«وثيقة فلسطين» محاولة جادة لتصحيح المسار الفلسطيني
في الثامن من يناير الحالي أطلقت مجموعة من المثقفين والناشطين الفلسطينيين والفلسطينيات من فلسطين التاريخية وبلدان اللجوء والشتات، المنضوين تحت تجمع «ملتقى فلسطين» وثيقة في غاية الأهمية تحت عنوان «وثيقة فلسطين- الأركان الثلاثة: شعب واحد، أرض واحدة، قضية واحدة». والوثيقة تضم مجموعة مبادئ أساسية وتقدم رؤية وطنية فلسطينية جامعة، لنضال شعبي وقانوني وحقوقي وإنساني وعالمي مشترك، من أجل الحرية والعدالة والكرامة للشعب الفلسطيني في وطنه بين النهر والبحر، معتمدين المبادئ الأخلاقية والإنسانية النبيلة، نقيضا لما يمثله المشروع الصهيوني المتجسد في الكيان الإسرائيلي، المجسد للاستعمار والاستيطان والعنصرية والفاشية، على كل أرض فلسطين.
وفي رأيي أن الوثيقة من أهم ما أنتج العقل الجمعي حديثا للنخبة الفلسطينية الملتزمة، ويجب ألا تمر مرورا عابرا على قطاعات الشعب الفلسطيني المختلفة، بل يجب الوقوف أمامها برويّة لاستجلاء ما جاء فيها من معاينة دقيقة لحالة المرض الذي يمر فيه الجسم الفلسطيني هذه الأيام. فالوثيقة على غاية من الأهمية، سواء ما ورد في المقدمة، أو في نقاطها الأساسية الإحدى عشرة، أو في خاتمتها الصريحة. لكن الوثيقة لا تضع برنامجا عمليا لكيفية تفعيل الوثيقة بمقدار ما تصف الداء من كل جوانبه. فالوصف الدقيق للعلل التي تنخر في الجسد الفلسطيني، قد يساهم بوضع أسس صحيحة للعلاج. وسأحاول أن أراجع أهم ما جاء في الوثيقة التي تسعى لتصحيح بوصلة الصراع الذي انحرف كثيرا، خاصة بعد اتفاقيات أوسلو الكارثية.
خلفية لا بد منها
تشكّل «ملتقى فلسطين» رسميا عشية دورة المجلس الوطني الفلسطيني أحادية اللون في رام الله في نهاية أبريل 2018. بدأ بمجموعة صغيرة من المثقفين والكتاب والناشطين والمناضلين المستقلين، الذين لا يزيد عددهم عن 25 شخصا، إلا أن القائمة اتسعت فيما بعد لتشمل المئات. عقد الملتقى ثلاث ورشات متتابعة في إسطنبول، لسهولة الوصول إليها من الداخل والخارج، كان آخرها في ديسمبر 2019. كان السؤال المطروح باستمرار ما العمل؟ من أين نبدأ؟ كيف يمكن إصلاح الوضع الذي وصل إليه المشروع الوطني الفلسطيني، كيف يمكن إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، كيف يمكن إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني لعام 1968؟ وكان الاتفاق المبدئي بين الحضور جميعا، أن الوضع الحالي الذي جاء نتيجة مباشرة لاتفاقيات أوسلو الكارثية غير قابل للاستمرار، ولا بد من إعادة صياغة المشروع الوطني على أسس سليمة لإنقاذ القضية الفلسطينية من كارثة محتومة. بعد وباء كورونا استمر العمل المشترك عن طريق اللقاءات الشبكية، التي سهلها تطبيق الزوم، فكوّن الملتقى لجنة من ستة أعضاء رفيعي المستوى، علما وخبرة وقدرات تحليلية، لوضع وثيقة تشكل رؤية استراتيجية للقضية الفلسطينية انطلاقا من أعمدة ثلاثة: وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية. استمر عمل اللجنة سنتين متكاملتين، حيث عقدت سبع ورشات عمل حول الجوانب المتعددة للقضية الفلسطينية شارك فيها العديد من القامات العلمية والقانونية والنضالية في فلسطين والعالم العربي والعالم، وشملت مواضيع مهمة مثل: طبيعة الاستعمار الاستيطاني، ووسائل النضال، ودور القانون الدولي، ودور التجمعات الفلسطينية في الشتات وغير ذلك. بعد كل ورشة تقوم اللجنة بمراجعة الوثيقة، حتى شعر الجميع في نهاية أكتوبر 2022 بأن الوقت حان لوضع الوثيقة في صيغتها النهائية لإطلاقها، وهو ما تم بالفعل يوم 8 يناير 2023 بمشاركة واسعة من الداخل والخارج.
مقدمة الوثيقة
تراجع الوثيقة في مقدمتها تطورات القضية الفلسطينية من نحو قرن من الزمان، منذ بدأت القوى الاستعمارية تعمل على إقامة كيان استعماري استيطاني اقتلاعي في أرض فلسطين وفرضه بالقوة المسلحة على حساب سكان البلاد الأصليين، إلى أن وصل ذروته في ما عرف بالنكبة عام 1948، وما تبعها من إجراءات، استهدفت محو الشعب الفلسطيني وإزاحته من الزمان والمكان، بواسطة القوة والقسر والإرهاب، وتم ذلك للكيان الصهيوني برعايةٍ ودعمٍ متواصليْن من الدول الاستعمارية الكبرى، خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة، اللتين تتحملان قسطا كبيرا من المسؤولية، وبتآمر عربي مكشوف أو مستتر، ورغم كل الظروف الصعبة وموازين القوى غير المتكافئة، ظلّ الشعب الفلسطيني يقاوم بصلابة وعناد، منطلقا من إيمانه العميق بحقه وعدالة قضيته. وبالتوازي مع التغول الصهيوني الاستعماري، تسارع منحنى تراجع النظام العربي الرسمي، منذ خروج مصر من معادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بعد عقد اتفاقيات كامب ديفيد 1979، ثم اتفاقيتي أوسلو 1993 ووادي عربة 1994، وصولا إلى اتفاقيات ما سُمي بالمعاهدات الإبراهيمية 2020، التي تجاوزت مسألة التطبيع إلى الدخول في منظومة سياسية واقتصادية وأمنية مع إسرائيل، بما يمكّنها من الهيمنة في الشرق الأوسط، برعاية أمريكية. وقد فاقم الأوضاع تردّي أحوال الحركة الوطنية المتمثلة في منظمة التحرير والسلطة والفصائل والأحزاب، وتكلست بناها، وتآكلت شرعيتها، وافتقدت إلى استراتيجية وطنية واضحة، وبرنامج كفاحي، في غياب قيادة فاعلة وملتزمة وشرعية. ثم حصل الانقسام الجغرافي والأيديولوجي 2007 الذي استنزف قوى الشعب الفلسطيني وقوّض أسس الإجماع الوطني التاريخي.
جوهر الوثيقة
بناء على المقدمة السابقة، جاءت الوثيقة لتؤكّد أهمية إعادة بناء البيت الفلسطيني من خلال بلورة مشروع وطني جامع لاستنهاض الشعب الفلسطيني، انطلاقا من عدالة قضيته، وإدراك طبيعة المشروع الصهيوني الكولونيالي الاستيطاني العنصري. ولتؤكّد أن أي جهد فلسطيني، فعّال وجامع ومستقبلي يجب أن يشمل النقاط الجوهرية التالية:
– المشروع الوطني الفلسطيني يجب أن يصدر عن رؤية وطنية تتأسّس على وحدة الشعب والأرض والقضية، بما فيها الرواية التاريخية المتأسّسة على النكبة وإقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين 1948؛
– الكفاح الوطني الفلسطيني بأشكاله كافة يسعى إلى بناء دولة ديمقراطية مدنية على أسس أخلاقية وإنسانية، يتمتع مواطنوها بالمساواة التامة، بعيدا عن كل أشكال التمييز عبر إنهاء المشروع الصهيوني الإحلالي الاستعماري الاستيطاني في فلسطين أولا؛
– أي حل مستقبلي للصراع يجب أن يقوم على أن مفهوم التحرّر الكامل القائم على تفكيك آليات الاستعمار الإحلالي الاستيطاني وبناه وتقويضهما في كل فلسطين، وتمكين الفلسطينيين اللاجئين من حقهم في العودة إلى ديارهم الأصلية، وتعويضهم، ويجب أن يضمن هذا الحل حقوق الفلسطينيين الجمعية والفردية، المدنية والوطنية، وضمنها حقهم في تقرير مصيرهم وإنجاز المساواة الكاملة والديمقراطية بين الأفراد على أرض فلسطين كلها؛
– تمتين التواصل والتكامل مع الشعوب العربية والأصدقاء في العالم، وتعزيز جسور التواصل والدعم المتبادل معها. ويتزامن هذا مع الرفض التام لكل التنازلات المتلاحقة، التي قدّمتها الأنظمة الرسمية العربية والقيادة الفلسطينية وضمنها اتفاق أوسلو، لما جلبته من كوارث على فلسطين والفلسطينيين؛
– للشعب الفلسطيني حقّ شرعيّ في النضال والمقاومة ضد الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري الموجه ضده. ويترجم هذا الحق وفقا لممارسة «وحدة النضال وتنوع الوسائل والساحات». فكل فلسطيني أو فلسطينية، أينما كان وجودهما، يساهم من موقعه في المقاومة ضد المشروع الصهيوني في فلسطين، وفق استراتيجية كفاحية، واضحة وممكنة، ترتبط بتلك الرؤية؛
– تعبئة الجهود وتوجيه الضغوط من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يسهم في تعزيز الاحتلال الإسرائيلي وتكريسه، ويضرّ بشعب فلسطين وبصدقية قضيته. وبلورة بنية قيادية فلسطينية مؤسّساتية وديمقراطية، تمثل الشعب الفلسطيني وتمكّنه من المشاركة الفعالة والدائمة في تقرير مستقبله. والطريق الأفضل والمختصر لذلك إعادة تأسيس مجلس وطني فلسطيني منتخب، يمثل الإرادة الفلسطينية الجمعية، وبناء منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها وتحريرها من التبعية للسلطة الوطنية، وتجسيد تمثيلها القانوني والشرعي على أساس المبادئ الثلاثة؛
-إعادة بناء المنظمات الشعبية الفلسطينية، والمنظمات المهنية والنقابات والهيئات القُطرية والمناطقية والمحلية، بما فيها مؤسّسات المجتمع المدني، باعتبارها روافد أساسية لتنظيم المجتمع الفلسطيني، وإبراز الطابع الشعبي الموحّد لنضاله. وفي هذا السياق يجب فسح المجال لقياداتٍ شبابية تُنتخب ديمقراطيا، وتأخذ دورها في قيادة المستقبل؛
– تفعيل وتعزيز القاعدة الأساسية التي تؤكّد أن صمود شعبنا في كل جزء من فلسطين التاريخية وتشبثه بالبقاء ومقاومته كل مخطّطات التهجير المباشر وغير المباشر هو، الدرع الحامي لحقوقنا الوطنية، والخزّان الذي لا ينضب لكفاحنا؛
– حشد كل الجهود الشعبية والكفاحية من أجل القدس وإعادة مركزتها في قلب النضال الفلسطيني والدفاع عنها في وجه حملات التهويد المسعورة، من خلال زيادة الاستيطان وتهجير أهلها الفلسطينيين بطرق مباشرة وغير مباشرة، ومحاربة ثقافتهم ومدارسهم؛
– كفاح الفلسطينيين وأنصارهم وجهودهما في الساحات الدولية المختلفة والقارّات كلها، افريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين، جزء عضوي وأساسي من وحدة النضال الفلسطيني. وإن دعم الجهود في دوائر مؤيدي الحق الفلسطيني في العالم، وتبعا لظروف كل ساحة، ضرورة وطنية أساسية تقع في قلب النضال الفلسطيني، يتطلب التشبيك معها واستثمارها ما أمكن.
نعتقد أن هذه الوثيقة، وفي ظل غياب المشروع الوطني الجامع والانقسام الفلسطيني والتراجع العربي والتغول الصهيوني، تطرح البديل لما هو قائم. ويبقى التحدّي الثاني، في ترجمة هذه المبادئ والرؤية التي تطرحها على شكل آليات واستراتيجيات عمل في تجمعات الشعب الفلسطيني كافة.
عن القدس العربي