يوم الأرض والرسائل التي لا تموت بالتقادم
تمر هذه الأيام الذكرى السادسة والأربعون ليوم الأرض المجيد، والأنظار متجهة نحو فلسطين التاريخية، بعد المواجهات الأخيرة في النقب وبئر السبع والخضيرة وبني براك ورمات غان وأم الفحم، التي أعادت الوهج لذلك اليوم التاريخي المجيد.
انطلقت عدة مسيرات ومهرجانات في سخنين وعرابة والطيبة، وغيرها من المدن والبلدات الفلسطينية تكريما للشهداء الستة، الذين واجهوا آلة البطش الصهيونية دفاعا عن أرضهم. إن الاحتفال بتلك الذكرى أمر ضروري وعمل وطني بامتياز ودرس نستلهم منه الكثير من العبر والدروس، التي تعبر عن تواصل الأجيال من الشعب الفلسطيني التي تحمل راية النضال إلى أن يتحقق التحرير الكامل وعودة اللاجئين إلى وطنهم، ويمارس الشعب الفلسطيني كله حق تقرير المصير على أرض آبائه وأجداده، ويبني دولته الديمقراطية التي لا تميز بين مواطنيها بناء على لون أو دين أو جنس أو معتقد أو لغة.
وأود بهذه المناسبة أن أسترجع بعض الحقائق الكبرى والدروس العظيمة والرسائل العابرة للزمن والأجيال، التي لا تموت بالتقادم، بل تزداد قيمة وصدقية وتكشف عن أهمية يوم الأرض المجيد، الذي أعاد الوهج إلى السردية الحقيقية للصراع حول الأرض الواحدة والشعب الواحد والحقوق الكاملة.
أولا: كشفت مواجهات يوم الأرض طبيعة هذا الكيان، الذي في جوهره كيان استعماري استيطاني إقصائي إحلالي يقوم على إلغاء وشطب أهل البلاد الأصليين واستجلاب غرباء مكانهم من أنحاء العالم كافة، تحت حجة الرابط الرباني وأوهام الوعود الإلهية. الحقيقة واضحة أن الحركة الصهيونية هي نتاج الحركة الاستعمارية نضجت في حضن الاستعمار وتربت في كنفه ونفذت على الأرض بدعم منه، خاصة الدولة العجوز بريطانيا.
ثانيا- أثبتت مواجهات يوم الأرض أن الصراع أساسا قائم على الأرض، ولا علاقة له بالميثولوجيا وخرافات الوعود الإلهية ـ العدو يريد الأرض من دون سكان.. لقد استحوذ على أكثر من 90% من أراضي أهلنا في الداخل الذين لم يغادروا ديارهم وأصدر قانونين خطيرين في بداية عمر الكيان – حق العودة لأي يهودي في العالم، وقانون أملاك الغائبين، الذي يخول السطات الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين الذين هجروا قسرا من مدنهم وقراهم.
ثالثا- أثبتت مواجهات يوم الأرض، أن الشعب الفلسطيني واحد وأن قضيته واحدة وأن تجمعات الفلسطينيين كافة معنية بالدفاع عن قضيتها الوطنية ومواجهة مخططات الإخلاء والتفريغ والاستيلاء على الأرض. لقد فضحت تلك المواجهات مقولة الدولة الديمقراطية وحكاية اندماج الفلسطينيين في التركيبة السياسية الصهيونية واقتصار مطالبهم على تحسين أوضاعهم المعيشية. تلك كانت بداية التحول الجذري في الانتماء الوطني للشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية ومشروعه الوطني وتأسيس الأحزاب الوطنية والتجمعات والمنظمات الأهلية الملتزمة بحقوق الشعب الفلسطيني الوطني وسرديته الأصيلة القائمة على وحدة الأرض والشعب والحقوق.
فرغم تمزق هذا الشعب العريق وتقطع أوصاله في بقاع الأرض، وفرض العديد من الحدود والحواجز والهويات وجوازات السفر، كرها أو طوعا، إلا أن انتماءه لقضيته ما زاد إلا عمقا وانتشارا وعلوا، كنتيجة طبيعية لإنشاء هذا الكيان الغريب الذي زرعته القوى الاستعمارية الغربية في قلب الأمة العربية. ورغم مرور 74 عاما على إنشاء الكيان، إلا أن الأجيال المتعاقبة، جيلا بعد جيل، ظت متمسكة بهويتها الوطنية وبانتمائها للوطن.
رابعا- العدو الصهيوني لا يجد ما يحمي وجوده إلا اللجوء للسلاح والمؤامرات وزرع الفتنة وتفتيت الوجود الفلسطيني. فهو يعرف أنه سارق لهذه الأرض وهو يعرف أنه لا ينتمي إلى هذه المنطقة ولا إلى ثقافتها ولا إلى تاريخها ولا إلى تركيبتها السكانية والعرقية والحضارية، لذلك يحمي وجوده بالسلاح الذي يريد أن يحتكر استعماله بترتيب مع القوى الاستعمارية والأنظمة العربية المتخاذلة.
إن تلك الهبة كانت بمثابة انتفاضة شعبية عارمة في كل فلسطين التاريخية. بدأ العدو بعدها يعمل على تفسيخ الصف العربي، ونجح في إخراج مصر من حلبة الصراع والاستفراد ببقية دول الطوق والعراق، وانصاعت القيادة الفلسطينية للضغط العربي فاضطرت أن تغادر لبنان عام 1982. فكان الرد الفلسطيني العظيم في إطلاق انتفاضته العظيمة عام 1987 التي كادت أن تطيح بهذا النظام الغريب المزروع عنوة في جسد الأمة، لكن المخطط الصهيوني القائم على شق الصف العربي والفلسطيني نجح في توقيع اتفاقيات الاستسلام في أوسلو (1993) ووادي عربة (1994) وصولا إلى اتفاقيات إبراهيم 2020 التي جسدت اختراقا عظيما في جسد الأمة وانحرافا خطيرا من أنظمة التطبيع والهرولة، خاصة سلطة أوسلو التي حولت الثورة الفلسطينية المعاصرة إلى جهاز أمني يسهر على أمن العدو ومستوطنيه، مقابل مكاسب مادية لفئة صغيرة ارتبطت مصالحها ببقاء الاحتلال ونظام الأبرتهائد.
ما كان صحيحا حينها ما زال صحيحا الآن وفي المستقبل. الحقوق تنتزع ولا تمنح والمفاوضات غير المرتكزة على القوة طريق سالك للاستسلام ومناشدة المجتمع الدولي لن تحرر أرضا ولن تغلق مستوطنة ولن توقف اقتحاما. فهذا العدو لا يعرف إلا لغة المقاومة المتواصلة والمستمرة والمتعاظمة.
التمسك بالهوية في الداخل
لقد كان التمسك بالهوية الوطنية التي تميز الفلسطيني عن هؤلاء الأغراب هو العنوان الرئيس للمراحل الأولى من نضال شعبنا في الداخل. ومن هنا نفهم شعر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين، وروايات إميل حبيبي، وانتشار الشعراء الشعبيين والمغنين، وإقامة حلقات الدبكة في الأعراس، والاعتداد بالملابس الفلسطينية الأصيلة والعادات والتقاليد واللغة العربية، وصولا إلى انطلاق الحركات الوطنية المناضلة وأهمها «حركة أبناء البلد» في أم الفحم عام 1972. كان الشاعر راشد حسين يقول إن قصائد الغزل التي نكتبها نوع من المقاومة، ودرويش وصف القصيدة بأنها بطاقة إلى السجن، وكتب رائعته المشهورة «بطاقة هوية» وزياد خاطب الصهاينة قائلا «باقون على صدوركم كالجدار». لقد خلفت نكبة 1948 فراغا قياديا في الداخل، كما أكد المؤرخ إميل توما، لكن هذه الأزمة كانت مؤقتة حيث تبلورت ثلاث قوى: القوى الشعبية الوطنية التي تصدت لسياسة الاضطهاد القومي، والتي انحاز لها الشيوعيون العرب تاركين خلفهم رفاقهم اليهود الذي يدعون إلى الاندماج، والقوى القومية التي مثّلت البورجوازية الصغيرة والتجار والمثقفين، بينما تشكلت قوة صغيرة وراءها إسرائيل نفسها من شيوخ العشائر والوجهاء وقطاعات من البدو، وحاولت أن تنضم للأحزاب الصهيونية إلا أنها ظلت صغيرة ومعزولة وهامشية. بعد ملحمة يوم الأرض 1976 اتجه الفلسطينيون إلى التنظيمات الشعبية الواسعة فشكلوا الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والحركة التقدمية للسلام وحزب التجمع الوطني الديمقراطي وحركة «ميثاق المساواة». ثم تم إنشاء الحركة الإسلامية التي أصبحت تيارا ثالثا قويا إلى جانب الحركتين القومية والشيوعية. لقد جسدت هذه الحركات الجمعية عمق الانتماء إلى نضال الشعب الفلسطيني خاصة، والأمة العربية عامة، تبلور هذا بشكل واضح في مظاهرات التضامن مع الانتفاضة الثانية يوم 30 أكتوبر 2000 حيث قدمت الجماهير 13 شهيدا لتعمد بالدم عمق انتمائها لشعبها وأمتها.
المسؤولية التاريخية للداخل الفلسطيني
تعتبر النخبة السياسية الصهيونية الآن أن المليوني فلسطيني هم العدو رقم واحد لإسرائيل، كما أن 50% من الإسرائيليين يؤيدون طرد العرب من كل البلاد، حسب استطلاع «بو» في مارس 2016. وهذا الموقف تجسد في إصدار قانون القومية العنصري عام 2017 الذي يعتبر أن تقرير المصير حق حصري لليهود دون غيرهم وأن هوية البلاد يهودية فقط. وهذا القانون وضع فلسطينيي الداخل في خط المواجهة الأول. فقبل عام 1982 كانت فصائل المقاومة في الخارج تحمل شعلة النضال الوطني وبعد ترحيل المنظمة من لبنان انتقل مشعل النضال إلى الداخل الواقع تحت الاحتلال المباشر في الضفة الغربية وغزة والقدس، فأطلق الشعب الفلسطيني هناك انتفاضتين عظيمتين، أما الآن وبعد قيام السلطة بدورها في وأد أي محاولة للمقاومة، نعتقد أن مشعل النضال في المرحلة المقبلة سينتقل إلى أيدي الفلسطينيين في الداخل، وتأملوا ما يحدث في النقب وبئر السبع وأم الحيران وقلنسوة وأم الفحم واللد والناصرة. لقد جاءت هبة مايو 2021 لتجسد هذا التوجه وتنقل المواجهة مع الكيان إلى قطاعات الشعب الفلسطيني كافة في كل أنحاء فلسطين التاريخية. من هنا نفهم أهمية يوم الأرض الذي فتح صفحة جديدة في مواجهة الكيان ما زالت قائمة إلى اليوم. وخير ما يعبر عن هذا التوجة الكلمة التي ألقتها جليلة أبو ريا ابنة شهيد يوم الأرض رجا أبو ريا في احتفالات يوم الأرض في بلدة سخنين. قالت: «والدي أورثني رسالة لأنقلها إلى أبنائي وأحفادي: أننا سنكمل الطريق التي شقها والدي بدمه هي طريق الحفاظ على أرضنا لأنها هويتنا ووجودنا».
عن القدس العربي