسط رام الله قبل أن يضغط على الزناد ولو لمرة واحدة في حياته.

فترة الاجتياح التهمت طفولتي … او خلقتها. كانت نجاح تحضر كميات كبيرة من الطعام. كنا نخرج أنا وهي ولا أذكر مَن مِن اخوتي كان يساعدنا أيضاً، لنهّرب الطعام في أوقات منع التجوال لأصدقائي الفدائيين. وكنت أذهب أنا وأخي الصغير يوسف في أوقات رفع حظر التجول لنشتري لهم السجائر والخبز، ولأبي أيَضاً، لينصح أحدكم أبي بترك الدخان. كانت تمر جيبات الجيش العسكرية ونبدأ أنا واخوتي الصراخ بصوت عالٍ PLO … Israel No …

PLS Palestine yesأتذكرونها؟ نحن أيضًا كنا فدائيين صغار. وانا امر سريعاً على ما بقي لي من ذكريات، وجدت أن منظمة التحرير كانت أمل وشعار وهوية، نحن أطفال وكنا نصرخ في وجه الجيبات العسكرية الإسرائيلية PLO؟ اسرائيل قتلت اصدقائي وانتم سرقتم الأمل.

وانتهى الحوار بيني وبين حسين بأغنية من الطفولة نعرفها كلنا:

مرة في حينا*** زارنا فيل ظريف

برفق قال لا لا****ليس هنالك ما يخيف

نحن الخير بطبعنا****لا نرضى ظلم الضعيف

لا يحيا بيننا***الا الانسان الشريف

لأصدقائي الفدائيين الآخرين الذين لا أعرف مصيرهم لغاية الآن: أأنتم أحياء أم أحياءُ عند ربكم ترزقون؟

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: رزان الشوامرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *