وصية السبعاوي
نظر إليّ من جديد وكأنه يتفقد ملامحي.. وتابع لفً القماش على ما تبقى من ساقه التي داست على لغم في الطريق الصخري قبل عامين..
السبعاوي يقول: لا يمكن أن يكون اليهود قد اكتشفوا الطريق الصخري فهو وعر وقاس جداً، لا تصله إلا العنزة الجرباء، وعيون الجواسيس الذين منا وفينا!
تذكرت أغنية فيروز ” تهوين قمات الجبال الشمق أوكار النسور..” ورحت ادندنها بداخلي.
-كيف وضعوا الألغام عند اعشاش النسور .. غير الله لا أحد يعلم..
وكأن السبعاوي كان يفكر فيما أفكر فيه، فالطريق الصخري الذي كان يوصلهم إلى شمال فلسطين عبر الجنوب اللبناني لا تتسلقه إلا النسور وأعين الجواسيس. لكن أبو حسن السبعاوي في لحظات
صفائه مع لفافة تبغه يقول إن الحاج أبا جورج يعتقد أن طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي من دون طيار والمسماة (أم كامل) قد اكتشفت الطريق الصخري، فهي تميز بين الفصائل من أعقاب سجائر الذين يدخنون الجيتان الفرنسي، والذين يدخنون المارلبور .. ! فهل سيصعب عليها اكتشاف الطريق الصخري؟
-ما بك تحمل علبة التبغ.. أستلف لك سيجارة؟
-لا، لا عمي أبو حسن، أنا لا أدخن.. ولكن كأني شاهدتها من قبل.
ابتسم أبو حسن السبعاوي، وتفرس ملامحي بعدما انتهى من لف القماش والإسفنج على أسفل ما تبقى من ساقه، وهمّ في ارتداء رجله البلاستيكية، الطرف الاصطناعي، وهو نوعان، والسبعاوي يحمد ربه لأن طرفه – ورغم اختلاف لونه عن لونه – من النوع المتحرك، أي من المخصص للأرجل التي قُطعت من تحت الركبة، حيث يمكنه السير بحرية، وحتى المشاركة بالدبكة، وجرب ذلك لأول مرة في حفلة أقامها المشفى المخصص لمعالجة جرحى حركات التحرر، وقد استطاع إكمال الرقصة الشعبية اليوغسلافية حتى نهايتها..
ويتابع أبو حسن ضحكاته وذكرياته عن المشفى والممرضات، والأرملة الشقراء التى كانت تحب أذنيه الكبيرتين، وعن المرأة البدينة التي لقبته (بأبو ثلاثة).. وعن الزهور التي في الشوارع، وعن الخمرة
والرحلات السياحية..
وفجأة، وكما في كل مرة، يغضب ويبدأ بشتيمة المسؤولين ال.. أولاد ال.. الذين كانوا يرسلون عائلاتهم للاستجمام والسياحة من خلال المنح الطبية المخصصة للجرحى..
-هيا يا بني نكتب الوصية..
-الله يطول عمرك يا أبو حسن، لماذا هذا التشا..
-لو فتتني اللغم لكان الأمر أحسن بكثير.
قال ذلك بجدية، ولعن الساعة التي اكتشف فيها الصهاينة أن الفدائيين يقفزون من صخرة إلى صخرة بعدما حالت دون تسللهم إلى فلسطين الاسلاك المكهربة والسهول المزروعة بالألغام والفتن، والحواجز مسبقة الصنع.
-متى ستعود إلى غزة ؟
-بعد أيام.
سألني وراح ينظر إلي من جديد كأنه يتحسّر أو يتذكر شيئاً ما، فالسبعاوي غادر فلسطين بعد العطش الثاني -كما يقول – فالعطش الأول كان عام 1948، وكان أبو حسن يقاتل بين العطشين
دفاعا عن كل آبار فلسطين.
أمي قالت إن جارنا أبوحسن، والذي أصبح لقبه ” أبوحسن السبعاوي ” بعدما غادر بئر السبع عام 1967، كان مقاتلاً جوالاً، كلما سمع بمعركة أخذ بندقيته وركض، الله يسهل عليه، كان زينة بئر السبع.. ولقد سمعتها تتحدث إلى جارتنا في إحدى الأمسيات القمرية عن أبو حسن السبعاوي وأيام الشباب وعن إعجابها برجولته وشجاعته.
-هيا، اكتب ما سأقوله لك.
-يا هل ترى من سيكون وريثك في الوصية؟
– وريثي؟! هأ هااا هههها.
ضحك السبعاوي من كل قلبه، تناول علبة التبغ الجلدية المنمنمة بالخرز، ومد رجله الاصطناعية بعدما جلس على الثانية، ونظر إليّ من جديد..
-الوصية خاصة بي فقط. يعني بدفني إذا مت فطيساً. -حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل.
كانت وصية أبوحسن أن يدفن بثيابه، هذا إذا لم يمت شهيداً، وأن يدفن وهو مرتد طرفه الاصطناعي!
-طيب يا عمي أبو حسن لماذا هذه الوصية؟
-سبحانه! يحيي العظام وهي رميم.
وكرر كلمة رميم.. وراح يضحك ويمجّ سيجارته بتلذذ أحسده عليه، وينفخ الدخان من فمه وأنفه فيتطاير خيوطاً رمادية تتناسل مع أحاديثه عن الشهادة والموت والروح والجسد والنار والجنة.. وليعود للحديث من جديد عن الرميم واللغم والشظايا التي تركت ندباً غائرة في جسده.. وعن أجزاء رجله المتطايرة إلى أعشاش النسور وأحشاء الحيوانات.. وكيف أنه، رغم نزفه، بحث عنها بين الصخور وتحت نيران المدفعية التي بدأت تقصف مكان الانفجار، ولم يجد أي نتفة منها..
-سبحانه! يحيي العظام وهي رميم.
– الله يعطيك طول العمر عمي أبو حسن
-أكتب يا ابني أكتب
كتبت، وأنا أشك في داخلي بأني لم استطع صياغة ما يريده السبعاوي تماماً في وصيته، فهو يصر على أن يدفن برجله الاصطناعية وبحذائه وبكامل ثيابه حتى وإن لم يمت شهيداً..
-لكن يا عمي ، أستغفر الله..
قاطعني السبعاوي وفي عينيه بريق حزن، وبصوته نبرات عتب..
-ياااا ابني قال يحيي العظام .. ولم يقل يجمعها.. لم يقل يجمعها ..
ونظر إلي من جديد وكأنه يتفقد ملامحي أو يتذكر أحداً ما، ومن ثم طلب مني أن أكتب عدة
نسخ عن الوصية، وأن أسلّم نسخة منها إلى أمي.