العرفاتية في الذكرى الثامنة عشرة لرحيل عرفات


اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

أثناء الأزمات والانسدادات والتحديات، يبحث الناس عن عناصر قوة موجودة في حلفاء أو تجارب مضيئة أو رموز. بعد ثمانية عشر عاما من مؤامرة اغتيال وتغييب عرفات يتم استحضاره بشكل متزايد. لا سيما انه كان الزعيم الأطول زمنا وتأثيرا في حياة الشعب الفلسطيني، والأكثر اختلاطا بالمقاتلين وبتنظيم “فتح” والتنظيمات الأخرى، فكانت أبوابه مفتوحة أمام المواطنين، وهو الذي أزال الحواجز التي تفصله عن الناس، واستطاع أن يتحسس نبضهم ومزاجهم وما ينطوي ذلك على تأثير متبادل.  
مأثرة حركة فتح بقيادة عرفات بدأت بالتأسيس للوطنية الفلسطينية من خلال حركة تحرر وطني فلسطيني استجابت إلى حاجة الشعب الفلسطيني لدور مستقل يتجاوز الوصاية والتبعية، ويتمرد على واقع نكبة 48 وانكساراتها الكبيرة. فكانت المبادرة التاريخية  بإطلاق ثورة التحرر في مواجهة الاستعمار الصهيوني. وفي هذا المضمار الحيوي نجحت حركة فتح في بناء هوية وشخصية وطنية في سياق تحرري، هوية أذابت داخلها الهويات الفرعية كالهوية الدينية التي رفع لواءها الإخوان المسلمون وبقيت قاصرة ومنعزلة، وتعاملت مع الهوية القومية كإطار عام لا يشكل بديلا للهوية الوطنية ولا يتم إخضاعها للمراكز القومية “الناصرية والبعث”، وبالمثل تقبلت الهوية الأممية التي أطلقتها التنظيمات الشيوعية، ليس بوصفها بديلا للهوية الوطنية، بل تعاملت مع حاملها – المعسكر الاشتراكي – كإطار حليف بمسمى فضفاض هو “أحرار العالم”.
مفهوم حركة فتح للهوية والشخصية الوطنية فتح الأبواب أمام تعدد سياسي وثقافي وديني منسجم أكثر مع مرحلة التحرر الوطني، ومع الطبقات التي يتشكل منها المجتمع الفلسطيني. وفي الوقت نفسه مناهض للحصرية وللفكر الأصولي والتعصبي للتنظيمات الدينية. غير أن حركة فتح كانت تفتقد إلى استراتيجية تحرر منسجمة تتكون من – فكر تحرري، وأداة تنظيمية، وممارسة ثورية -. فالتجربة التي قادها عرفات شهدت طغيان الممارسة البراغماتية والتجريبية على حساب الفكر والتنظيم.


انطلق عرفات من واقع مرير وشائك، بدأ بالتطهير العرقي وتجريد الشعب الفلسطيني من شرعية الوجود والحق في تقرير المصير، وشهد عمليات طمس الهوية الوطنية وإذابتها في المحيط العربي، مرورا بفرض أشكال من الوصاية والإنابة، والتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين فقط. من الطبيعي أن يتم رفض هذا الواقع من قبل ألوان الطيف السياسي فضلا عن الرفض الشعبي المطلق في ذلك الوقت، ولكن كان التحدي الحقيقي هو تغيير هذا الواقع، وهنا تعددت المبادرات والاتجاهات، من اتجاه قومي يعتمد على التغيير من خلال الحرب الموعودة من قبل الجيوش العربية، واتجاه يساري يعتمد على التغيير الذي ستحدثه المنظومة الاشتراكية، وكانت الغلبة للاتجاه الذي عبرت عنه حركة فتح بقيادة عرفات وهو إطلاق كفاح مسلح يشق الطريق إلى التحرر الفلسطيني بدعم ومشاركة عربية وعالمية. وجاءت هزيمة الجيوش العربية في العام 67 لتؤكد صوابية أن يكون للشعب الفلسطيني دور تحرري مستقل، ولتشهد على صعود المقاومة الفلسطينية بزخم شعبي ردا على هزيمة الأنظمة العربية.
بعد أعوام من النهوض الثوري، انتقل عرفات الذي اشتهر “بواقعية إلى أقصى الحدود”، من الاعتماد على حرب شعبية طويلة الأمد تشارك فيها الشعوب العربية، إلى البحث عن حلول وتسويات من خلال النظام العربي والنظام الدولي بعد حرب 73، وكان ديدنه وضع القضية الفلسطينية على الخارطة السياسية العربية والإقليمية والدولية، وبخاصة بعد الاعتراف العربي والدولي بالمنظمة وبحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على قاعدة التعريف الدولي للحقوق والحل السياسي للقضية الفلسطينية بسقف القرارات الدولية ذات الصلة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
برع عرفات في التشبث ببقاء القضية الفلسطينية مطروحة على الأجندة الدولية وموجودة في خرائطها وحلولها، دون أن يكترث بالتحولات العميقة في الوضع العربي، وبتحول دولي أشد ناجم عن الانتقال إلى قطب أميركي واحد بعد الانهيار السوفييتي، اعتمد على براعته في المناورة، وعلى مثابرته في قلب كل حجر بحثا عن شرعية الحضور والاعتراف بكيان فلسطيني يملك إمكانية التحول إلى دولة فلسطينية، وفي هذا السياق، دخل في مغامرة أوسلو التي أفضت إلى نهاية كارثية. حاول عرفات أن يتفادى الشطب بثمن باهظ، لكنه أخفق واكتشف حدود اللعبة السياسية في مفاوضات كامب ديفيد 2000، ولم يسعفه تمرده عبر انتفاضة 2000 وكانت النتيجة أنه أصبح غير ذي صلة، من وجهة نظر النظامين العربي والدولي وشطب بمؤامرة اغتيال غادرة، وبعده وضعت القضية الفلسطينية في الأدراج مرة أخرى، واستمر تعميق الاحتلال والاستيطان والتنكر للحقوق الفلسطينية.

لم تكن هذه النهاية حتمية، لو اعتمد عرفات والقيادة الفلسطينية نهجا سياسيا آخر يأخذ بالاعتبار التحولات العربية والدولية، فكان يمكن البناء فوق الإنجازات السياسية المهمة في مرحلة الصعود الوطني من خلال المأسسة التي تشرك قطاعات جماهيرية أوسع في النضال وفي بناء مقومات صمود حقيقية بعيدا عن الدعم الخارجي وتدخلاته وأجنداته. إن المؤسسة الفلسطينية التي تشكلت في مرحلة الحرب الباردة وتنتمي إلى نظام أبوي فردي قائم على الولاء لم تكن مؤهلة لخوض معارك تهدد مصالحها. هذا النوع من البنية التي لم تجر أي نوع من الإصلاح والتجديد، ما يؤكد على ذلك أن المؤسسة بدت عاجزة ومترددة في مرحلة ما بعد عرفات.
لقد أهدرت فرص عديدة، كفرصة بناء سلطة ديمقراطية، بمنظومة قوانين حديثة، ونظام تعليم عصري، وضمان اجتماعي ونظام صحي يشكلان صمام أمان للقوى العاملة، وكذلك تنمية الموارد من داخل المجتمع وإعادة الاعتبار للعمل المنتج، وفتح المجال أمام تطوير مؤسسات المنظمة على أسس ديمقراطية جديدة. كان ذلك يعني الخروج من البنية المتكلسة وإتاحة المجال أمام الأبناء – الجيل الشاب – لتولي المسؤولية والمضي في تصويب العلاقات مع الشعوب العربية وقواها الحية، ومع قوى التغيير في العالم، من خلال مكاتب وسفارات وسلك دبلوماسي حديث وفاعل واتحادات شعبية ومهنية معبرة عن قواعدها الشعبية.
لم تكن هذه النهاية حتمية لو حدث التغيير في البنية السياسية والتنظيمية في عهد عرفات، وما بعد عهد عرفات. صحيح انه لا يمكن تقييم عرفات بمعزل عن زمنه وعن معايير ذلك الزمن، ولكن في كل الأحوال لا يمكن تبرير الأخطاء ولا السكوت على الاختلالات الكبيرة والصغيرة.
في الذكرى الثامنة عشرة لاغتيال قائد الشعب الفلسطيني، ما أحوجنا للتقييم والنقد والتعرف على الإنجاز ونقاط القوة، فالعرفاتية لها وجهان، وجه الاندفاع الثوري والمبادرة والروح العملية، ووجه الأبوية المتفردة والمحافظة بعيدا عن النظام والقانون. اختفى الوجه الأول من المؤسسة مع رحيل عرفات ما عدا محاكاة الشبان المقاومين في موجات متلاحقة. وبقي الوجه الآخر ما بعد عرفات في تجليات أخرى.

عن الأيام

اشترك معنا في قناة تلغرام: اضغط للاشتراك

حمل تطبيق الملتقى الفلسطيني على آندرويد: اضغط للتحميل

Author: مهند عبد الحميد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *