بعد 29 عاماً: ما الذي فعله اتفاق أوسلو بالفلسطينيين؟


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

لا يزال اتفاق أوسلو، رغم مرور ثلاثة عقود على توقيعه في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، يحتل مكانة مركزية في النقاشات الفلسطينية، في الخلافات والتوافقات، في التحديات والتعقيدات والتداعيات، وعمّا إذا كان ذلك الخيار اضطرارياً أو اختيارياً.

في كل الأحوال فإن خيار “أوسلو”، الذي لم يأتِ في ظروف مواتية للفلسطينيين عربياً ودولياً، أدى إلى إدخال تغييرات أساسية في مجمل بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي خطاباتها، وشكل علاقتها مع إسرائيل، يتمثل أهمها في الآتي:

أولاً، تحويل الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة على جزء من شعبها، في جزء من أرضه، والمشكلة هنا أنها سلطة على شعبها فقط، وليس على أرضه وموارده، أي أنها سلطة تحت سلطة الاحتلال.

ثانياً، إزاحة أو تهميش منظمة التحرير الفلسطينية، التي تعتبر أهم إنجاز للحركة الوطنية الفلسطينية، بالنظر إلى حال التشتت الفلسطيني، وغياب إقليم موحد له، إذ انتقل مركز العمل السياسي الفلسطيني من المنظمة إلى السلطة.

ثالثاً، تفكيك مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني، فبينما كانت منظمة التحرير تعتبر ممثلاً لذلك الشعب في كل أماكن وجوده أضحت السلطة تمثل الفلسطينيين في الضفة وغزة، ما نجم عنه تغييب اللاجئين الفلسطينيين، أو إزاحتهم، من المعادلات السياسية الفلسطينية؛ بعدما كان تم استبعاد فلسطينيي الـ48 من جسم المنظمة، والتعاطي معها بدلالة مواطنيتهم في إسرائيل، وليس بدلالة انتمائهم لشعبهم الفلسطيني.

رابعاً، تغيير الخطاب السياسي الفلسطيني الذي أسس للهوية الوطنية الفلسطينية الجامعة، من خطاب يتأسس على النكبة (1948) الناجمة عن إقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين، إلى خطاب يتأسس على أن الصراع مع إسرائيل يتلخص بإنهاء الاحتلال الذي بدأ في حرب حزيران (يونيو) 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع.

خامساً، انتهاء مفهوم الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وفتح المجال لعلاقات عربية مع إسرائيل، بالتحرر من شعار أن “فلسطين قضية مركزية للأمة العربية”، أو أن فلسطين هي بوابة أو جسر للعلاقات العربية مع إسرائيل أو بالعكس.

فوق كل ذلك، فقد تضمن الاتفاق ثغرات وتعقيدات وإجحافات كبيرة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، وحتى التي اعترف لهم بها المجتمع الدولي، وأهمها:

أولاً، عدم البتّ في مسألة الاستيطان، وعدم النص على وقفه، وفي النتيجة فإن إسرائيل ضاعفت أعداد المستوطنين ما يقارب خمس مرات منذ ذلك الحين إذ بات عددهم الآن أكثر من سبعمئة ألف في الضفة الغربية وفي القدس.

ثانياً، تأجيل البتّ في قضايا القدس واللاجئين والحدود إلى ما سمي بمفاوضات “الحل النهائي”، ما أدى إلى إبقاء تلك المسائل في يد إسرائيل، كونها الأقوى والتي تملك أدوات السيطرة. وفي النتيجة فإن إسرائيل لم تنفذ الاستحقاقات المطلوبة منها ولا بالحد الأدنى، لذا فقد بقي الكيان الفلسطيني – السلطة عند حدود الحكم الذاتي، ولو مع رئيس ووزراء وسفراء وعلم ونشيد، إذ حتى الرئيس يحتاج إلى تنسيق مع الإدارة الإسرائيلية للمرور على المعابر، في الداخل أو إلى الخارج، عدا عن أن الجيش الإسرائيلي يقتحم أي مدينة فلسطينية في أي وقت.

ثالثاً، لم يعرّف الاتفاق أراضي الضفة والقطاع باعتبارها أراضيَ محتلة، ولم يعرّف إسرائيل بوصفها دولة محتلة، وما جرى في عرف إسرائيل مجرد إعادة انتشار، لذا نجد القوات الإسرائيلية تستبيح المدن الفلسطينية، فتعتقل وتدمر البيوت وتقتل وتصادر، بحجة أو بأخرى.

رابعاً، لم يبين نص الاتفاق ماهية التسوية أو المآل النهائي لها، ولم يستند إلى أي مرجعية دولية أو قانونية، ولا يوجد أي كلمة فيه تشير إلى حق الفلسطينيين كشعب بتقرير المصير، أو بإقامة دولة مستقلة لهم، وهي عبارات وردت في منطوق معظم الوثائق الدولية. وفي العموم فقد ترك التقرير بشأن التسوية بين الطرفين المعنيين بالمفاوضات بينهما، بمعنى أنه ترك الأمر بيد إسرائيل، في ظل موازين قوى ومعطيات دولية وإقليمية غير مواتية بالمطلق بالنسبة إلى الفلسطينيين.

لكن هل كان اتفاق أوسلو خياراً اضطرارياً أو اجبارياً للقيادة الفلسطينية؟

في الحقيقة لم يكن كذلك، ربما أن انخراط القيادة الفلسطينية في مؤتمر مدريد للسلام (1991) كان اضطرارياً، لكن مسار اتفاق أوسلو اختارته القيادة الفلسطينية، ممثلة بالزعيم الراحل ياسر عرفات والرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس وعضو اللجنتين التنفيذية للمنظمة والمركزية لحركة فتح أحمد قريع، كمسار سري، بمعنى أنه لم يتم التقرير في شأنه داخل الهيئات الفلسطينية القيادية الشرعية، ولا حتى ضمن اللجنة المركزية لحركة فتح؛ وهو أقر في المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1996، أي بعد إقامة كيان السلطة بثلاثة أعوام.

وربما يمكن تفسير هذا الخيار بتخوف القيادة الفلسطينية من المحاولات الدولية لعزلها، لا سيما مع تحديد وفد فلسطيني من الضفة وغزة للمشاركة في المفاوضات باسم الفلسطينيين، ضمن الفريق الأردني المفاوض (في مؤتمر مدريد وفي المفاوضات ثنائية الطرف). وعلى الأرجح فإن ذلك التخوف لم يكن مشروعاً ولا ملموساً لأن الوفد الفلسطيني (ضمن الفريق الأردني) كان يترأسه د. حيدر عبد الشافي الشخصية الوطنية المعروفة باستقامتها ونزاهتها، وكان وأعضاء الوفد يتعمدون التصريح دائماً بأن مرجعيتهم هي منظمة التحرير الفلسطينية.

والمعنى أنه كان في إمكان القيادة الفلسطينية الاعتماد على الوفد الفلسطيني من الداخل، وفرض الاعتراف به كطرف مستقل، خارج الفريق الأردني، كي يحصّل هذا الوفد ما يمكن تحصيله، في تلك الظروف والمعطيات غير المواتية، من دون توريط منظمة التحرير في مخاطر كسر الرواية التاريخية الجامعة للشعب الفلسطيني، ومن دون التفريط بمكانة المنظمة ككيان جامع للفلسطينيين، وكمعبّر عن وحدة قضيتهم.

ويمكن القول هنا إن وفد الداخل كان يمكن أن يحصل على مكاسب للفلسطينيين أكثر من وفد المنظمة في المفاوضات، لتحرره من أية ضغوطات خارجية، وأنه في حال عدم تمكنه من ذلك، فإن أي اتفاق مجحف كان يمكن عقده ما كان ليشكل التزاماً بالنسبة لقيادة المنظمة، ما يبقي الأفق السياسي مفتوحاً أمامها، لتحصيل المزيد من الحقوق.

أيضاً، بعد إقامة السلطة، كان ثمة خيار للقيادة الفلسطينية، بعدم الجمع بين رئاسة المنظمة والسلطة وفتح، وهذا ما فعله الرئيس الراحل ياسر عرفات، وفعله خلفه محمود عباس، رغم أنه كان ينتقد ذلك في زمن عرفات! وكما شهدنا فإن نتيجة التماهي بين المنظمة والسلطة، لصالح السلطة، لم يكن صائباً، إذ خسر الفلسطينيون المنظمة، ولم يكسبوا السلطة.

باختصار، ووفقاً لمآلات الأمور، فإن إسرائيل استطاعت، عبر الاتفاق، تجزئة قضية فلسطين، وتجويف حركتها الوطنية، وحاولت التخفف من صورتها كدولة استعمارية تسيطر على شعب آخر بالقوة، والتحرر من مسؤولياتها السياسية والأمنية والاقتصادية والأخلاقية كدولة احتلال.

ثمة ملاحظتان أساسيتان في هذا النقاش، الأولى، أن عدم الانخراط في أوسلو، في حينه، لن يكون له تداعيات أخطر أو أعقد من تلك التي حدثت جراء الانخراط به، بحسب التجربة، إن على صعيد مكانة منظمة التحرير أو على صعيد علاقة المنظمة بالفلسطينيين في الداخل والخارج. والثانية، أن كفاح الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة (1967) كان قبل قيام السلطة، وعودة الفصائل، أفضل بكثير منه بعد قيامها، إذ كان الفلسطينيون أكثر تحرراً في مواجهة الاحتلال، وفي تنظيم أنفسهم في الصراع معه، أي أن إقامة السلطة كان سلبياً في هذا المجال.

في الختام، ومع كل ما تقدم، فإن الحركة الوطنية الفلسطينية من دون ذلك الاتفاق ما كان وضعها سيكون أفضل من وضعها معه، على الأرجح، لأن تلك الحركة كانت تقادمت واستهلكت، ولم يعد لديها ما تضيفه، أي كان ثمة جمود في التفكير السياسي وفي بنية الكيانات الفلسطينية، أي الفصائل والمنظمة، وهو ما نعيشه حتى اليوم. أيضاً، يفترض إدراك أن اتفاق أوسلو نتيجة، وليس سبباً، فقط، رغم كل ما تسبب به، بمعنى أن الافتقاد لحركة وطنية حيّة ومسؤولة وفعالة وتمثيلية جعل من المتعذّر تجنّب ذلك الخيار الكارثي، أو ترشيده، أو تجاوزه، بدليل ارتهان القيادة الفلسطينية له حتى الآن، رغم كل التدهور الحاصل في أحوال الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، ورغم كل ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين.

عن النهار العربي

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: ماجد كيالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *