مع بداية تفشِّي الوباء في فلسطين في منتصف آذار٢٠٢٠، نشرتُ ملصقاً خلفيَّتُه لوحة للأسير وليد دقَّة، كُتب عليه، بالعربية والعبرية والإنجليزية والفرنسية: “الحرية لكافة الأسرى الفلسطينيين-الحق في النجاة من الاستعمار والكورونا،” مع دعوة إلى تعميمه “من فلسطين إلى العالم، بكل لغات الأرض، وقبل فوات الأوان”. لم يكن مفاجئاً تداوله بشكل واسع ولا ترجمته بلغات إضافية عديدة، نظراً لملامسة قضية الأسرى للضمير الجماهيري، لكن اللافت للانتباه أن رئيس وزراء فلسطيني سابق، هو صاحب مشروع “إقامة الدولة، وإنهاء الاحتلال”-“دولة الأمن والمؤسسات”، ويدعو اليوم إلى “دولة واحدة” من طراز خاص خلال إقامته في الخارج… كان من ضمن مئات قاموا بعمل “مشاركة” للملصق.

كانت تلك “المشاركة” باعثة على الاستهجان، حالها حال آخر ما صدر من “بيانات” عن الرئاسة الفلسطينية وعن أمانة سر منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أيام، بخصوص قضية الأسير، الشهيد مع وقف التنفيذ، كمال أبو وعر (المصاب بالسرطان، والكورونا، وتضاؤل الأمل)…  لا لأن الدولة لم تقم ولم ينتهِ الاحتلال؛ ولا لأن ثمة أي أوهام بخصوص ما يستطيع رئيس وزراء فلسطيني، سابق أو حالي أو لاحق، فعله للأسرى؛ ولا لأنَّ رئاسة السلطة الفلسطينية والوزراء ومنظمة التحرير الفلسطينية عاجزة في الأزمنة العادية، وليس في فلسطين أزمنة عادية أبداً منذ أكثر من سبعين عاماً، لا في أزمنة الطوارئ وحسب، عن فعل أي شيء مهما كان ضئيلاً، كإلزام البنوك، مثلاً، بعدم تنفيذ أمر الحاكم العسكري الإسرائيلي للمدن الفلسطينية الخاص بحسابات الأسرى حتى اللحظة… بل لأن تلك “المشاركة” وتلك “البيانات” تفصحان عن أقصى ما يمكن لمنظمة التحرير الفلسطينية، بصيغتها الحالية، وللسلطة الفلسطينية، بأي صيغة ممكنة، ولرموزهما، فعله، وهو: “دَبِّ الصُّوْت” في العالم، بتعبير عاميٍّ، أو “قيادة التشجيع-Cheerleading”، بتعبير فصيح وترجمة حرفية، متوسِّلة ما تيسَّر في ترسانتها الدبلوماسية، العامة والشعبية، التي صارت اليوم، وحرفياً بفضل الوباء، دبلوماسية رقميَّة محضة.

لقد كشف الوباء عن الكثير من “أمراض السلطة” في العالم. وفي فلسطين، التي لا تزال جزءاً من العالم، كشف الوباء عن أن “أوسلو” لم تكن “وجبة سريعة” وحسب، كما وصفها محمود درويش مرَّة، بل كانت وجبة بالغة السُّميَّة، أدَّت، حرفياً، إلى “تحلل” الجسد الفلسطيني. فقد كان من نتائج “أوسلو”، ورغم انتعاش مؤسسات المجتمع المدني (التي أجلست وَهْمَ “المواطنة” على قدمين من مؤتمرات وورش ونشرات تؤدلِج الهزيمة)، استكمال الإجهاز على مفهوم “المواطنة الموحَّدة”. فبين مشروع “السلطة الوطنية” في العام ١٩٧٤ ومشروع “السلطة الفلسطينية” في العام ١٩٩٤، تيهٌ تضخَّمت فيه السلطة، وتقلَّصت فلسطين، وصار تعريف الفلسطيني هو من يستطيع الشرطيُّ مخالفته، في المناطق “أ”، دون تبعات سياسية ترصدها “لجنة مراقبة آثار السلام”! أُسْقِطَ من التعريف فلسطينيو فلسطين المحتلة في العام ١٩٤٨، وأسقط من التعريف فلسطينيو الشتات، وأسقط من التعريف فلسطينيو القدس، وأسقط من التعريف (بعد الانقسام) فلسطينيو غزة … وحُكِمَ الأسرى الفلسطينيون، من هذه الجغرافيات كلِّها، بالعيش في “الزمن الموازي” الذي لن يلتقي أبداً بزمن السلطة، لأن الخطوط المتوازية، بحكم إيديولوجيا الفيزياء العنيدة، لا تلتقي.

وحتى لا يطول الاستطراد، فقد كشف الوباء في فلسطين، أن التاريخ والجغرافيا اللذين صمَّمتها الرسميَّة الفلسطينية في التيه الفلسطيني الكبير المستمر منذ العام ١٩٧٤، قد أراحَا الناطق الرسمي باسم الحكومة الفلسطينية من الكثير لينطق به. فقد تُرِكَ الفلسطيني في الجغرافيات المشار إليها آنفاً ليواجه قدره تبعاً للسياسات الحيوية التي تمارسها السلطات “ذات العلاقة” في تلك الجغرافيات التي “تتمتع” كل منها بزمن موقوت لا تربطه بزمن رام الله إلا بلاغة متلعثمة، هذا إن حضرت البلاغة أصلاً. لكنَّ ذلك لم يأت من فراغ. فمسؤولية النطق باسم الفلسطينيين في هذه الجغرافيات، وعنها، لم تعد من مهمَّات الحكومة الفلسطينية تماماً، وثمة مثالان يوضحان ذلك.

ففي ٢٤ أيار ٢٠١٧، صدر عن الرئاسة الفلسطينية القانون رقم (١٤) القاضي بتعديل اسم “وزارة الخارجية” إلى “وزارة الخارجية والمغتربين”، ولحسن الحظ أن من أعدَّ تنسيب مجلس الوزراء بخصوص تلك “الفنعة” لم يطَّلع على آخر ما توصَّل إليه الأخوة اللبنانيون بتعديل اسم “وزارة الخارجية” لديهم إلى “وزارة الخارجية والمنتشرين”، لأسباب ربما لا تقل سوريالية عمَّا لدينا. وبغض النظر عن “دواعي التنسيب” لوزارة الخارجية السعيدة بتعديل اسمها ورسمها، ودائرتيْ شؤون اللاجئين والمغتربين في منظمة التحرير الفلسطينية… لايزال ستة ملايين “لاجئ” فلسطيني خارج فلسطين التاريخية يواجهون تحدي البقاء والعودة، بغض النظر عن منطق “الاغتراب” و”الانتشار”.  هؤلاء، على سبيل المثال، لن يأتي المتحدِّث الرسمي باسم الحكومة على أحوالهم، ولن يشملهم في “آخر دفعة سيتم إجلاؤها من أبناء جالياتنا العالقين في الخارج.” وفي ٢٩ أيار ٢٠١٤، وبتنسيب وقانون مشابهين، تم تحويل وزارة شؤون الأسرى، إلى “هيئة شؤون الأسرى والمحررين” وتتبع مباشرة لمنظمة التحرير الفلسطينية. ولعل في ذلك ما يفسِّر تأخر “أخبار الأسرى”، أو انعدامها مطلقاً في غالب الأحوال، في الإيجازات الصحفية لـ”الوزراء” التي فاخرت بها الحكومة الفلسطينية في الموجة الأولى من الوباء، حدَّ أنها أُدرِجت كمنجزات في وثائقي “الجائحة والمايسترو” (الفيلم الذي أُنتج، برعاية رسمية، لإعلان الانتصار على الجائحة قبل أن تنتهي موجتها الأولى!)… فالأسرى مسؤولية المنظمة لا مسؤولية السلطة، أو هكذا تُفْهَمُ الأمور.

إن غياب ثلاثة أرباع الفلسطينيين من تعريف “المواطنة الفلسطينية الموحَّدة” عن مسؤولية الرسمية الفلسطينية ليس بالأمر الجديد ولا الصادم، رغم مأساويته، إذ هو حصيلة كل ما ذُكر. لكن استمرار غياب ٤٧٠٠ أسير فلسطيني عن تصدُّر المسؤوليات والإيجازات والبرامج والشعارات والصلوات… سيجعل الضوء الأخضر الممنوح لسلطات الاحتلال الصهيوني أكثر خضرة في الاستفراد بالأسرى. ليسوا أرقاماً، لكن الأرقام صرخات الأسماء: ٤٧٠٠ أسير، منهم ٤١ أسيرة، و١٨٠ طفلاً، و٣٦٥ معتقلاً إدارياً، و٧٠٠ مرضى، ٣٠٠ منهم حالات خطيرة، و٦ جثامين محتجزة… وهم جميعاً في أكثر الدفيئات التي صممها العدو “مثالية” لانتقال العدوى: في كونتينرات التوقيف، ومراكز التحقيق، و”معابر” المعتقلات، وأقسام السجون، و”سجون السجون-زنازين العزل”… حيث تتحكم سلطة السجون الصهيونية، حرفياً، بالوباء وكيفية انتشاره، وانتشار أخباره.

هذا الواقع المأساوي لن تنفع معه بعد الآن بلاغة: “أنقذوا الأسرى”، “أنقذوا كمال أبو وعر”، “أنقذوا أسرى مسلخ-عيادة-الرملة: خالد الشاويش، منصور موقده، معتصم رداد، ناهض الأقرع، صالح صالح، موفق العروق، نضال أبو عاهور… ولن تنفع، بعد الآن، بلاغة: “حرروا أجساد الأسرى الشهداء”: أنيس دولة، وعزيز عويسات، وفارس بارود، ونصار طقاطقة، وبسام السايح، وسعدي الغرابلي… فدولة الاستعمار الصهيوني المجنونة، حرفياً وعنصرياً، والتي لا تمنع الأسرى من الحياة وحسب، بل وتمنعهم، كذلك، من الموت، لا تفهم بلاغة “أنقذوا” و”حرِّروا”… لأن واو الجماعة غدت بلا جماعة، إذ لا يزال السؤال برسم الفلسطينيين كلهم: إلى من توجِّهون صيغة الأمر في “أنقذوا” و”حرِّروا”؟

الأسرى الفلسطينيون، في بياناتهم-واتصالاتهم-الصرخات، مصلوبون على أمل المقاومة الشاملة للاحتلال، لا على “فزَّاعة” المقاومة في البلاغة السياسية الفلسطينية، فمهمَّة “الفزَّاعة” تنتهي حين ينزل صاحب الأرض إلى أرضه. والأسرى الفلسطينيون، في بياناتهم-واتصالاتهم-الصرخات، مصلوبون على أمل صفقة تبادل أولويتها الوحيدة تحرير كافة الأسرى. والأسرى الفلسطينيون في بياناتهم-واتصالاتهم-الصرخات مصلوبون على أمل تضامن أحرار العالم مع قضيتهم العادلة، لكن التضامن، وحده، لا ينجز حرية ولا تحريراً. ما سينجز الحرية والتحرير، هو البدء بتحقيق نِصِابٍ ثقافي لا نجامل فيه السلطة ولا نزيد من أوهامها؛ وتحقيق نِصِابٍ سياسي لا نبارك فيه حملات العلاقات العامة للمنقسمين ولا نزيد في تبجُّحهم في صعوبة القضايا العالقة؛ وتحقيق نِصِابٍ أخلاقي لنقوم بذلك كلِّه دون أن نزيد من واو الجماعة الغائبة قبحاً.

(المصدر: الحدث)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *