وداعا أستاذنا الكبير ابن عكا الدكتور إيليا زريق

صحيح أن الموت حق . وأنه قدر لا يستثني أحدا ، وأن المرض والتقدم بالعمر يجعله متوقعا .
غير أن رحيل عالم الاجتماع النقدي الفلسطيني الأستاذ إيليا زريق مؤلم وموجع للفلسطينيين والعرب وأحرار العالم .

هذا العالم الجليل ابن عكا الذي سكنته فلسطين وأمضى جل حياته في الدراسة والبحث للتعرف على أسباب ما توالى على وطنه من نكبات. والتمعن في دور العوامل الذاتية والموضوعية فيها دون تهوين أو تهويل. والسعي لفهم الخصائص التي اتسمت بها الحركة الصهيونية واستطاعت عبرها المواءمة بنجاح لافت بين تناقضات عديدة . ما مكنها من انتزاع تمثيل اليهود رغم انقلابها على الديانة اليهودية .
والتحالف مع ذات القوى الغربية المتنفذة التي استهدفت اليهود في مواطنهم الأوروبية وارتكبت المجازر بحقهم لإخراجهم منها ، ووفرت لهم في الآن ذاته الدعم والحماية في فلسطين باعتبارهم امتدادا حضاريا لذات القوى الغربية التي اقتلعتهم من ديارهم .
والنجاح في توظيف نتائج حربين كونيتين لتنفيذ مشروعها الاستعماري الاستيطاني الخاص باستبدال فلسطين بإسرائيل واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود المستقدمين من كافة بقاع الأرض.
والتمكن،أيضا، من إدارة تنوعهم واختلافاتهم القومية والإثنية والعقائدية والثقافية بكفاءة لافتة على مدى أكثر من قرن. ومواصلة التقدم في تنفيذ مخططاتها رغم معاكستها لاتجاه تطور حركة التاريخ الإنساني .

وبالتوازي ، اهتم الأكاديمي البارز إيليا زريق بالبحث في أسباب وعوامل إخفاقاتنا المتتابعة في مواجهة الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية واستمرار العجز في وقف تقدمها. ودافعه الرئيس النهوض بالوعي المعرفي الفلسطيني والعربي لتبين سبل ومستلزمات النهوض .

وأولى اهتماما خاصا لدراسة سوسيولوجيا المجتمعات الاستيطانية الكولونيالية وأنماط المراقبة. ولاحظ عناصر التشابه بينها جميعا كمجتمعات مهاجرين وسعيها لاقتلاع الشعوب الأصيلة وتغييبها جغرافيا وديموغرافيا وسياسيا. ولم يغفل خصوصية المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وفرادته وتميزه عن كافة المشاريع الاستيطانية التي عرفها التاريخ البشري لجهة اعتماده في تعريف المواطنة على المزج بين الدين اليهودي والقومية المستحدثة ، ما يتعذر معه كليا تحول المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين إلى دولة وطنية كما جرى في الولايات المتحدة الامريكية وكندا واستراليا ونيوزيلندا وجنوب افريقيا . وقصر المواطنة الإسرائيلية حصريا على أتباع الديانة اليهودية في العالم أجمع، باعتبارهم مواطنين محتملين في الدولة الناشئة. فيما يستثنى أبناء الشعب الفلسطيني الأصيل المقيمين منهم على أرض وطنهم (7 مليون) ، والمهجرين منه (7مليون) من المواطنة وحقوق الإنسان التي تنص عليها كافة المواثيق والاتفاقات الدولية . ما يؤدي حتما إلى تأبيد الصراع الوجودي بين الشعب الفلسطيني الأصيل والمستوطنين اليهود، باعتباره صراع بين نقيضين يحتكم إلى المعادلة الصفرية. ويتعذر معه أي تسويات مستقبلية ممكنة . حيث لا يقتصر نهج مجتمع المستوطنين اليهود في فلسطين على الاستحواذ على أكبر مساحة من الأرض ، أو على ممارسة الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني الأصيل كما جرى في النماذج الاستعمارية الاستيطانية الأخرى. وإنما على استمرار حروب الإبادة والتطهير العرقي التي ما تزال تتواصل للقرن الثاني على التوالي للقضاء على النقيض الفلسطيني .

وبالتوازي مع ذلك، أولى الدكتور إيليا زريق اهتماما خاصا للتقييم النقدي لتطورالعلوم الاجتماعية العربية، بالتركيز على القضايا المنهجية في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. ولاحظ أن العلوم الاجتماعية العربية تعاني من الضعف المنهجي لاعتمادها المفرط على المفاهيم المستمدة من تجربة المجتمعات الغربية. وتنبه إلى أسباب قصور الإنتاج العربي في العلوم الاجتماعيَّة والإنسانية وأعاده إلى نهج التسلط وغياب الديموقراطية في الأنظمة السياسية العربية ، ما دفع الباحثين العرب لتجنب بحث القضايا المهمة والإشكالية ، كقضايا التنوع القومي والعرقي والإثني والديني والطائفي والثقافي . وأدى ذلك إلى توسيع الفجوة بين المعرفة وبين عملية صنع القرار العربي .
ولم يغفل في تقييمه النقدي الجهود البحثية العربية الجادة التي درست اتجاهات الرأي العام العربي، والتحولات الديموغرافية ، والاستعمار ، والرقابة الخ..
ولاحظ الأكاديمي المتميز ،أيضا، خرق الغرب للمعايير الأخلاقية للبحث العلمي ، واستخدام الحكومات الغربية لجهود الباحثين الغربيين وتوظيفها في تنفيذ سياساتهم الرامية لإخضاع شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإدامة الهيمنة الاستعمارية.

للدكتور إيليا زريق مؤلفات عدة أهمها :

• “الفلسطينيون في إسرائيل: دراسة في الاستعمار الداخلي”عام 1979

• “اللاجئون الفلسطينيون وعملية السلام” عام 1996.

• مشروع إسرائيل الكولونيالي في فلسطين: المطاردة الوحشية Israel’s Colonial Project in Palestine: Brutal Pursuit (2016)

• “وضعیت فلسطینیان در سرزمین های اشغالی” وضع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة / ترجمة عبد الكريم جادري

  • تداعيات الفصل العنصري الاسرائيلي على المنظومة القيمية في فلسطين / اسرائيل والمنطقة

    *شارك إيليا زريق مارك بي. سالتر في تحرير كتاب Global Surveillanceand Policing: Borders, security, identity”، “المراقبة وحفظ الأمن على الصعيد العالمي: الحدود والأمن والهوية، وترجمه للعربية عماد شيحة

وللدكتور إيليا زريق مئات الدراسات والأبحاث والمقالات المنشورة .

لروح الراحل الكبير الرحمة والسكينة ، ولسيرته العطرة ومسيرته النضالية الخلود . ولإرثه المعرفي الثري البقاء مصدرا تنويريا ملهما للأجيال الفلسطينية والعربية ولأحرار العالم أجمع .

About The Author

2 thoughts on “وداعا أستاذنا الكبير ابن عكا الدكتور إيليا زريق

  1. مقال رائع اشكرك دكتورة… لروح الفقيد الراحة والسلام والخلود لسيرته وعلمه

    1. امتنان بلا ضفاف دكتورة غانية ملحيس على مبحثك الوافي عن ابن مدينتي الفخر د. ايليا زريق رحمة الله عليه
      عطر ذكراه ابدا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *