وعــد الآخــرة
من بين أهم الأسباب التي دعت لإطلاق عملية «طوفان الأقصى» الاعتقاد بوعد الآخرة.. أي الاعتقاد بصورة جازمة لا يتسرب إليها الشك بأن إسرائيل على وشك السقوط والزوال نهائياً، وخلال فترة قريبة جداً، وأنّ تحرير فلسطين لا يحتاج سوى توجيه الضربة القاضية لإسرائيل..
وهذه الفكرة كانت تعتمل في عقول قادة حماس، بل إنها انتشرت في الأوساط الشعبية، خاصة مع تداول مقاطع فيديو ومقالات لمشايخ تروج لنبوءة سقوط إسرائيل في العام 2022، وآخرون قالوا في العام 2027، وهي تصورات غيبية اعتمدت على ما يسمى الإعجاز الرقمي، وهي في الحقيقة مجرد خرافات وأوهام، وتفكير بالتمني، وتحليل رغائبي لا علاقة له بالواقع.
وما ساعد في انتشار النبوءة وتصديقها تصريحات لقادة إسرائيليين تحدثوا وبشيء من الخوف عن تلك النهاية المحتمة، وعن ما تسمى «لعنة العقد الثامن»، مع إن حديثهم يمكن فهمه في إطار التحذير مما هو قادم، والتنبيه للسياسات الخاطئة والمتهورة التي تنتهجها الحكومات اليمينية، أو لتخويف المجتمع الداخلي (وهذا دأب الإعلام الإسرائيلي)، أو لأغراض شخصية لها علاقة بالبقاء في السلطة.
هذه الفكرة ليست جديدة، لكنها قبيل «طوفان الأقصى» انتشرت بقوة، وصارت في مركز تفكير قيادات حماس. ولتوضيح ذلك نورد بعض الأمثلة:
في أكتوبر 2011، صرح إسماعيل هنية (وكان حينها رئيس الحكومة المقالة) بأن حكومته بدأت بتصميم وإعداد منبر خاص للمسجد الأقصى استبشاراً بقرب فتح مدينة القدس.
وفي وقت لاحق أقام ناشطون من غزة مسرحية تصور سيناريو تحرير القدس، شارك فيها هنية شخصياً، حين دخل من بوابات كرتونية تحاكي بوابات القدس، ومن خلفه جموع المؤمنين تكبّر وتهلل! كما نظمت وزارة الأوقاف في غزة مسابقة «خطبة إمام المسجد الأقصى بعد التحرير»..
في شهر أيلول 2021، عقدت حركة حماس مؤتمراً بعنوان «وعد الآخرة»، تناول كيفية إدارة دولة فلسطين بعد تحريرها كاملة من الاحتلال الإسرائيلي.
وفي أيلول 2022 قامت وزارة الحكم المحلي في غزة بترتيب وتعيين مجالس بلدية لأكثر من عشرين مدينة فلسطينية (داخل الـ 48) من بينها يافا والمجدل، تم انتقاؤهم من بين أبناء العائلات التي كانت تسكن تلك المدن، وهي بصدد استكمال مجالس باقي المدن حتى تقلل الفوضى وتضبط الحياة أثناء وبعد التحرير.
وفي آذار 2023 صرح محمود الزهار بأننا على أبواب معركة وعد الآخرة، التي عنوانها دخول المسجد الأقصى وزوال الكيان الصهيوني وهروب الاحتلال ومستوطنيه من كل فلسطين.
وفي نيسان 2023 نشر الإعلام العسكري في كتائب القسام، مقطع فيديو يظهر الاستعداد لمعركة سماها «وعد الآخرة».
واشتمل على مشاهد لعناصر من الأجنحة العسكرية خلال استعدادهم في غرفة العمليات المشتركة.
وفي تصريحات متكررة لفتحي حماد أكد فيها أن ثلاث سنوات فقط هي ما تبقى من عمر إسرائيل.
ما يعني أن فكرة زوال إسرائيل كلياً كقوة احتلال (وهي حلم كل فلسطيني بالتأكيد) بدأت تسيطر على أذهان قيادات حماس، وصاروا يرون أنها باتت وشيكة جداً، لدرجة البدء في تجهيز ترتيبات البلديات داخل الخط الأخضر، وتصميم منبر للمسجد الأقصى، وإعداد خطبة التحرير، ونصائح التخلص من الشيكل لأنه لن ينفع في الدولة القادمة، وكل ذلك تحت شعار «وعد الآخرة»..
ولا شك في أن هذه الرؤية المتفائلة والاعتقاد الجازم بزوال إسرائيل وبتحرير فلسطين مسألة ضرورية لتحريض الأجيال على المقاومة، انطلاقاً من إيمانها بحتمية النصر، وهي مادة مهمة للتعبئة الوطنية ورفع المعنويات وشحذ الهمم.. إلخ.
ومن الطبيعي والحتمي أن إسرائيل ستزول في يوم من الأيام، فهي ليست استثناء في حركة التاريخ، بل إن خصائصها وسماتها وأزماتها المستعصية تجعل زوالها أمراً مؤكداً، وقطعياً، وحقيقة لا يتسرب إليها الشك.. بل وتجعل انهيارها دراماتيكياً بأسرع مما يتصور الكثيرون..
لكن أن يتم التعامل مع الفكرة بصفتها حقيقة موضوعية وقد باتت قاب قوسين أو أدنى، وأن تكون مرتكزاً في التخطيط لعملية ستقود إلى حرب طاحنة، مع تجاهل الظروف السياسية والإقليمية ومعادلات النظام الدولي وموازين القوى وحسابات الحرب القائمة على أسس علمية وغير ذلك فهذه تصبح رؤية طوباوية حالمة وغير واقعية، واتخاذ قرارات خطيرة وحاسمة بناء على تقدير موقف غير صحيح وغير علمي..
ولن نناقش هنا مدى واقعية هذا الحلم المشروع، وهل هناك مؤشرات حقيقية تنبئ بذلك وتدعم هذا التصور، وهل هذه مرحلة تحرير أم مرحلة صمود وثبات، ولا مدى إخفاق حماس في حكم القطاع، والواقع المأساوي لقطاع غزة قبل الحرب، وهجرة مئات ألوف الشبان منه بحثاً عن الكرامة ولقمة العيش.. ما يهمنا هنا أن هذه الروح المتفائلة سادت وهيمنت على عقلية قيادات القسام، وربما كانت دافعاً رئيساً لإقدامها على هجوم السابع من أكتوبر رغم علمها بتداعياته الكارثية.
وربما أقدمت على الخطوة مزهوة بمظاهر القوة والتسليح والصواريخ والأنفاق التي امتلكتها حماس، ومع الاستعراضات العسكرية التي جعلتها تشعر بأنها تمتلك قوة كافية لهزيمة إسرائيل، ومع مبالغات «الجزيرة» الإعلامية في توصيف قوة حماس، وترسانتها الصاروخية و500 كلم من الأنفاق.. وصلت الثقة بقوة الذات مرحلة «جنون العظمة».
لم يكن هذا المعتقد (النبوءة) والمؤتمر الذي عقدته حماس (مؤتمر وعد الآخرة)، مجرد حملة دعائية محاطة بهالات من القداسة، بقدر ما كان حملة منظمة لاغتيال العقل الجماعي للحركة أولاً، وللمجتمع ثانياً، للحركة التي تعاملت معه بثقة مفرطة في النفس، وبيقين نهائي ودون تفكير عقلاني. وللمجتمع الذي ساير وصمت على هذه الخرافات، وربما صدّقها..
التصديق بهذا القدر من الرسوخ واليقين بنبوءة غيبية، وجعْلها ركناً أساسياً لخطة ستقلب العالم رأساً على عقب يدل على نوعية العقل الذي تفكر به حماس، ومنهجية التخطيط واتخاذ القرارات، ضمن تجربه حكم دامت قرابة العقدين من الزمن. تلك التجربة وضعت غزة على حافة الانهيار، وأوصلتنا جميعاً إلى محنة فوق طاقتنا، وتركت آثاراً كارثية ستمتد عقوداً قادمة.. وكما كتب الصديق «محمد حوراني»، هذا يتطلب مراجعة ونقد هذه التجربة بتجرد وجرأة، لنرى حقيقتها وحقيقة ما ألحقته بالشخصية الفلسطينية من عطب يلزمه الكثير من الوعي والشجاعة لمعالجته..
عن الأيام