وداعا عميد الديبلوماسيين الفلسطينيين حكم بلعاوي
بهدوء لافت ودعت فلسطين في الثامن والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر / 2020 عميد الديبلوماسية الفلسطينية حكم بلعاوي . الذي سكنته فلسطين فأسكنها في قلوب وعقول التونسيين .
بالكاد أعرف الرجل ، لكني وجدت من واجبي استحضار سيرته بعد رحيله الهادىء ، فالرجل يستحق كلمة وفاء وعرفان ، لم يبخل بها بعض من عاشوا في تونس فنعوه على وسائل التواصل الاجتماعي . ونعاه الرئيس الفلسطيني رسميا ، وودعته القيادة الفلسطينية بتواضع فرضته جائحة الكورونا ، عند إخراج جثمانه من مستشفى رام الله ليوارى الثرى في مسقط راسه في بلدته بلعا .
يستحق حكم بلعاوي منا جميعا ، من اتفق ومن اختلف معه على السواء ، وقفة وفاء وعرفان. لدوره المتميز عندما شغل موقع سفير لفلسطين في الجمهورية التونسية ، في مرحلة مفصلية من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، بعد اقتلاع الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982 ، وانتقال مقر القيادة إلى تونس .
التقيته في تونس عام 1979 ، عندما ذهبت لتمثيل فلسطين في أول اجتماع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي لجامعة الدول العربية بعيد انتقالها لتونس ، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية ، آنذاك ، منشغلة بتكريس استقلاليتها ، فسعت لاستثمار المعارضة العربية الواسعة لاتفاقيات كامب ديفيد بين مصر واسرائيل لحشد الدعم والتأييد العربي لطلب فلسطين لعضوية مراقب في صندوق النقد الدولي ، في أول اجتماع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي لجامعة الدول العربية عام 1979 ، بعيد نقلها من مقرها الرئيس في القاهرة الى تونس .
كنت قد سمعت عن سطوة السفير حكم بلعاوي وجبروته من بعض الموفدين الفلسطينيين الذين سبق لهم زيارة تونس . ففاجأني سلوك معاكس بحرصه على المرور رغم تأخر وصولي للفندق في منتصف الليل . زودني بوثائق الاجتماع ، وأبلغني على عجالة بترتيبات سفري في الصباح الباكر إلى مدينة سوسة حيث يعقد الاجتماع .
علمني ذلك التشكك بالأحكام التي يبنيها الأشخاص على سلوكيات الآخرين ، والتي قد تحتكم لمعايير شخصية مبنية على فهم خاطىء للدور المهني للسفير الفلسطيني .
وتكررت اللقاءات الخاطفة به ، التي لم تتجاوز دقائق معدودة على هامش الاجتماعات أثناء عملي في جامعة الدول العربية بتونس . والتقيته مرة وحيدة كوزير داخلية في السلطة بصفتي مديرة لمعهد ابحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني / ماس / لتثبيت مرجعية التسجيل القانوني للمعهد في وزارة التعليم العالي أسوة بالجامعات الفلسطينية . فوافق خلافا لسعي وزارة الداخلية لتثبيت دورها كمرجعية قانونية للتسجيل .
لمن لا يعرف حكم بلعاوي الذي غيبه المرض فتوارى عن مسرح الأحداث ، وأغفل غالبيتنا في زحمة الحياة حضوره ، إلى ان فاضت روحه الطاهرة في الأسبوع الماضي . ليعيد برحيله الهادىء حضور قامة وطنية فلسطينية، ظلت طاغية الحضور على مدى أكثر من عقد في حضور القادة الكبار، عندما كان سفيرا لفلسطين في تونس .
ولد حكم بلعاوي في بلدة بلعا في محافظة طولكرم عام 1938 ، وشهد النكبة الكبرى التي مني بها وطنه عام 1948 ، وصقلت تداعياتها الكارثية على شعبه وعي الطفل في العاشرة ، فحددت خياراته مثل العديد من أبناء جيل النكبة .
حصل على إجازة في الإدارة والتربية . والتحق مبكرا بحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح ، وأصبح في العام 1968 نائبا لرئيس لجنة المعلومات المركزية في الحركة ، وعين نائبا لسفير فلسطين في ليبيا خلال الفترة 1973-1975 ، ثم نقل إلى تونس وعين سفيرا لفلسطين فيها . وشغل- بالاضافة لمهامه كسفير – مهمة المندوب الدائم لفلسطين في جامعة الدول العربية طوال فترة وجودها في تونس 1979 – 1990 ( انتقل مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس في أعقاب توقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني عام 1979 ، ثم أعيدت للقاهرة عام 1990 ) .
عين عام 1983 عضوا مراقبا في المجلس الثوري لحركة فتح ، وبعد ثلاث سنوات أصبح عضوا عاملا في المجلس . وانتخب في المؤتمر الخامس لحركة فتح عام 1989 لعضوية اللجنة المركزية ، وتولى مسوؤلية جهاز الأمن الفلسطيني بعد اغتيال صلاح خلف وهايل عبد الحميد بتونس في 14/1/1991
وبقي في موقعه كسفير لفلسطين في تونس حتى عودته مع الرئيس ياسر عرفات إلى فلسطين عام 1994 ، في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو .
انضم إلى عضوية مجلس الأمن القومي برئاسة عرفات ، إضافة إلى عضوية لجنة الطوارئ التي تولت الإشراف على أول انتخابات محلية لحركة فتح في الأراضي الفلسطينية. وتولى المسؤولية عن جهاز التعبئة والتنظيم في اللجنة المركزية للحركة .
وانتخب لعضوية المجلس التشريعي الفلسطيني الأول عن حركة فتح في محافظة طولكرم عام 1996
شغل حكم بلعاوي موقع أمين عام مجلس الوزراء في الحكومة الفلسطينية السادسة برئاسة محمود عباس ( 30/3/2003 – 7/10/2003 ) . ثم عين في 13/10/2003 قائما بأعمال وزير الداخلية بالحكومة السابعة التي ترأسها أحمد قريع واستمرت حتى 12 / 11/ 2003 ، ثم وزيرا للداخلية في حكومة أحمد قريع الثانية ً حتى 24/2/2005 .
وانتخب مرة ثانية كمرشح عن حركة فتح لعضوية المجلس التشريعي الثاني عام 2006
على الرغم من أهمية المواقع التي شغلها حكم بلعاوي في حركة فتح والسلطة الفلسطينية . الا ان شهرته وتأثيره الأهم فلسطينيا يعود لموقعه كسفير لفلسطين في تونس خصوصا خلال الفترة 1982- 1994 ، و التي شكلت مرحلة فاصلة في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة .
فقد تميز الرجل بحضور طاغ في حضرة قادة الثورة الفلسطينية الكبار . وتمكن بحنكته وصرامته ويقظته من الحفاظ على توازن واستقرار العلاقات الفلسطينية – التونسية ، وهو ما عجزت عن تحقيقه الثورة الفلسطينية خلال وجودها في الساحتين الاْردنية واللبنانية .
صحيح ان ظروف تجربتي الأردن ولبنان تختلف جوهريا بسبب اختلاف طبيعة إدارة الصراع مع العدو الصهيوني في مناطق التركز السكاني الفلسطيني والتماس المباشر مع الوطن المحتل .
الا ان انتقال قيادة المنظمة إلى تونس ، حولها إلى ساحة صراع رئيسية مع العدو الصهيوني الذي واصل تعقبها لتصفيتها . ففي الاول من تشرين الاول / أكتوبر / 1985 شن سرب من الطائرات الحربية الاسرائيلية غارة جوية على مواقع منظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمام الشط التونسية ، التي تضم مكتب الرئيس ياسر عرفات ، وبيته الخاص ، ومقر القوة 17 ، والحرس الرئاسي ، والإدارة العسكرية ، والإدارة المالية ، وبعض بيوت مرافقي الرئيس وموظفي مؤسسات منظمة التحرير فدمرها وسواها بالأرض ، واسفرت الغارات عن استشهاد خمسين كادرا فلسطينيا وثمانية عشر تونسيا ، وجرح مائة غالبيتهم العظمى من الفلسطينيين . واستهدف العدو الصهيوني تصفية منظمة التحرير الفلسطينية وإنجاز ما عجز عن تحقيقه خلال أطول الحروب العربية – الاسرائيلية عند اجتياحه للبنان عام 1982 ومحاصرته لبيروت طيلة 88 يوما ، صمد خلالها مقاتلوا الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ببسالة . وانتهت باتفاق بإجلاء قوات وكوادر الثورة الفلسطينية بأسلحتهم الخفيفة من لبنان ، وانتقال مقر القيادة إلى تونس .
يتعذر إغفال دور حكم بلعاوي المتميز في بناء علاقات استراتيجية متينة ما تزال جذورها راسخة مع الحكومة والشعب التونسي ، مكنت من إدارة الوجود الفلسطيني بسلاسة واقتدار في عهدي الرئيس الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي . وكان للرجل حضور وازن ومؤثر يفوق حضور أقرانه الديبلوماسيين العرب والأجانب . وهو ما ألزم القادة الفلسطينيين الكبار الذين يعلونه في المرتبة التنظيمية بالإقرار والقبول بضوابط العلاقة التي صاغها بعناية واقتدار ، للمواءمة بين استقلالية القرار الفلسطيني ، وبين التزام الفلسطينيين قادة وعناصر بقواعد الضيافة التونسية .
وباستثنناء الاختراقات الأمنية التي فاقت حدود قدراته بتواطؤ دول عظمى وأسفرت عن اغتيال خليل الوزير / أبو جهاد / في نيسان 1988 بضاحية المرسى في تونس . واختراق الموساد لمكتبه بتجنيد أحد مساعديه المقربين عدنان ياسين في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، فإن تجربة حكم بلعاوي الثرية في السياسة والإدارة والديبلوماسية والإعلام في تونس تستحق التوثيق . اذ أسهم في استحضار فلسطين في عقول وقلوب التونسيين جميعا على المستويين الرسمي والشعبي . وبات اسم ” سي حكم بلعاوي ” في الوعي التونسي لصيقا بفلسطين .
عرفه جميع الفلسطينيين الذين قادتهم أقدارهم لتونس ، وعرفوا عنه صراحته البالغة وتجنبه المجاملة وحصر علاقاته في الحدود الوظيفة ، ما أثار حفيظة الكثير من الفلسطينيين . فقد كان عمليا ومباشرا وصارما ، لم يسع لكسب الود ، ولم يستغل – كغيره – نفوذ الموقع لكسب الولاءات .
تميز بسرعة بديهته ويقظته الدائمة ، وسعة اطلاعه ، وتفانيه في خدمة قضية شعبه ، وجرأته في اتخاذ القرار ، وانفتاحه واحتفاظه بمسافة واحدة من الجميع . وعندما كان سفيرا لم يغلق بابه في وجه مراجع ، ولم يقصر في تقديم ما استطاع من عون دون تمييز بين رئيس ومرؤوس . وكان شجاعا في إبداء رأيه ، عصيا على التطويع ، مهابا ، صارما في منع تجاوز صلاحياته ، وفي احترام اختصاصات وصلاحيات الآخرين .
على النقيض من ظاهره الحاد ، تميز بحس أدبي عال ، فكتب عددا من القصص أهمها : موال للأرض والثورة ، دفاعاً عن الشمس (قصص) ، المستحيل (مسرحية) ، شهادة ميلاد (قصص ) ، الحاجة رشيدة (قصص ) .
منحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس النجمة الكبرى لوسام القدس تقديراً لنضاله الوطني ومسيرته الحافلة بالعطاء .
لروح الراحل الكبير حكم بلعاوي الراحة والسكينة ، ولأسرته ورفاقه وعموم الشعب الفلسطيني التعازي وطيب ذكرى مناضل عنيد امضى حياته في خدمة شعبه ونصرة قضيته العادلة .