جي جميلة

محمود أبوحامد

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

الاهداء : الى كل فلسطينيي الشتات

محمود أبوحامد
محمود أبوحامد

يبدو أن هذا العام يختلف عن بقية الأعوام التي عاشها الحاج إسماعيل في المخيم، فالشارع الرئيسي قد تم تزفيته، والكهرباء وصلت بعدالماء إلى كل بيت، والحاج ارتدى بنطالاً حصل عليه من بقجة الإعاشة، وخلع قمبازه ذا الفتحة الشبيهة بفم السمكة التي كان الأولاد يتابعونهاأثناء رفعه أكياس الطحين حين كان بصحته، وقبل أن تصبح الإعاشات لعائلات معينة يحدد وضعها الاجتماعي موظفو وكالة الغوث تبعاًلمعارفهم ولحجم بلعهم·

” بليّعا·· بليّعا·· هش جميلة·· هيش أم الجوج··” .

منذ كان الشارع الرئيسي رملياً والإعاشة للجميع، كان الحاج إسماعيل (الطنبرجي) الوحيد في المخيم، وكان بعزه وبقوته التي تجعله يحملكيس الطحين بمفرده، ويدخله إلى قلب البيت ليضعه على الطبلية الخشبية المخصصة له، بيد أن الفتق الذي أصابه جعله هذه الأيام يضعكيس الطحين عند الباب الخارجي، بمساعدة الأطفال الطامعين في محبة الحاج وركوب طنبره أثناء العودة، فالحاج إسماعيل والد التسعبنات يحب الصبيان كثيراً، وقد أقسم أمام الجميع أنه سيبيع ” خشته ” ويشتري دراجة نارية بثلاثة دواليب إذا رزقه الله صبياً هذا العام·

ويأتي عام ويذهب عام، كل شيء يتغير ما عدا أمينات الحاج إسماعيل وموظفو الوكالة يبقون على حالهم، فها هو أبولبدة يمسك بطحته وراءميزان السكر والرز والحمص وعيناه كميزان الجزر، وأبوراجي يحك كرشه تارة ويعدّ المعلبات الناقصة والمعلبات الزائدة تارة أخرى، والشيخخليل – الفضلة للفضيل – يضع قلمه الرصاص خلف أذنه ويتابع قبّان الصحين دون تسجيل (60 كيلو لأم سليم·· علبتين سردين لفيروز·· وزيت لسبعة أنفار)·

انتهى الحاج إسماعيل من تحميل ما استطاع من إعاشات لعائلات ظلت تكن لماضيه ولمجهوده الاحترام… وجي جميلة·· بليعا·· بليعا·· جيأم الجوج·· سارت جميلة والأطفال والحاج إسماعيل عبر شارع المخيم·· وجي جميلة·· جي أم الجوج·· وصل الموكب إلى أشجار الكينا حيثتجلس أم رجب·· ” أم رجب التي تصف كل هذه المباريم الذهبية في زنديها الغليظتين، لماذا لم تشتر لزوج ابنتها (طزيزة) ينقل بها الإعاشاتطالما أن شارع المخيم لم يعد رملياً؟؟ وهييش جميلة·· هيش أم الجوج··” ..

– عوافي أم رجب

– أهلين، أهلين خيّا إسماعيل، تفضل·

– بس فهميني، ليش ما اشترى عبيد طزطيزة؟

– لا خيّا، لا، الدواليب مرجيحة عزرائيل·

– ههي، والبغل بيدّركل بخصياته

ضحكت أم رجب وتابعت تقطيف أوراق الملوخية تحت ظلال أشجار الكينا، وتابع الحاج إسماعيل والصبيان وجميلة سيرهم إلى أن وصلوادكان الحاجة جميلة، جارة الحاج إسماعيل وخصمه اللدود، الملقبة بالبربارة من كثرة تكرارها لأحاديثها وثرثراتها التي لا تنتهي، فكلماشاهدت الحاج إسماعيل بصقت على الأرض وقالت له: ” ما عيب عليك تركب على بغلة؟ ” فيقهقه الحاج ويرد عليها قائلاً في كل مرة: ” أيشو مفكريتني متلك شقفة برا” ، ولأنه يعلم أن من عادة النساء في فلسطين ألا يركبن على الإناث من الدواب كان يوضح لها دائماً أن البغالهجينة لا تتكاثر، ولكن بطريقته الخاصة: ” يا بربارة هضول بغال، بغال، بنطوّش على بعض”، ويكرر كلامه دون فائدة، فالبربارة تظل تبربر،ويظل الحاج إسماعيل يغيظها منادياً على بغلته جميلة بصوت مرتفع· وهل ينسى أبوالتسع بنات كيف عرضت عليه نقوداً مقابل شراء اسمآخر لبغلته؟

– وجي جميلة ي ي ي ي

– جميلة ترفس ببطنك

كان من عادة الحاجة جميلة ان تتبع شتيمتها للحاج بتكشيرة تقطع الرزق، لكنها اليوم اتبعتها بضحكة عالية لم يسبق للحاج إسماعيل أنسمع مثلها من قبل، مما جعله يوقف طنبره ويعود للبربارة·

– شو يا حجة، بالصلاة على النبي شو ورا هالضحكة؟

– هـ هـ هـ هي، وراها عنبر

– عنبر مين؟

-إههي، عنبر بغل عبيد

– أهها، اشمتي يا بربارة اشمتي

بصراحة يحق للحاجة جميلة الشماتة، فهي تنقل إعاشتها بنفسها، تحملها على دفعات في وعاء تضعه على رأسها بدلاً من أن ينقلها الحاجإسماعيل على طنبره، رغم انه يربط بغلته تحت توتتها، وتأكل في أغلب الأحيان من خضار دكانتها··· وفوق كل ينادونه بالحاج وهو لم يحجحتى على كلب أعور؟ بينما هي أنفقت معظم أموالها كي تصبح الحاجة جميلة·

وجي جميلة·· جي أم الجوج·· جي أختي·· تابع الحاج إسماعيل والصبية وجميلة سيرهم لتوزيع باقي الإعاشات، وأغلقت البربارة دكانهابعدما وضعت في صرتها كرتها الأحمر وكرتها الأزرق، واتجهت إلى مبنى الإعاشة حاملة شوالها وأكياسها·

وما بدنا طحين·· يويا·· ولا سردين·· يويا، بدنا قنابل·· يويا، حكام تنابل·· يويا، تنابل مين·· يويا، حج اسماعين·· يويا، اسماعين ما مات·· يويا، خلف بانات·· يويا، وباناته سود·· يويا·· مثل لِقْرود·· يويا··

عاد الحاج إسماعيل وطنبره بما يحمل من أطفال وأناشيد وصراخ، وتوقفوا عند مدخل مبنى الإعاشة حيث ربط عبيد بغله عنبر بعمودالكهرباء قرب الحجر السكري الأبيض الذي كان يجلس عليه الحاج إسماعيل عادة·

وهييش جميلة·· بليعا، بليعا·· هيش أم الجوج··

لعلع صوت الحاج، وبدأ خراريفه المسلية، ونكاته اللاذعة التي لا يزعل منها أحد رغم قساوتها، حتى الشيخ خليل المعروف بنزقه ككلالمسؤولين، لا يزعل من الحاج حين يصفه بالبلّيع، بل يستمتع بنكاته الرذيلة ونوادره الغريبة· وهيييش جميلة·· هيش أختي··

– عوافي عبيد

– أهلين بالحج، على راسي والله

– ولَك لو اشتريت طزطيزة ما كان··

وقبل أن يكمل الحاج إسماعيل كلامه كانت البربارة قد نهضت من على أغراضها، وشدّت عبيد من يده مبعدة إياه من أمامها:

– شو يا إسماعيل، ما عاجبك البغل؟

– عن أي بغل عم تحكي، عن عبيد وللا عن عنبر؟

ضحك الجميع بما فيهم عبيد، واستمرت قهقهات الشيخ خليل وهو يشير بقلمه الرصاص إلى ثوب الحاجة جميلة الملتصق بين ردفيها:

– شوف شوف شوف يا حج

– شو يا شيخنا؟

– فستان البربارة صاد عصفور

دبّ الضحك في مفاصل الحاج إسماعيل، وسخسخ عبيد، واحمرت خدود الشيخ خليل الصفراء من كثرة الصهونة، أما الحاجة جميلة فقدشدت ثوبها من بين ردفيها، وراحت تنظر إلى الشيخ بعيون عاتبة خجلة·

– شو يا بربارة ما بتسترجي تحكي مع الشيخ خليل؟

– شو بدّي احكي لأحكي؟ الله يفضحك يا إسماعيل فوق ما أنت مفضوح·

فعلاً ماذا ستقول الحاجة جميلة للشيخ خليل، وهي التي يرسل لها أولادها (الدوررات) من السويد، وتتقاسم مع الشيخ إعاشتها مناصفة؟هل تقول إنها تريد النصف الثاني وهي لا يحق لها النصف الأول؟؟

وهيش جميلة·· الإعاشة لناس وناس·· هيش أختي أم الجوج·· بليّعا·· بليّعا هيش عنبر·· هيش يا امختر·· راح عبيد يحمّل للبربارةإعاشتها، ويساعد الحاج إسماعيل في رفع ما تبقى من الأكياس فالحاج المسكين لم ينقل سوى نقلتين، أما عبيد فقد أوصل أغلبية الإعاشاتإلى داخل بيوت أصحابها·

وجي جميلة·· جي أم الجوج·· وجي عنبر·· جي يا أبوالزعتر·· انتهت عملية التحميل، وسار الموكب يتقدمه الحاج إسماعيل وجميلته، وخلفهماعنبر وعبيد والصبية، وعلى يمينهم الحاجة جميلة وأم رجب وأصحاب باقي الإعاشات·

وما بدنا طحين·· يويا، ولا سردين·· يويا، بدنا قنابل·· يويا، حكام·· إلى أن وصل الموكب أشجار الكينا، حيث صار عبيد يربط بغله عنبر· وهيييش جميلة، هيييش عنبر، توقف الطنبران وأنزل عبيد إعاشة حماته أم رجب، وراح الحاج إسماعيل يطعم بغلته قليلاً من أعواد الملوخية،ويستمتع بمجّ سيجارة أجنبية أعطاه إياها الشيخ خليل·· ويا غافل لك الله، صار عنبر قرب جميلة! لماذا، لا أحد يعرف؟ شنك عنبر أذنيه،وسال لعابه وهو يحت الإسفلت بأقدامه، وجي جميلة وهييش عنبر، وجي هش، وهش وجي، وهضول بغال بنطوش على بعض، بنطوش علىبعض، وجي وهش، وعنبر مازال مصراً على الاقتراب من جميلة·

– شو هاض يا عبيد؟

– شو بعرفني يا إسماعيل

– هيك يعني، مش بس أنت، وبغلك كمان

وجي جميلة، هش عنبر، وهش وجي، وجي وهش·· اقترب عنبر من جميلة للمرة الثالثة، وراح يشمشمها من كل اطرافها، ومن تحت ذيلها،يدور حولها جاراً عربته بأكياسها··· وعبيد يدور معه ممسكاً بلجامه، الحاج إسماعيل يجر جميلة تارة، ويعترض طريق عنبر تارة أخر،الأطفال يصفقون ويصفرون، الحاجة جميلة تسترق النظر وتعض على يدها مستغفرة ربها·· وجي جميلة، هش عنبر، علا الصراخ وبدأضرب العصي والكرابيج والخبط واللبط دون أية فائدة، تنّح عنبر وأصر على الإفلات من لجامه، وقفز باتجاه جميلة!؟ راحت جميلة تركضوعنبر يركض خلفها محاولاً القفز من جديد فوقها، فوق عربتها وأكياس إعاشتها، فوق كرباج عبيد وصراخ الحاج إسماعيل·· وعلى الشارعالوحيد في المخيم أخذت الأكياس والشوالات تتبعثر، والحاجة جميلة تبربر لاطمة على رأسها، محاولة لمَّ ما استطاعت من إعاشتها، وأم رجبتتعثر بثوبها تارة، وتشتم عنبر وساعته تارة أخرى، وجميلة تركض وعنبر وعبيد والحاج إسماعيل يركضون خلفها، والأطفال يهرعون منالزقاق حاملين أوعيتهم وأكياسهم لجمع ما هرّ على طول الشارع من سكر ورز ومعلبات وطحين··

وما بدنا طحين·· يويا، ولا سردين·· يويا··

* هامش

* الاعاشة : التموين الشهري من اليونروا التابعة لهيئة الأمم المتحدة كمساعدة للاجئين في المخيمات

* الطنبر : عربة يجرها بغل

* سخسخ : ارتخت مفاصله من الضحك

* الصهونة : الاستمرار في الضحك دون سبب ظاهر

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: محمود أبوحامد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *