ياسر عرفات والثورة المستحيلة ـ سيرة شخص في شعب
شكل الراحل الكبير ياسر عرفات ظاهرة استثنائية في تاريخ الشعب الفلسطيني، وربما في تاريخ حركات التحرر الوطني قاطبة، فقد نهض بشعبه وقضيته، في ظروف دولية وعربية صعبة بل ومستحيلة، وفي ظل اختلال بيّن في موازين القوى لصالح إسرائيل.
البدايات
في أواخر الخمسينيات بدأ ياسر عرفات، مع مجموعة من رفاقه، يعدّ اللبنات الأولى لإطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تم الإعلان عنها فيما بعد باسم حركة فتح، في الأول من يناير 1965. ومنذ ذلك التاريخ صنع ياسر عرفات انقلابا دراماتيكيا في حياة شعبه، وفي التاريخ السياسي للشرق الأوسط كله. ومنذ ذلك التاريخ باتت علامات الشك تحوم حول جدوى المشروع الصهيوني، وحول مدى استمرارية الدولة الصهيونية في هذه المنطقة العربية.
بديهي أن رحلة ياسر عرفات إلى الحلم الفلسطيني لم تكن سهلة أو معبدة، في الصراع على المكان والزمان والمعنى، بل إنها كانت أقرب إلى المستحيل، فقد انطلقت الثورة الفلسطينية من نقطة الصفر، على مختلف الأصعدة، أي على رغم محاولات الإنكار والنفي والتغييب الإسرائيلية، ومحاولات التهميش والتقييد في الواقع الإقليمي العربي، والصمت والتجاهل على الصعيد الدولي.
على الصعيد الفلسطيني، مثلا، لم يكن لشعب فلسطين من وجود سياسي خاص، والفلسطينيون بالكاد كان يعترف بهم كلاجئين، وقد أدت تداعيات النكبة (1948) إلى تقويض البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للفلسطينيين، الذين باتوا مشردين في أصقاع العالم، ليس لهم عنوان محدد، ويخضعون لسيادة أنظمة سياسية واجتماعية متباينة. وفي لحظات النكبة تلك انخرط الفلسطينيون في شتى الحركات السياسية العربية، من قومية ويسارية ودينية، للتعويض عن الانهيار الحاصل في بنيتهم السياسية، وفي محاولة منهم للبحث عن وطن.
وفي لحظات الانهيار والإحباط والضياع هذه جاءت انطلاقة (فتح) بقيادة ياسر عرفات، أو “السيد فلسطين”، كما كان يطلق عليه آنذاك. وكان هذا الرجل يعتمر الكوفية المرقطة السوداء، وكان كل ما فيه يشبه شعبه.
لم يكن ثمة لفتح أيدلوجية، وهو لم يكن سليل عائلة كبيرة، فقد كان ابن الشعب الفلسطيني، وعندما سئل عرفات عن أيدلوجية الحركة التي يقودها (ضمن سوق الأيدلوجيات التي كانت رائجة آنذاك)، أجاب إنها فلسطين! ولعل في هذه الكلمة كان يكمن سحر عرفات وسره، فبهذه الطريقة استطاع توحيد الفلسطينيين، على اختلاف انتماءاتهم الفكرية من حوله، وبذلك بات مؤسسة وطنية بذاتها فوق كل المؤسسات التي صاغها، وتحول إلى الزعيم للشعب، والرمز للوطن، والوصي على القضية.
وعلى مدار أربعة عقود أعطى ياسر عرفات ما لم يعطه شخص لقضية، إذ تماهت قضية فلسطين وشعبها في شخصيته، وبات عرفات بمثابة رمز لنهوض شعب وقيامة وطن.
وطوال هذه الفترة واجه ياسر عرفات، ومعه حركة التحرر الفلسطينية، العواصف والأنواء، في مواجهته إسرائيل، كما في مواجهته تعقيدات ومداخلات البعدين الإقليمي والدولي، ولكن هذا الشعب استطاع أن يؤكد وجوده وأن يبلور هويته وأن يفرض حقيقته على خريطة الشرق الأوسط،، وفي المعادلات السياسية الإقليمية والدولية.
هكذا فعلى مر أربعة عقود من الزمن، بعواصفها وزلازلها، مثّلت سيرة ياسر عرفات نهوض قضية وقيامة وطن وتطلّع شعب إلى الحرية، في إطار من الصراع على الزمان والمكان والمعنى؛ حيث استطاع الفلسطينيون، بحيويتهم وتضحياتهم، وبعنادهم وبطولاتهم، أن يفرضوا حقيقتهم، رغم محاولات الإنكار والنفي والتغييب الإسرائيلية، ومحاولات التهميش والتقييد في الواقع الإقليمي العربي، ورغم الصمت والتجاهل الدولي.
ولاشك أن نجاحات عرفات على الصعيد الوطني، المقترنة بزهده وتواضعه واخلاصه، ارتبطت أساسا بإيمان الفلسطينيين المقدس بقضيتهم، وحيويتهم، واستعدادهم العالي لتقديم التضحيات، مثلما ارتبطت بإرادتهم الحرة على الصمود والمقاومة، برغم كل الصعوبات والمعاناة، التي كابدوها على دروب الحرية والكرامة.
ومع كل الانتقادات التي يمكن كيلها له، والتي يمكن له بالتأكيد تقبّل أكثريتها، ولو على مضض، وعيا منه لمكانته الرمزية والوطنية، فإن التاريخ سيسجّل لياسر عرفات أنه صاحب المبادرة في إطلاق الكفاح التحرري ضد إسرائيل، الذي جاء بالشعب الفلسطيني من غياهب اللجوء والشتات والنسيان إلى معادلات السياسة في الشرق الأوسط، وأنه حافظ على مكانته المعنوية في قيادة الشعب الفلسطيني على اختلاف تلاوينه وتياراته، وأنه وضع شعبه المولع بالرموز والشعارات على عتبة الواقعية السياسية، إدراكا منه إلى حاجة الفلسطيني الماسة إلى تحويل حلمه الدائم في وطن متخيّل مسكون بالذاكرة، إلى وطن متعيّن على الخريطة، في عالم لا يعترف إلا بحقائق موازين القوى ومعطيات السياسة.
عرفات الزعيم الشعبي
لم يتعاط الفلسطينيون مع ياسر عرفات على أنه مجرد قائد سياسي، فقط، أو على أنه مجرد رئيس، فحسب، فهو بالنسبة لهم أكبر وأكثر وأعمق من ذلك، فهو زعيمهم وصانع هويتهم الوطنية وقاسمهم المشترك، وهو مؤسّس الكيانية الفلسطينية؛ ومن هذا كله يستمدّ أبا عمار مصادر قوته، وفي كل ذلك تتجذّر شرعيته، وعبر كل ذلك تكمن أسطورته.
وتبدو مأثرة ياسر عرفات الفريدة أنه الزعيم الوحيد ربما في هذا العالم العربي الذي محضه شعبه ثقته، ولو جاءت مشوبة ببعض الاختلافات، من دون أن يكون له سيادة إقليمية مباشرة على أي من التجمعات التي يعيش فيها الفلسطينيون، في الأراضي المحتلة وفي مناطق اللجوء المختلفة، وفي أماكن الشتات الشاسعة!
وهذا الرجل هو الشخص الذي وحّد الشعب الفلسطيني بمختلف تياراته، الوطنية والقومية واليسارية والدينية، من حوله. وهو الزعيم الذي ظل الفلسطينيون يجمعون عليه، بمختلف المراحل والمسارات، من مسيرة الثورة إلى مسار التسوية. وهو الذي استطاع نقل الوعي السياسي لشعبه من الشعارات إلى أرض الواقع، ومن التوهمات إلى الممكنات، ومن المطلق إلى النسبي. فهو أبو الواقعية والبرغماتية السياسية، برغم تمسكه بأهداب التاريخ ووقوفه عند تخوم الأسطورة!
ياسر عرفات في الأجندة الإسرائيلية
استطاعت الثورة الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات، أن تقوّض ركيزة أساسية للعقيدة الصهيونية، تقوم على خرافة “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”، وكانت هذه الخرافة تتوخّى محو الشعب الفلسطيني وإنكار وجوده من التاريخ والجغرافيا، لتبرير قيام الكيان الصهيوني: الاستيطاني الاحلالي العنصري، وتأبيد وجوده، على حساب شعب فلسطين. وفوق ذلك فإن الصهيونية، وكيانها إسرائيل، كانت تتوخى من الاستمرار بهذا الإنكار طمس الجريمة التي ارتكبتها بحق هذا الشعب، والمتمثلة باغتصاب أرضه وتشريد شعبه وطمس هويته وسلب حقوقه. إذ لم يكن بالامكان طمس هذه الجريمة وإضفاء طابع “أخلاقي” و”تحرري” على هذا الكيان المصطنع من دون إخفاء الشعب الفلسطيني والحؤول دون نهوضه.
على ذلك فإن إسرائيل، بعملها وليكودها، لم تغفر لأبي عمار ما فعله بها، إذ كشفها على حقيقتها أمام دول العالم وأمام الرأي العام العالمي، فهي لم تعد واحة للديمقراطية على ما تدعي في الشرق الأوسط، بل إنها باتت الواحة الأخيرة للأنظمة الاستعمارية والعنصرية في العالم. ولم تعد إسرائيل حارسا للمصالح الغربية في المنطقة، بل إنها باتت مصدرا من مصادر تهديد هذه المصالح، وباتت مصدرا لضعف الاستقرار والأمن على الصعيدين الدولي والإقليمي.
وفوق هذا وذاك فإن نهوض شعب فلسطين ضد النظام الاستعماري العنصري كسر احتلال إسرائيل لصورة الضحية، وبات الفلسطينيون يحتلون صورة الضحية في الفضاء العالمي.
ولعل هذه الحقائق كلها صعبت الوضع على إسرائيل، إلى درجة اضطرتها إلى عقد اتفاق اوسلو، الذي تم فيه الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقه بإقامة كيان له، ووضع حد لأسطورة إسرائيل الكبرى. وهي الأوضاع ذاتها التي اضطرت شخصا مثل شارون، ومعه قطاعات واسعة من الليكود، للاعتراف، ولو على مضض، بضرورة إنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية، باعتباره الثمن الذي ينبغي على إسرائيل أن تدفعه لتبيض صفحتها على الصعيد الدولي.
في كل ذلك فقد خاضت إسرائيل، طوال أربعة عقود ماضية، معارك كثيرة ضد ياسر عرفات، فهي حاولت اغتياله مرارا، جسديا وسياسيا، وفرضت الحصار عليه، في محاولة لعزله وإضعافه، منذ أواخر العام 2001، إلى أن خرج، بعد ثلاثة أعوام، للعلاج في فرنسا، حيث وافته المنية.
وكانت إسرائيل أنها جرّبت تخليق البدائل له، لكن كل هذه المحاولات آلت إلى الفشل، بسبب من أن أبو عمار ليس مجرد قائد سياسي أو مجرد رئيس، وإنما هو أكبر وأكثر وأعقد من ذلك، بالنسبة للشعب الفلسطيني، فهو زعيم هذا الشعب ورمز كفاحه الوطني وممثل قضيته وقاسمه المشترك.
الواقع فإن الشخصية الإشكالية والبرغماتية لعرفات حيرت إسرائيل، فالرجل هو صاحب قرار الكفاح المسلح ضد إسرائيل وهو صاحب قرار التسوية والتعايش معها. وهو صانع الثورة ومهندس الدولة. وقائد المفاوضة والانتفاضة في الوقت ذاته.
أما مصدر العداء الإسرائيلي المزمن لعرفات، فهو ينبع، أولا، من إصرار عرفات على رفض الانصياع للاملاءات الإسرائيلية المتعلقة بعملية التسوية، لاسيما بالنسبة لقضايا الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين والتوقيع على اتفاق ينهي الصراع؛ ولا شك أن هذا الرفض حطم الصورة النمطية التي رسمتها إسرائيل، وخصوصا حزب العمل، للقيادة الفلسطينية، بظنها أنها اعتادت تقديم التنازل تلو التنازل، تفهما لحساسيات إسرائيل وتفوقها؛ ثانيا، اعتبار عرفات مسؤولا عن ضعف الاستقرار السياسي في إسرائيل، فمنذ دخوله للأراضي المحتلة، لم تستمر حكومة إسرائيلية لكامل مدتها، وسقط عدة رؤساء حكومات وتم اغتيال رئيس وزراء هو اسحق رابين (أواخر العام 1995)؛ ثالثا، اتهام عرفات بالمراوغة والتلاعب، واستخدام اتفاق “اوسلو” بمثابة “حصان طروادة” لتدمير إسرائيل على مراحل، لاسيما أنه لم يتوقف عن التصريحات التحريضية، ذات الدلالات الرمزية؛ رابعا، اعتبار عرفات مسؤولا ليس فقط عن اندلاع الانتفاضة وإنما عن تحولها نحو المقاومة المسلحة بدليل بروز كتائب الأقصى وغيرها (التابعة لحركة فتح)، التي رعاها واحتضنها عرفات ذاته، في هذه المقاومة؛ خامسا، وأساسا فإن ما دفع إسرائيل للتخلص من عرفات هو قناعتها بأن القضاء على هذا الرجل، الذي يعتبر رمزا للوطنية الفلسطينية المعاصرة، ويحتل عدة مواقع مركزية في العمل الفلسطيني (رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وزعيم حركة فتح)، من شأنه أن يربك الساحة الفلسطينية وربما من شأنه أن يصعّب من إمكانيات قيام الدولة الفلسطينية؛ ولعل هذا يشكل مخرجا لإسرائيل للتهرب من عملية التسوية التي فرضتها الظروف الدولية والإقليمية.
المفارقة أن الموقف الإسرائيلي والأمريكي، المتغطرس، تناسى أو تجاهل الحقيقة الساطعة والتي مفادها أن الرئيس عرفات هو الزعيم الذي استطاع نقل الوعي الفلسطيني، من المجال التاريخي والرمزي، إلى المجال البرغماتي والسياسي. أو من مجال الصراع والنفي المتبادل إلى مجال التسوية والتعايش المشترك، وفق صيغة دولتين لشعبين؛ مستثمرا في ذلك ثقة شعبه به بحكم مكانته التاريخية والرمزية والوطنية.
بهذا المعنى فإن معركة إسرائيل ضد عرفات بدأت بالتهرب من استحقاقات عملية التسوية وبخلق الوقائع الاستيطانية التي تؤبّد الاحتلال، مرورا بحبك فخّ مفاوضات كامب ديفيد واتهامه بإفشالها، تمهيدا للإعلان فيما بعد بأنه لم يعد ذي صلة وأنه لم يعد شريكا بالسلام، واتهامه بولوج طريق العنف ووصمه بالإرهاب، وصولا إلى المطالبة بعزله أو تقييده، بدعوى إصلاح الحال الفلسطينية!
ويبدو أن إسرائيل في هذه المواقف والادعاءات إنما كانت تحاول التهرب من الأسئلة التي طرحتها عملية التسوية عليها، والتورية على واقع عجزها عن السلام الذي يتطلب الاعتراف بالآخر (الفلسطيني) ووضع حد لعملية الإنكار التاريخي لوجوده.
هكذا فبعد أن عجزت إسرائيل عن تغييب الفلسطينيين، للتغطية على جريمتها تجاههم، تعمدت القيام بجريمة أخرى بحقهم، عبر تشويه عدالة قضيتهم، ونزع شرعيتها والتشكيك بأخلاقيتها، بوصمهم بالإرهاب والترويج إلى عدم أهليتهم لحق تقرير المصير، وكانت المعركة ضد ياسر عرفات هي اختزال للمعركة الإسرائيلية الدائمة ضد الشعب الفلسطيني.
عرفات في إطار الصراع التفاوضي مع إسرائيل
برغم كل الملاحظات على إدارة عرفات للوضع الفلسطيني، فإنه من الإنصاف القول أيضا أن هذا الرجل، وبرغم كل الظروف الصعبة والضغوط الهائلة التي تعرض لها، ظل صامدا مسكونا بهاجس دوره التاريخي وقيمته الرمزية ومكانته في قلوب شعبه، وهذا ما جعل منه شخصية عصية على التطويع أو التنميط.
ولعل تفسير موقف عرفات في مفاوضات كامب ديفيد ثم طابا (2000 ـ 2001)، يكمن في حقيقة أنه ما كان بإمكانه، وهو زعيم الشعب الفلسطيني وقائد كفاحه التاريخي ورمزه الوطني، أن يذهب أكثر مما ذهب في التكيف مع الاملاءات الإسرائيلية، بعد أن قدم ما يمكن تقديمه لعملية التسوية في إطارها الانتقالي، لذلك فإنه عندما آن أوان الحل النهائي تمسك أبو عمار بالحقوق التي أقرها المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني. وبسبب من براغماتيته العالية وحسه التاريخي وولعه بالمراوغة السياسية لم يجد أبو عمار تناقضا، بين تكيفه مع المطالب الإسرائيلية في المرحلة الأولى (الانتقالية) وصده لها في المرحلة الثانية، بعد أن انتابه شعور بأنه نقل شعبه من مرحلة الشتات والضياع إلى مرحلة الدولة، وأنه بات رقما في المعادلة الإسرائيلية الداخلية، وأنه أعاد العمل الفلسطيني إلى ساحته الأساسية بنقله مؤسسات منظمة التحرير وقواتها إلى الأراضي المحتلة.
والثابت أن استهتار إسرائيل بحقوق الشعب الفلسطيني وكرامته، هي التي دفعت ياسر عرفات نحو التشدد، بعد أن شاهد تملص إسرائيل من استحقاقات التسوية المطلوبة منها، بدعوى أنه لا مواعيد مقدسة، وبعد أن شاهد الجرافات تدرس الأراضي الفلسطيني لمصادرتها، والمد السرطاني للمستوطنات، وبعد أن لمس تلاعب إسرائيل بمآل الحل الانتقالي، بعد انتهاء فترته المقررة، في إطار اللعبة الانتخابية بين العمل والليكود.
هكذا جاء خيار الانتفاضة، واحتضان عرفات لها انطلاقا من رؤية مفادها أنه في ظل هذه الأوضاع ينبغي الضغط على إسرائيل، عبر الانتفاضة والمفاوضة في آن معا، لدفعها لتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها.
وفي هذا الوضع بلغ الحقد مبلغه عند إسرائيل، فاتهمت عرفات بأنه لم يعد مؤهلا للتسوية، وأنه لجأ إلى العنف للضغط على إسرائيل، وأنه لم يعد له صلة، وأنه لم يعد شريكا للسلام، ثم اتهموه بالإرهاب..وهكذا
ويمكن تبين تأثير عرفات ومكانته لدى إسرائيل من مراجعة بعض التحليلات الإسرائيلية. فهذا غيء ياخور، مثلا، يعتبر أن عرفات:”نقل المجتمع الفلسطيني إلى العسكرة، وحرض المجتمعات العربية ضد إسرائيل وحاول تخريب العلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل ومصر والأردن، ومس بشرعية إسرائيل في العالم العربي وأوروبا”.(يديعوت أحرونوت 17/11/2001) ويرى أوري سمحوني أن: “عرفات هو الخطر الاستراتيجي الأكبر على إسرائيل..انه يتآمر علينا. عرفات يقاتلنا بنجاح في ملعبنا الداخلي، ويناور على الرأي العام بواسطة الإعلام..يتحدث معنا عن السلام ومع رجاله عن عمليات..انه يتغلب علينا وسط الرأي العام العالمي..عاش عرفات أربع حكومات إسرائيلية..انه يأكلهم بدون ملح ويؤثر على أجندة إسرائيل أكثر من أي رئيس حكومة.”(معاريف، 3/8/2001) ويحلل بن كسبيت مكانه عرفات من الجانبين، فهو عند الإسرائيليين”رمزا للفقدان والموت، وعند الفلسطينيين أبو النهضة والأمل..أبو الأمة الفلسطينية ومؤسسها الذي قادهم لأربعين سنة في الصحراء وأعادهم مرة أخرى إلى رام الله وغزة وبيت لحم..وبالنسبة للشعب اليهودي هو شيطان نموذجي خطير وغول بغيض..يمثل دافعية القتل المنفلتة والإرهاب والكراهية”.(معاريف 29/10/2004)
ويحاول ناحوم برنياع، بشيء من الموضوعية، إجراء تقييم لمسيرة عرفات في التالي:”عرفات حقق إنجازات غير مسبوقة على المستوى السياسي فقد سيطر على شعب بلا ارض ونجح في إبقاء القضية الفلسطينية في بؤرة جدول الأعمال الشرق أوسطي والعالمي طوال يوبيل من السنين. لكن، خلافا للنصب والاحتيال كانت لدى عرفات رؤية وفلسفة وطريق. هو اعتبر نفسه تجسيدا لفلسطين. هو الأخلاقيات والقيمة العليا. هو الأسطورة. سيرته التي تصل إلى فصل الختام بهذه الطريقة أو تلك، تضمنت الكثير من المصاعد والمهابط، لكنها لا تتضمن تنازلا عما اعتبر جوهريا في نظره: حق العودة. السيطرة على الأماكن المقدسة وموطيء قدم في القدس. هذه القيمة العليا هي البنية التحتية التي يتركها عرفات للقادمين بعده، وهي أيضا الأغلال التي توثق أرجلهم..إسرائيل والولايات المتحدة ملزمتان بالتصرف بحذر شديد. محظور عليهما أن تتبنيا أو ترعيا مرشحا محددا. إذا فعلتا ذلك فستدمران فرص هذا الشخص مسبقا”.(يديعوت أحرونوت 29/10)
عرفات والمعارضة الفلسطينية
كان ياسر عرفات على بساطته وانفتاحه وشعبويته شخصية إشكالية شديدة التعقيد، كما قدمنا، ويمكن القول أن هذه الشخصية الاستثنائية لخّصت في مكنوناتها وفي رمزيتها التعقيدات والمداخلات المتضمنة في القضية الفلسطينية، والصراع العربي ـ الإسرائيلي.
لم يدرك معارضو ياسر عرفات، لاسيما من المحسوبين على المعارضة الفصائلية النمطية، طبيعة تلك الشخصية، فذهبوا بعيدا برميها بالكبائر؛ غير مدركين أبعاد هذه الشخصية الوطنية ـ التاريخية، التي ظلت تحاول التحايل على موازين القوى المختل بشكل فظيع لصالح إسرائيل، والتي ظلت تتنسّم صنع ثورة فلسطينية مستحيلة، في واقع عربي صعب ومشتت وعاجز، وفي ظل معطيات دولية غير مواتية على الإطلاق. رغم ذلك فإن الراحل ياسر عرفات، الذي كان زعيما وقائدا ومناضلا، لم يقطع حبل الود والوصل مع معارضيه، على تبايناتهم.
كان البعض في المعارضة الفصائلية يأخذ على ياسر عرفات أنه هيمن على منظمة التحرير، في حين أن الرئيس الراحل كان يحاول حماية استقلالية القرار الوطني الفلسطيني على طريقته، من الرياح والعواصف الإقليمية والدولية. اللافت هنا أن هذه المعارضة لم تذهب في خطابها إلى حد المطالبة بإعادة بناء منظمة التحرير على أسس جديدة، تضمن الديمقراطية والمأسسة والقيادة الجماعية، ولاسيما الأخذ بالحسبان الواقع الجديد في الساحة الفلسطينية، المتمثل بنهوض قوى سياسية جديدة وأفول قوى سابقة، لأنها كانت في الواقع تفضل الحفاظ على “الستاتيكو” السائد القائم على نظام “الكوتا” الفصائلية، وهي بذلك تدين ببقائها لياسر عرفات بالتحديد لأنه صنع هذا النظام وحافظ عليه.
الأهم مما سبق أن الفصائل المعارضة، لم تتمكن من تقديم النموذج المحتذى للقيادة الجماعية وللديمقراطية المتوخاة وللمراجعة النقدية المطلوبة، في خطاباتها وبناها وعلاقاتها الداخلية، والتي ينبغي على الرئيس عرفات الأخذ بها، في إدارته للساحة الفلسطينية! إضافة إلى أنها عجزت عن توحيد ذاتها، كما عن تشكيل أية حالة بديلة، تحظى بالحد الأدنى من القبول من الشعب الفلسطيني!
إذا تجاوزنا الحديث عن الشأن الداخلي إلى الشأن السياسي فإن المعارضة الفصائلية، لياسر عرفات والتي استمرت طوال أكثر من عقدين، ومنذ ما بعد الخروج من بيروت، ولاسيما منذ توقيع اتفاق اوسلو (1993)، تأسست على اعتبارات، أو ادعاءات، عدة ملخصها أن الرئيس الفلسطيني فرط في القضية الوطنية؛ وأنه تخلى عن خيار الكفاح المسلح؛ وأنه شقّ الشعب الفلسطيني. ولكن مسيرة ياسر عرفات خيّبت هذه الادعاءات السطحية والمتسرعة، التي غالبا ما انطوت على شخصنة النقد السياسي والمبالغة به مثلما تضمنت مراعاة حسابات إقليمية معينة.
وكما بات معلوما فإن ياسر عرفات لم يذهب إلى حد التفريط بالثوابت الفلسطينية، المتعلقة بالبرنامج المرحلي (حل على أساس دولتين)، وبرغم أنه واجه ضغوطا ثقيلة جدا (إسرائيلية وأمريكية ودولية وإقليمية) في مفاوضات كامب ديفيد (2000)، إلا أنه رفض التنازل عن الحل الوسط التاريخي؛ من دون أن نذهب بعيدا إلى حد تحميله المسؤولية عن انهيار مفاوضات أرادت إسرائيل أن تنصب فيها فخا له، باستدراجه لتنازلات نوعية إضافية في الأرض والحقوق والسيادة. وهكذا فإن ياسر عرفات، بمسؤوليته الوطنية التاريخية، دافع عن حقوق الشعب الفلسطيني ودفع ثمنا باهظا لذلك، مثله مثل كل القادة الوطنيين.
معنى ذلك أنك يمكن أن تختلف مع الرئيس الراحل على هذا التاكتيك وعلى هذه الاستراتيجية، على شكل إدارة الصراع وعلى الشعارات، فهذه الأمور تبقى ضرورية ومطلوبة، ولكن بعيدا عن اجتراح الاتهامات الظالمة والطنانة والفارغة.
وبالنسبة لاتهام ياسر عرفات بأنه تخلى عن خيار الكفاح المسلح، فقد أكدت مسارات الانتفاضة بأن هذا الادعاء ليس له صلة بالواقع، فقد كان أبو عمار ملهم الانتفاضة، مراهنة منه على معادلة المزاوجة بين الانتفاضة والمفاوضة. وكان هو تحديدا حاضن الظاهرة العسكرية المسلحة، التي أطلقتها كتائب الأقصى والعودة (التابعتين لفتح) منذ الأشهر الأولى للانتفاضة.
أما بالنسبة للانشقاق في الشعب الفلسطيني، فهو زعم لم يثبت البتة، فقد ظل عرفات رمزا وزعيما للفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم في الداخل، وفي مناطق اللجوء والشتات، برغم من اختلافهم بشأن إدارته للوضع الداخلي ولبعض الملفات العربية. وما يسجل لياسر عرفات في هذا المقام أنه لم يفرط بالوحدة الوطنية الفلسطينية، وأن نزوة السلطة والدولة لم تذهب به إلى حد فرض أجندته بالقوة على معارضيه (كما ذهبت إلى ذلك حماس بسيطرتها بالقوة والاقصاء على قطاع غزة)، وذلك على رغم الظروف الدولية والإقليمية التي مر بها ومرت بها معه القضية الفلسطينية، لاسيما منذ ما بعد حدث 11 سبتمبر/2001.
موما فقد فاجأ ياسر عرفات معارضيه، وربما أنه “خيّب” توقعاتهم منه، أو بالأحرى فإنه كشف ضحالة تفكيرهم وتجربتهم في السياسة، فهو، مثلا، لم يفرط بالوحدة الوطنية، إلى حد الذهاب للاقتتال الداخلي لفرض أجندته السياسية؛ ولم يتخلّ عن مشروعية خيار المقاومة المسلحة؛ كما لم يذهب إلى حد التفريط بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني مقابل دولة أو سلطة، على ما ادّعى هؤلاء، بل إنه مارس على العكس من كل ذلك، حتى أنه دفع ثمنا باهظا ثمن كل هذه الخيارات، فيما بعض المعارضة بقي في مواقع المتفرجين أو المشكّكين!
ولعل من قبيل الإنصاف القول أنه مع كل الملاحظات على إدارة عرفات للوضع الفلسطيني فإن هذا الرجل، وبرغم الظروف الصعبة والضغوط الهائلة التي تعرض لها، ظل صامدا، مسكونا بهاجس دوره التاريخي وقيمته الرمزية ومكانته في قلوب شعبه، وهذا ما جعل منه شخصية عصية على التطويع أو التنميط.
هكذا فإن بعض معارضي ياسر عرفات، من الفصائليين، لم يفهموه سياسيا، وهم أساسا لم يقدروا التعقيدات والإشكاليات والتداخلات المتعلقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هذا الصراع الذي لا يحكم بالشعارات والبيانات والرغبات وإنما بالتعامل مع واقع موازين القوى والمعطيات السياسية السائدة عربيا ودوليا.
لم يظلم ياسر عرفات، الظاهرة، من بعض معارضيه فقط، وإنما هو ظلم من بعض الموالين له، أيضا، أدركوا أم لم يدركوا ذلك، حين لم يستوعب هؤلاء جوهر هذا الرجل الاستثنائي، الذي ماهى القضية والوطن والشعب في شخصيته المركّبة، فقد أراده هؤلاء بمثابة “صنم” وحزب لهم؛ فقد كانوا مع ياسر عرفات الشخص والسلطة والقائد أكثر مما كانوا مع أبو عمار الرمز والزعيم والقضية.
عرفات وخصوماته العربية
عربيا، لم تكن ظروف الثورة الفلسطينية على ما يرام، على غرار حال الثورة الجزائرية مثلا، فقد انطلقت هذه الثورة من خارج فلسطين، وفي ظروف صعبه وحرجة، ما جعلها تخضع لقيودات وشروط عربية متباينة، وأدخلها ذلك في صراعات جانبية مجانية، أرهقتها واستنزفتها وشغلتها. وبرغم كل ذلك فإن مكانة القضية الفلسطينية في المجال العربي (الرسمي والشعبي) مكنت هذه الثورة من العوم في هذا البحر المتلاطم الأمواج.
ولا شك أن شخصية عرفات، اللانمطية، وبرغماتيته وحيويته وبراعته في مخاطبة مختلف الأهواء، مكنته من حيازة موقع متقدم في إطار النظام الرسمي العربي، وعلى الصعيد الشعبي، ومع ذلك فإن هذا الرجل لم ينجح تماما في بعض المنعطفات وبعض المواقف الحساسة بإرضاء الجميع، لأن هذا الأمر غاية لا تدرك، وهكذا دفعت الثورة الفلسطينية، التي كان الجميع يريدها ورقة إلى جانبه، ثمنا باهظا في بعض المواقف، ما أضعف الدعم لها، وفاقم من عزلتها أحيانا.
ولاشك أيضا أن النقلة التي حدثت بالانتقال إلى الداخل، بعد اتفاق اوسلو (1993) مكنت الرئيس عرفات من الإبحار بالسفينة الفلسطينية مجددا، متحررا بذلك من أعباء المداخلات والتدخلات العربية، ذات التوظيفات السياسية الضيقة.
ثمة التباسات عديدة في خصومة بعض العرب مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات فهذه الخصومة ليست نابعة من انفراده بتوقيع اتفاق أوسلو، فقط، ولا من انتهاجه خط التسوية، فحسب، إذ هي، في الواقع، نابعة من أبعاد سياسية وشخصية وتاريخية أوسع.
وبصراحة فإنه يمكن تفهّم اختلاف البعض مع عرفات في عديد من السياسات، وخاصة إدارته للوضع الفلسطيني ومداخلاته العربية والدولية، أما اختلاف البعض معه بسبب سلوكه طريق المفاوضات والمساومات فهي قضية محيّرة في وقت ذهب فيه النظام العربي بمجمله إلى اعتبار السلام خيارا استراتيجيا مع إسرائيل!
ويحلو للبعض، في هذا المجال التركيز على عرفات من زاوية توقيعه اتفاق أوسلو، ولكن هذه النظرة مراوغة لأنها تغطي حقيقة الموقف الرسمي العربي الذي لم يعد يجادل في وجود إسرائيل، كما أنها تحجب في المسؤولية العربية عن الانخراط في مؤتمر مدريد (أواخر العام 1991)، وفق شروط كان بعضها على غاية في الإجحاف بالنسبة للعرب وخصوصا بالنسبة للفلسطينيين، وفي كلا هذين الأمرين لا يملك عرفات ولا الفلسطينيون حق التقرير بهما، وما كان عرفات يذهب لخيار أوسلو، أصلا، لولا موافقة النظام العربي بالمبدأ وبقي التفاصيل.
ففي مدريد،مثلا، وافق النظام الرسمي العربي على المشاركة على أساس من الشروط التالية:
أولا، الدخول في مفاوضات مع إسرائيل على أساس قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام، وهذه هي المساومة الأساسية؛ إذ أن هذين القرارين يفتقدان لأي بعد فلسطيني، كما أنهما نقلا العرب من الصراع على وجود إسرائيل إلى الصراع على شكل هذا الوجود، أي من ملف حرب 1948 إلى ملف حرب 1967، ما يتضمن الاعتراف بإسرائيل، ويحصر الصراع معها بعودة الأراضي العربية المحتلة عام 1967.
ثانيا، موافقة كل طرف، من الأطراف العرب المعنيين، بإجراء مفاوضات ثنائية (انفرادية) مع إسرائيل؛ بدلا من الإصرار على التفاوض معها بوفد عربي مشترك، يطرح القضية برمّتها مرة واحدة.
ثالثا، الرضوخ لإرادة إسرائيل بشأن تغييب الفلسطينيين حيث لم يمثلوا في المؤتمر على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى، إذ اقتصر تمثيلهم على المشاركة بوفد من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 في إطار الوفد الأردني، إمعانا من الإسرائيليين بشطب البعد الفلسطيني واختزال القضية الفلسطينية إلى قضية أراض محتلة، في سابقة خطيرة في نوعها؛ وبتقديري فإن حساسية القيادة الفلسطينية من هذا الموقف هي التي دفعتها نحو خيار أوسلو.
رابعا، تغييب العناصر الأساسية للقضية الفلسطينية ومنها قضية اللاجئين التي باتت في عهدة لجنة متعددة الأطراف من لجان التفاوض الإقليمي.
خامسا، الموافقة (وأن بشكل متفاوت) على الانخراط في مفاوضات متعددة الطرف، تشارك فيها إسرائيل، تناقش قضايا التعاون الإقليمي: العلاقات الاقتصادية، الحدّ من التسلح، البيئة، اللاجئون، المياه.
سادسا، القبول بمبدأ التفاوض والسلام من دون تحديد هدف التفاوض وماهية السلام.
المعنى أنه لا يمكن وقف التعاطي مع عرفات عند لحظة اتفاق أوسلو، بل ينبغي النظر لهذه الشخصية الملتبسة والمتحركة نظرة مركبة تتناسب مع الواقع المركب والمعقد للقضية الفلسطينية، لفهم مرونته وصلابته، ومراوغته وبساطته، وبرغماتيته المفرطة ومبدئيته الرمزية.
الواقع لا يمكن فهم خصومات عرفات، على صعيد النظام العربي السائد، إلا باعتبارها تحصيل حاصل للاضطراب السياسي في هذا النظام الذي يتّسم، على الأغلب، بالازدواجية والمراوغة وشخصنة العلاقات والسياسات وتغليب المصالح القطرية على العربية والنصوص على الأفعال والشعارات على الإمكانيات، ولكن إلى متى؟ وبأي ثمن؟!
رحل ياسر عرفات، الزعيم والرمز والمناضل، ولكنه ترك قضية فلسطين متّقدة، وترك شعبه على درب الحرية والأمل، ولعل شعبه في هذه اللحظات في أشد الحاجة اليه.
(متل اليوم٢٠١١)