واقع شعبنا الأليم: خوض في شخصية الشعب الفلسطيني
في أحد أيام عام 2015 وينما كنت منكبا على العمل البحثي حول واقع مخيمات غزة والضفة، إذ بالمذياع الذي يعمل كموسيقى خلفية -أو حتى كمشتت انتباه- يعلن عن مقتل طفل فلسطيني وجرح آخر خلال عملية طعن في الداخل المحتل، ومن باب الاهتمام بقضية الطفلين قمت على الفور بفتح أحد المواقع الإخبارية التي أدرجت صور الطفل أحمد مناصرة ملقا على الأرض و هو يدمي، في حالة خوف وذهول من كل ما حدث و يحدث حوله، ولا أنسى الصهيوني الذي كان يكيل له السباب بشكل مقزز، لم تمر ساعات طويلة حتى اتصل بي صديق صحفي فرنسي ليسألني عما حدث و عن إمكانية أن تكون هذه العملية منعطفا لتحول “ثورة السكاكين” لانتفاضة شعبية ثالثة شاملة.
الحقيقة أنني بجانب تحليلي السياسي، مهتم و كاتب في ما يمسى “Politics of space” أو “السياسة المكانية” التي تعني بأثر الجغرافيا والتخطيط العمراني في السياسة، ولذا لم أجد مفرا من الاستعانة بهذا المجال لاستقراء المستقبل القريب للحالة الشعبية والجماهيرية في فلسطين، وقد كنت واثقا في وقتها من أن ما يحدث لن ينفجر ليتحول لانتفاضة شعبية على غرار ما حدث عامي 87 و 2000، وذلك بسبب عدة معطيات سأدرجها في المقال، ولكن وقبل أن ينفذ صبر القراء، فهنالك بالفعل محاولة ربط للحالة الشعبية إبان ثورة السكاكين 2015 والحالة الشعبية اليوم إبان “صفقة القرن” و “مشروع الضم” وغيره من أمور، فما بين 2015 واليوم لم يحدث ما يكفي ليغير نظرتي للواقع الشعبي الفلسطيني الذي تحاول أن تعول عليه الفصائل بلا جدوى.
لنبدأ بالحديث عن الواقع الشعبي الفلسطيني بشكل مبسط -لكون مساحة المقال محدودة-، فمنذ ولادة منظمة التحرير وأصبح الفلسطينيون يرون كيانا سياسيا يمثلهم أينما كانوا، وقد كان ذلك طبيعيا لعدم وجود بديل ممثل من جهة، ولأن المنظمة أخرجت التمثيل الفلسطيني من عباءة الأنظمة العربية وقامت بقيادة القضية بنفسها من جهة أخرى، ولأن وقت قيام المنظمة كانت الهجرة الحادثة عام 48 ليست ببعيدة زمنيا ولم يكن للتواجد الفلسطيني في دول المهجر ارتباط وثيق وتمازج كما هو الحال اليوم، ولأن حلم التحرير في ستينيات القرن الماضي كان هدفا واقعيا للفلسطينيين آنذاك، أضف أن الحاجة الماسة للحركة الثورية والنضالية الفلسطينية كانت مسيطرة على الشعب، كان الفلسطيني ابن خيمة، ابن شتات، ابن حركة ثورية وليدة، ابن عصر اللا مؤسسات، لذا لم يكن هنالك ما يقيد حركته مثل قروض أو شقة جديدة، أو حتى وظيفة لا غنى عنها، كان جدي رحمه الله يقول لي مستذكرا ذاك الزمان “لم يكن لدي ما أخسر سوى قطعة قماش -كناية عن الخيمة-“، ومع تصاعد العمل ثوري الفلسطيني وازدياد عدد الفصائل، فقد وجد كل فصيل ما يكفي من الناس لاستقطابه لهم، بل ولم يجد مشكلة حتى في استقطاب مواطني دول عربية و غربية ولاتينية، فزخم القضية في ذلك الوقت كان مختلفا عما هو الحال اليوم، وبكل تأكيد فحالة اللا مدنية التي استشرت بعد الهجرة و النزوح عنت مجتمعا أقل تمسكا بالمادة وأكثر تماسكا لأن الجميع سواسية، كل عائلة كبرى تقطن منزلا واحدا يسكنه الأبناء و الأخوة وغيرهم من الأقارب، عندما استذكر بيوت العائلة في غزة فهي مكونة من بيت أبو جميل و ذريته (9 أبناء) تزوج بعضهم في ذلك البيت، وبيت أبو العبد المكون من 15 فرد (تزوج فيه معظم أولاده)، فقد كانت البيوت الحجرية التي أخذت مكان الزينكو والخيم تتمدد طوليا بطول الأبناء، ولهذا فالواقع الديموغرافي لعصر نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية مختلف عما هو الواقع اليوم، قد يقول أحد القراء، ما دخل هذه الاستقراء السكني في الواقع السياسي الفلسطيني؟ الحقيقة أنه له بعد مهم جدا لم تدركه قيادتنا ولا حتى معارضيها، فالبعض يعزي انكفاء الشعب الفلسطيني عن ساسته فقط بسبب الحالة السياسية الفلسطينية المتشرذمة، ولكني أجد في هذا الطرح نصف إجابة لا أكثر.
مر الوقت وجرت السنين، فإذا بأبناء أبو جميل يخرجون للدراسة في الخارج -في رحلة اتجاه واحد لمعظمهم-، فكونوا انفسهم وأصبحوا معلمين ومدرسين وأطباء في دول الخليج وأوروبا، وأصبح المال الذي يرسله الأبناء يغذي كل من المنظمة التي بدأت تحس بالقوة بمرور الوقت، ويغذي عائلاتهم في الداخل، ناهيك عن استشعار إسرائيل لخطر الأزمات الاقتصادية على الشعوب، ففي مقال لبنيامين إسرائيل -لا أتذكر وقت نشره- في هآرتس، تحدث عن وعي إسرائيلي كامل بأثر الاقتصاد على الحالة المزاجية للشعب الفلسطيني، فسمحت لهم بالعمل فيها، فتضائل عدد البيوت الزينكو وازدادت عدد البيوت الراسخة، كأنما ترى إسرائيل في كل خيمة مقاوما غير مستقر يريد العودة، في حين أن البيت الاسمنتي مؤشر على الاستقرار والقناعة بالواقع.
أما في بلدان الشتات فأخذ المهاجرون يستقرون وينسجمون مع وسطهم الجديد، بدأ بعضهم بعملية البناء كما هو الحال في مخيمات غزة والضفة، وبدأ البعض في الانصهار في مجتمعه الجديد من خلال النجاح على المستوى العملي أو العلمي أو الاجتماعي، والحديث يدور هنا بشدة عن كل من سوريا والأردن وبشكل مغاير قليلا في لبنان، فالتواجد العسكري و السياسي في بيروت خلق حالة مختلفة في لبنان، فقد أضحت لبنان مركز الحج النضالي الفلسطيني، يرتحل لها كل من يريد الدخول في العملية الثورية المسلحة وحتى الأدبية، وهكذا بدأت مرحلة تاريخية مهمة في السبعينيات للشعب الفلسطيني، فقد بدأت تنضج عملية التباعد “الهمي” لكل من دول الشتات، ففي الأردن تم منح كثير من الفلسطينيين جوازات سفر أردنية، في حين أن فلسطينيي مصر و لبنان كانوا أقل “حظا” -لا أدري إن كان ذلك حظا أم لا-، في حين أن فلسطيني سوريا تم استيعابهم بشكل لا بأس به من قبل النظام هناك، فقد منحوا ميزة العمل في المؤسسات الحكومية مثلا، وهكذا بدأ كل تواجد فلسطيني في التفكير في بيئته الجديدة التي تختلف همومها حسب بلد التواجد، ومع ذلك فقد استطاعت المنظمة الحفاظ على مكانتها وعلى قدرتها على حشد الفلسطينيين أينما وجدوا، وهو بيت القصيد في هذا المقال، فحتى ثمانينيات القرن المنصرم كان الفلسطينيون منكبين بشغف على قضيتهم، سواء كنت مقاتلا أم متبرعا أم أديبا أو غيره، فالكل مستفز في حالة ترقب دائم لتطورات القضية.
أما فترة اجتياح لبنان و الانتفاضة فكانت مختلفة نوعا ما، فكما تحدثت في الأعلى فقد بدأت علامات التباين بين مختلف تجمعات الفلسطينيين في الظهور، فطفت الخلافات السياسية الفلسطينية الداخلية وتشرذم معها الفلسطينيون مع مؤيد لهذا ومؤيد لذلك، وهذا يذكرنا نوعا ما بما يحدث من انقسام سياسي بين حركتي فتح وحماس، لكن الاختلاف برأيي أن أبو عمار استطاع استمالة أغلبية شعبية ودولية لصالحه، وهو ما لم يحدث لأبو مازن اليوم، فأبو عمار شعبوي على النقيض من أبو مازن الملتزم بنهج دبلوماسي خاص به، على العموم اثبتت الانتفاضة الأولى أن العامل الاقتصادي ليس كافيا لحفظ أمن إسرائيل، وأن الشعب الفلسطيني واع بما يكفي ليعرف حقوقه وما يريد، واستطاعت شخصيات في الداخل في قيادة هذه الهبة الشعبية بشكل لا مركزي هو بالمناسبة ليس نتاج الصدفة وليس نتاج غياب القيادة الفلسطينية في الخارج عن الداخل، بل هو برأيي نتاج طبيعي للحالة الفلسطينية في الداخل التي تحدثت عن بعض عوامل عملها، فقد بدأت الشرارة الأولى للانتفاضة من مخيم جبالية في غزة، يقول خليل عبيد (من القيادات الميدانية): “بعد حادثت السير التي استشهد على اثرها 6 شبان فلسطينيين، توجه جل سكان المخيم الذي يعرف بعضهم بعضا لمشفى كمال عدوان للوقوف بجانب عائلات الشهداء، فقلت في نفسي وأنا أرى هول المشهد من بكاء وغضب يجب أن نتحرك، فصرخت في بعض الحضور أن نذهب للحاجز العسكري القريب من المخيم”. وهكذا وبهذه العفوية انطلقت شرارة الانتفاضة حين قرر أبناء المخيم الانتقام لذوييهم الشهداء، وما حدث من قصص عدم دفع الضرائب من سكان مدن بيت لحم وبيت ساحور، ما حدث من قصة شراء أبقار لإنتاج اللبن من أهالي بيت جالة، يحدثنا أن الحالة الفلسطينية في ذلك الوقت كانت مرتكزة على وحدة المدينة أو المخيم، وعلى حالة اللامركزية سواء في عدم وجود قيادة كوحدة في الداخل، أو تشرذم الحالة السياسية الفلسطينية بعد حصار بيروت.
اليوم اختفت المخيمات تقريبا كوحدات سكنية بشكلها القديم، كنت قد كتبت عن أن السلطة وجدت معضلة في السيطرة على المخيمات حتى عام 2007، لأن ولاء العاملين في السلطة من أبناء المخيمات كان للمخيم أولا، فالمخيم التي كانت إسرائيل تسيج حدوده، وذو الشوارع الضيقة والبيوت المتلاصقة، خلق منه مجتمعا متماسكا مترابطا، فكان الجنود الإسرائيليون يخافون ملاحقة الفلسطينيين في أزقة المخيمات، أما مع عودة السلطة وتنفيذ مخطط فياض المدني، الذي بلا شك حسن من البنية التحتية في الضفة، فقد اختفت ملامح المخيم، واندمج سكانه في مؤسسات السلطة، وفي مؤسسات المجتمع المدني، وهجره البعض للمدينة المدنية الضامة مثل مدينة رام الله، واضحى الزقاق شارعا، واتذكر هنا شارع السوق في مخيم جباليا الذي أضحى كالبوليفارد مليئا بالأسواق ومشبعا بالسيارات، وحتى ابن المدينة اليوم سواء في غزة أو الضفة ارتبط اقتصاديا بمشروع “حل الدولتين”، فكبلت أيادي الشعب بقروض الشقق والسيارات، واليوم فمدينة رام الله تضم شتى “أنواع” الفلسطينيين، أهل رام الله، القادمين للعمل من مدن الضفة، القادمين من غزة، فلسطيني الشتات الذين عادوا بعودة السلطة، بل وحتى لي أصدقاء من فلسطيني تشيلي الذين وجدوا في رام الله حلم العودة المسلوب، وهكذا فقد اغتالت مدنية السلطة المفرطة مجتمع المخيم، وكبلت أهالي المدن بالخوف الاقتصادي سواء عن طريق القروض المسهلة -جدا- أو عن طريق الوظائف التي خلقتها مؤسساتهم، وحياة المدينة الواسعة الشوارع لها أثر نفسي مختلف على قاطنيها من أثر الأزقة والبيوت المتلاصقة، إن السلطة وبإغراقها في الاستثمار في حل الدولتين وفي تطوير الحياة المدنية أثر يعصب عكسه، وقد يقول قائل: هل أنت حزين من أن السلطة حسنت الحالة الاقتصادية والبنية التحتية والحياة المدنية لشعبنا المكلوم؟ أقول ولكن هل استثمرت السلطة في الجانب التحرري لقضيتنا بنفس استثمارها في حلم الدولة الذي لم يتحقق أصلا؟ فكيف لنا أن نخلق دولة ونحن لا نملك دولة؟ كيف لنا أن نعود شعبنا بل ونوهمه بأنه يعيش في دولة مدنية كسائر الدول وهو بل وقيادة وسلطته تحت الاحتلال؟ والأدهى أن السلطة تريدنا جميعا أن نعيش نفس حلمها وأن ننفصل عن واقعنا، إن السلطة وحدها هي التي تعيش منفصلة عن واقعها، فانفصل الشعب عنها، أعترف أن شعبنا في الداخل أضحى مكبلا اقتصاديا ووظيفيا لكن الانسان لا يحيى بالخبز فقط، ولكني أعترف أن عملية استنهاض الشعب ليست أمرا هينا، فربط 157 ألف موظف وعامل في أجهزة السلطة يعني ربط مصير ما لا يقل عن مليون شخص (اذا اضفنا عدد أفراد الأسرة) بموضوع الراتب والمسائلة من قبل السلطة، وعندما يكون حوالة 84 ألف شخص يعملون في المؤسسات الأمنية الفلسطينية المكبلة باتفاقيات أمنية تحصر عملهم في كونهم قبضة حديدية فوق رأس شعبنا، فأنت تحفر قبر العمل النضالي بشكل كبير، لذا فلم يكن مفاجئا بالنسبة لي أن عدد المشاركين في مسيرة ضد صفقة القرن دعت لها السلطة وفصال أخرى أقل بشكل كارثي من مسيرة ضد قانون الضمان الاجتماعي، ولم يكن مفاجئا أن لا تنجح حملة اخترناك، أو أي من حملات التفويض الشعبي سواء للسلطة أو حماس في استقطاب الشعب، فقد انفصلوا عنهم سياسيا وخطابيا منذ 2006 وما تلاه من انقسام وخواء سياسي وانعدام الاستثمار في النضال التحرري الشعبي، وقد خرج أبو مازن يوما ليقوم مدافعا عن نفسه: “اللي بده يتظاهر ضد الاحتلال ينزل، مش مانعينه”، ورغم اعتقالات الأجهزة الأمنية لكثير من النشطاء، فأرد عليه بالقول ولكن هل هيأت حكومتك الموقرة الظروف لكي ينزل الشعب و يتحرك ويتلاحم ويتفاعل؟ أم أنه شعبنا في الداخل والخارج لا يجد من راية يقف خلفها، لا يرى من مشروع يدعمه ويعبر عنه، السلطة استثمرت في مواطن مدني مترف، ولم تستثمر في انشاء مواطن تحرري غير مادي.
ولن أطيل الحديث عن مجتمعات الشتات، فالوضع محزن أينما التفتنا، فمع بزوغ نجم السلطة بدأ نجم المنظمة بالأفول، فلا معين ولا ممثل لأهلنا في سوريا ولبنان ومصر والأردن، لم يجد هؤلاء الفلسطينيون ما يمثلهم في خطابات السلطة، فالكملة الأكثر تكرارا من الرئيس هي “الشرعية الدولية” و “حل الدولتين” وكلاهما لا يجد فيهم فلسطينيي الشتات أنفسهم، فكيف لمن لا تتحدث عنه ولا تعبر عنه سياسيا ولا نضاليا أن يبقيك في وجدانه، أضف أن عمليات الانصهار الاجتماعية الطبيعية بدأت تعمل عملها، ولاجئي سوريا هاجروا للمرة الثانية، زالت مخيماتهم من الوجود لكي تقتل أي رابط بينهم، ولتقول زمن المخيم الحالم بالعودة انتهى، وفلسطينيي لبنان لا تترك حكومة لبنان لهم من متنفس للعيش أو الكسب، إن الواقع الشعبي الفلسطيني أضحى في حالة مزاجية من البحث عن النجاة، “Survival mode”، وشعبنا في مصر ما زال يحمل وثيقة سفر لا تخوله دخول مصر نفسها في كثير من الأحيان، فابتلعهم واقعهم المرير، رغم مساوئ ما حدث في لبنان، كان في الإمكان لأي فلسطيني التوجه هناك والالتحاق بركب الثورة، بركب أخيه الفلسطيني، أما اليوم فانتهى زمن المخيم التقليدي بلا عودة، وديناميكا المجتمع الفلسطيني لم يعد كما كان سابقا، والتشتت يزداد يوم بعد يوم، والحالة الفكرية الفلسطينية تغيرت بشكل جذري وأخذت منحنى مهتم بالنجاة، وحتى “الهم” لم يعد واحدا بين مختلف أماكن الوجود، فهل درست السلطة والسياسيون الفلسطينيون كل هذه المتغيرات قبل أن يلوموا الشعب على عدم التفافه حولهم؟ وهل فعلا ينهي الانقسام حالة الشعب الفلسطيني الساكنة؟ لا أعتقد ذلك، لكن أكمل التحليل في مقال آخر…أما الآن ليعود كل منا بذاكرته لزمن الزينكو.