ولأن الحب لا يعترف بالموت

لم يكن إلياس يبحث عن فلسطين حين وجدها. كان يبحث عن نفسه فوجد فلسطين. لم تكن علاقته بفلسطين علاقة عقائدية باعتبارها فرضاً أيديولوجياً، مثلما هي الحال في لغة حزب البعث الخشبية، وإنما هاجس يعيشه وهواء يتنفسه. كان الفتى يبحث عن الحرية والعدالة، كأنه مسكون بسؤال المعنى؛ كان إنساناً لا يقبل أن يعيش حياته كمَن “جاءها ليصطاف”، وإنما ليعيشها كأنها “بيت أبيه” على حد تعبير الشاعر ناظم حكمت. وحين أقول “بيت أبيه” لا أقصد الشعور بالملكية والاستحقاق، بل على العكس: الشعور بالمسؤولية تجاه العالم والأم وآمال البشر؛ لا أن العالم مُلْكه، بل إنه مُلْك العالم – ذلك العالم المليء بالبشر المنبوذين والمهمشين والمسحوقين واللاجئين. لم يُنصّب إلياس نفسه متحدثاً باسمهم، لكنه كان يجد صوته في صوتهم، فهو يحتاج إليهم بقدر ما يحتاجون إليه، وحين يصيرهم يصير نفسه، وحين يكتب قصصهم كان يكتب قصة حياته.

في عز شبابه التحق بالفدائيين. لم يرغب في أن يكتب عن الثورة، وإنما أراد أن يعيشها. لم يصمد أمام إغواء الفروسية، وتتبّع قلبه مثلما يليق بكل عاشق. سار إلى هناك كي يقترب من نفسه ويلمس روحه. شيء ما في التزلج على منحدر يطلّ على هاوية الموت خلال النضال، كان يعطي الحياة معنى خاصاً، كأن القيم لا تستقيم إلّا إذا كنا على استعداد لدفع ثمن إيماننا بها.

سيبقى شيء من الغموض يلفّ هذه الفترة من حياته، لكن يبدو لي أن إلياس الذي نشأ في بيت مسيحي أرثوذكسي، كان أكثر الملحدين إيماناً، وأكثر المؤمنين إلحاداً. التقط من مسيحيته شخصية المسيح الفادي الذي يذهب إلى صليبه من أجل آلام الآخرين، وقد لا تكون مصادفة هذا اللقاء اللغوي بين مصطلح الفدائيين الذين غامروا بحياتهم لأجل فلسطين ولفظة الفادي. وكان الكاتب علي الأتاسي قد كتب مؤخراً أنه عندما أسرّ إلياس خوري إلى المطران جورج خضر بنيّته الالتحاق بالعمل الفدائي، أخذه الأخير في حضنه قائلاً: “ما تخاف، المسيح كان أول فدائي.”

بيروت في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات هي بيروت غسان كنفاني ومحمود درويش؛ حراك فلسطيني وعربي ثقافي وسياسي يبشّر ببداية الخروج من أزمة هزيمة حزيران / يونيو 1967 الكبرى. أم سعد تفجر الخزان، ولاجئو رجال في الشمس يقبضون على إرادتهم. بيروت تجاوزت أن تكون عاصمة لبنان، لتصبح عاصمة المشرق العربي، وملتقى المثقفين العرب المطرودين والملاحقين في عواصمهم. حينها سيكتب إلياس عن بيروت واصفاً إياها بأنها: “ذاكرة الذين لا ذاكرة لهم، مدينة الذين لا مدينة لهم.. مدينة الجميع، مدينة الفقراء واللصوص والشحاذين والأدباء والمهجرين، مدينة المناضلين والحالمين، مدينة لبنانية ومدينة فلسطينية، ومدينة مصرية ومدينة إيرانية.”

إنها بيروت ذاتها التي سيقع الشاعر محمود درويش – صديق إلياس العزيز – في حبها، ويكتب واصفاً إياها: “بيروت خيمتنا، بيروت نجمتنا، بيروت قصتنا، بيروت غصتنا.” هكذا وحّد عشق بيروت الشاعر الفلسطيني والروائي اللبناني. وفي سنة 1982 سيخرج المقاتلون الفلسطينيون تاركين عائلاتهم العزّل في مخيمات اللاجئين. ويكون ليل ويكون سبت، وتكون صبرا وتكون شاتيلا. دم فلسطيني ودماء لبنانية كثيرة سالت على أرض لبنان، لتجسد في الواقع، لا في النظرية، وحدة المصير في المشرق العربي. تلك الوحدة التي عبّر درويش عنها: “جسدان في تابوت هذا الشرق نحنُ / [….] نحن بشارة الميلاد نحنُ / وصورتان لخطوة قد حاولتْ، قد حاولتْ أن تهدي الشرق المَشاعا.”

عاش إلياس فلسطين من خلال مخيمات اللاجئين في لبنان التي أدْمَن زيارتها وسماع قصص أهلها. وفي معرض توصيفه لمشروع روايته العظمى – “باب الشمس” – تحدث إلياس عن القصص التي سمعها من أهالي المخيمات. لم يحاول أن يحيك من هذه القصص حبكة واحدة أو رواية متجانسة، ولم يشأ أن ينافس أبطال رواياته أو أن يفرض نفسه ورؤيته عليهم، فكان يترك للقصص أن تتداخل لتكون الرواية مساحة لتعدد الأحداث، وشذرات من حكايات متنوعة تصنع معاً سجادة من الكلام الذي يروي حكايات النكبة بصيغة الجمع لا المفرد. كان إلياس يخاف أن يطغى صوت أو حكاية ما على بقية الأصوات والحكايات، ومن هنا جاء إصراره الدائم على “المتعدد” الذي يرفض الانصياع إلى الدوغما الأيديولوجية الواحدة والوحيدة.

إن ما يلفت انتباه إلياس في هذه المرحلة، هو قناعته بضرورة فهم النكبة باعتبارها صيرورة مستمرة، وليست حدثاً بدأ وانتهى. فسنة 1948 ليست كسائر السنوات، بل هي مثلما قال: “مرحلة طويلة بدأتْ في تلك السنة، وتنكرت بأسماء السنوات التي تلتها.” إسرائيل طاردت ولا تزال تطارد وتغتال الفلسطيني أينما يكن. فالعديد من الفلسطينيين هم لاجئون للمرة الثانية والثالثة والرابعة، ولذا فإن النكبة حاضرة بقدر ما هي ذاكرة، وهي مسألة أخلاقية بقدر ما هي مسألة تاريخية.

عاد إلياس في عقده الأخير ليكتب فلسطين روائياً خلال ثلاثية “أولاد الغيتو”: “اسمي آدم”، و”نجمة البحر”، و”رجل يشبهني”. لقد أراد أن يُخرج الفلسطيني من حالة الخرس، وأن يكفل حقه في الكلام، وأن يروي روايته بنفسه. أراده أن يطرق باب الخزان. غير أن إلياس يتجاوز السؤال الذي طرحه كنفاني عن طَرْق باب الخزان ليسأل سؤالاً آخر: هل تكمن المشكلة حقاً في أن الفلسطينيين لم يطرقوا الخزان؟ وأنهم لم يصرخوا بما فيه الكفاية؟ أم إن المشكلة تكمن في كون العالم الغربي غير معني بسماع صوتهم لأنه مشغول بتنقية ضميره، والتكفير عن جريمته في حقّ اليهود، بأن يجيز لإسرائيل أن ترتكب جريمة أُخرى في حقّ الفلسطينيين في محاولة “لغسل دماء اليهود بدماء الفلسطينيين؟” هكذا أخذ خوري السؤال إلى مناطق جديدة، وبدلاً من أن يكون سؤالاً عن قدرة الفلسطيني على الكلام، أصبح السؤال عن رغبة العالم واستعداده للإصغاء؛ نقل السؤال من منطقة الخرس إلى منطقة ومنطق الصمم.

مذ توطدت علاقتي بإلياس في العقد الأخير، وأنا أخشى أن يغيب عن العالم قبل أن أزوره في بيروت وقبل أن يزورني في الجليل، لأن هناك مَن رسم الحدود وفرّق الأوطان. غير أن الأدب يُنجز ما لا تُنجزه السياسة، فالأدب كما الحب لا يعترف بالحدود. لم يتمكن خوري من الوصول إلى الجليل الذي عشقه مثلما وصل درويش إلى بيروت. درويش أحب بيروت بعد أن عاش فيها، إلّا إن خوري أحب الجليل من دون أن يعيش فيه. لم تطأ قدماه أرض فلسطين، لكنه اختار أن يرسل أبطال رواياته إلى هناك: ميليا في “كأنها نائمة”، وآدم في ثلاثيته، والأهم منهما يونس في “باب الشمس”. زاروا فلسطين بالنيابة عنه، أعاروه عيونهم التي رأوا بها ملامح فلسطين، بعد أن أعارهم هو عينيه. شاهدوها بعينَيه وشاهدها بعيونهم. قطعوا جميع الحدود، وأنجبوا أولاداً بنوا قرية “باب الشمس” ليسبق فعل الكتابة فعل البناء، ولتسبق الكلمة الحجر.

حين سئل إلياس مرة عن رواية “باب الشمس” قال إنها قبل أي شيء قصة حب بين رجل وامرأة، وأنهى إحدى مقابلاته مجيباً عن سؤال: ما الذي يبقى في النهاية؟ قائلاً: “لا يبقى سوى الحب.”

راهن خوري دائماً على الحب. فقد عاش عاشقاً ومات عاشقاً للحرية، وللجمال، وللمرأة، وللشِّعر، ولبيروت، ولفلسطين باعتبارها اسماً آخر للعدالة.

وفلسطين تردّ على الحب بالحب، وعلى الوفاء بالوفاء، ونقول لك يا صديقي إلياس إن رهانك على الحب كان في محله تماماً لأننا نحبك كثيراً…

اعذرني إن تحدثت إليك من حين إلى آخر، موقظاً إياك من موتك لأستشيرك في بعض هواجسي وأفكاري، فالحب لا يعترف بالموت.

* أُلقيت هذه الكلمة في حفل التكريم الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس احتفاء بالروائي الراحل إلياس خوري.

عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *