هيمنات تعيد إنتاج الأزمة

الأحداث هي لا شيء خارج علاقتنا معها، وما يهم فعلًا هو المعنى الّذي نبنيه منها. فلا أحداث تافهة أو عميقة بحد ذاتها، بقدر ما هنالك معان وتوجهات إما تسفه الأمور وإما ترتقي بها. وبهذا المعنى فالانتخابات هي أيضا قراءات، منها ننطلق إلى إعادة تشكيل واقعنا أو إلى الاستمرار في نهجنا، أكثر بكثير منها كنتائج كمية. والاستنتاج الأخير لهذا المقال هو أنَّ الانتخابات أفرزت تغييرًا في الخارطة السّياسية في الدّاخل لا رجعة منه، تغييرًا لا أملك خيالًا الآن لسيناريو أسوأ منه.باختصار نستطيع أن نشير إلى أمرين أفرزتهما نتائج هذه الانتخابات:

الأوّل: فشل تجربة القائمة المشتركة، أما الثّاني فهو العودة إلى سيناريو أسوأ مما كان عليه قبل إقامة المشتركة، وذلك للأسباب الآتية:

1. طرح التّعايش مع الفاشية الاستيطانيّة كإمكانية “وطنيّة”.
2. صراع قطبين على الهيمنة، دون أن يشكل أي منهما إمكانيّة وطنيّة أو تقدميّة حقيقية. أي صراع على الهيمنة خارج مشروع سياسي وخارج مشروع اجتماعي تقدمي حقيقي.
3. الانكماش والتّراجع غير المسبوقين للتجمع الوطني الدّيمقراطي الّذي مثل مشروعه وفكره السّياسي المميزان له، بديلًا لكل ما حدث خلال السّنوات الأربع الأخيرة، لكن دون أن يعكس أداؤه وممارساته وخطابه في السّنوات الأخيرة ذلك.

أما استنتاج أنَّ “النّاس تريد الوحدة”، فهو استنتاج لا قيمة سياسيّة له طالما أنّ هذه الوحدة لم تطور مضمونها السّياسي وبالتّالي شروط بقائها، وطالما غاب عن المشهد خطاب سياسيّ يشكل وعي النّاس بأهمية مشروع سياسيّ تحمله المشتركة. أكثر من ذلك، هذا الاستنتاج بأن “النّاس تريد الوحدة” يبدو استنتاجًا عبثيًا عندما تمثل نتيجة الانتخابات الحالية واقعًا مناقضًا، هو واقع التّقطب.

ونحن نستطيع بوضوح أن نقلق مما يشير إلى أن ما سيأتي هو تعزيز لما أفرزته هذه الانتخابات وتعميقًا لأزمة العمل السّياسي الّتي عكستها هذه الانتخابات، أكثر بكثير مما سيكون انقلابًا عليه أو مراجعة أو ما يشبه “الحَراك التّصحيحي”، وذلك لأسباب عدة، أذكر أهمها:

1. يمثل الخطاب الإعلاميّ الّذي رافق المشتركة وانتخاباتها المتتالية تعزيزًا لمنطق انفكاك النّضال الفلسطيني في الدّاخل وأهدافه ورؤيته عن القضية الفلسطينية الأم، ويعتبر ذلك خسارة استراتيجية لنضالنا في الدّاخل وللنضال الفلسطيني العام بالذّات بعد قانون القوميّة الذي وإن أتى كعملية تصفية للقضية الفلسطينية (وليس للديمقراطية الإسرائيليّة، والفرق جوهري بين الأمرين)، إلا أنه يفتح المجال على خطاب إسرائيل كمشروع استعماري و”كأبارتهايد”، وقد رأينا بدء تغلغل هذه اللّغة دوليًا وحتى في الهامش الإسرائيلي الذي كان بعيدًا عنها.

2. تمثل نتائج الانتخابات نهاية سيناريو المشتركة، الّتي لم تعكس حقيقة عملًا وحدويًا حقيقيًا بقدر ما عكست إما مشروع هيمنة لبعض الأحزاب وإما بقاء تنظيميًا لأحزاب أخرى، الأمر الذي يحمل في طياته سببًا مركزيًا لفشل التّجربة ونهايتها.

3. قد لا يقف التّفكك عند هذا الحد، بل قد يشهد ما بقي من المشتركة سيناريوهات تفكيك إضافية في المستقبل القريب، سيما أنَّ الجبهة ستركز في تقييمها على القوة التّمثيلية الّتي خسرتها وليس على الأزمة، بل الكارثة الّتي يشهدها الدّاخل الفلسطيني حاليًا بقيادتها وبالتّعاون السّلبي للتجمع الوطني الدّيمقراطي.

4. ستذهب الموحدة إلى احتلال المشهد وعرض نفسها كلاعب طازج، وجديد، وواقعي، ومؤثر معتمدة على مفاهيم أطلقتها المشتركة نفسها، ومعتبرة نفسها مكملة لخط فشلت فيه المشتركة وأتت هي لتنجح في تحقيقه.

5. لن تجد الموحدة رادعًا ولا منافسًا لا سياسيًا ولا اجتماعيًا تخاف منه أو يردعها، كون المشتركة ستبقى فاقدة لمشروع سياسيّ استراتيجيّ ولمشروع اجتماعي تقدمي جريء وواضح. بالتالي ستكون السّاحة متاحة لخطاب مؤسرل، ولتحويل فعلي للسياسة لعملية مقايضة كاملة، دون أي خطوط حمراء، ومقصورة على هاجس ماذا نأخذ دون أي حساب لخسارتنا على مستوى الهُوية والكرامة والكبرياء والقضية الفلسطينية الجامعة. وسنشهد امتدادًا لخطاب اجتماعي وصائي أيضًا لا رادعٍ تقدمي له.

6. ستتعلق قدرة التجمع القادمة في التأثير على مجريات الأمور داخل المشتركة بمدى جدية عملية المراجعات السياسية باتجاه إعادة تثبيت رؤيته وخطابه، وبعملية إعادة البناء الداخلي التي سيقوم بها.

7. ستتوسع دائرة النّاس التي تنفر من السّياسة وتبتعد عن الأحزاب، بالذات تلك المسيّسة والمرشحة لمد المجال السّياسي بطاقات عملية وفكرية قادرة على المساهمة في إخراج العمل السّياسي الحزبي، والسّياسي العام من أزمته.

8. لن يخاف منصور عباس من الفشل، ليس فقط لكونه يستند جماهيريًا على قاعدة تمثيله لأكبر حزب عربي، وليس أيضًا لثقته في النّجاح، بل لثقته في انعدام آليات المحاسبة حتى الشّعبية المعنوية منها، فهو واثق أنه لن يدفع ثمن فشله ولن يحاسبه حزبه ولا النّاس، تمامًا كما لم لن تحاسب الجبهة ولا قاعدة الجبهة ولا داعمي عودة، الأخير بعد ثبات فشل وكارثيّة نهجه.

مع ذلك، هنالك أمل غير كبير، في ألّا تعكس عشرات تصريحات ولقاءات ممثلي الجبهة (منها: أنَّ النّاس تريد الوحدة وتريد مشروع المشتركة، وأن الانتخابات هي استفتاء على ذلك، مع أنَّ النّاس لم تعاقب من شقّ المشتركة، وأنه كان هنالك “إخفاقات” لكننا لا نعتبر ما حصل فشلًا. الإخفاقات كانت انتخابية، وإدارية، وإعلامية، وليست سياسية. الجبهة خسرت من قوتها وعلينا إصلاح ذلك. هنالك المسؤول الحصري عن تفكّك المشتركة، اسمه منصور عبّاس وهو يمثل خرقًا لكل الخطوط الحمراء)، أقول آمل ألّا تعكس هذه “الاستنتاجات” ما سيأتي في اجتماعات تقييمية قادمة للجبهة، فما أحوج هذه المرحلة إلى صوتٍ نقدي معارض يخرج من داخل الأحزاب.

أما الموحدة فستقرأ النّتائج بشكلٍ مماثل، لكن من الشّق الآخر من القطبية، وستعمل هي أيضًا على تعزيز هذه القطبية، مستغلة في ذلك أكبر استغلال غياب مشروع سياسي وطني أو تقدمي حقيقي للطرف الآخر، الأمر الذي يمكنها من شنّ هجوم أرعن بادعاء المحافظة على الدّين وعلى “مصالح المجتمع”، دون أن تستطيع المشتركة أنّ تشن هجومًا سياسيًا مضادًا بأن الموحدة مثلًا تقبل التّحالف مع مستوطنين حاملي مشروع بناء الهيكل الذين يقتحمون الأقصى يوميًا، وذلك كون المشتركة لم تتحد أي من سياسات إسرائيل تجاه القدس والأقصى، ولم تضع سياسات الاستعمار والتّطهير في القدس، أو أي من القضايا الكبرى مثل الحصار على غزة، أو حتى قانون القومية على أجندتها ولو في حدها الأدنى، ودون أن تستطيع “المشتركة” أن تشن هجومًا اجتماعيا مضادًا معبرة عن خطاب حقيقي وجذري مدافعًا عن حقوق الإنسان وعن الحريات الشّخصية وممثلة بذلك قطاعات واسعة من المجتمع بحماس نوعي يجبر الآخرين على كبح تحريضهم، ناهيك عن التّراجع والنّكوص بل التّنصل من خطاب الحريات الفردية الذي اتبعته، الذي أبعد عنها مئات الطاقات الشّبابية النّوعية التي تغني المشهد السّياسي بقطاع مسيّس تقدمي جريء يستطيع استحداث لغة وخطاب وأدوات واستراتيجيات تحرّر نحن في أمس الحاجة لها.

وفي الوقت الذي على ما يبدو ستذهب فيه الموحدة في قراءة الواقع عبر مكاسبها الانتخابية، والجبهة عبر إعادة بناء ما تعتقد أنه خسارة لقوتها السّياسية، يبدو التّجمع طرفًا خارجًا عن لعبة الهيمنة، حاصدًا في ذلك تجربة “الجزء الثّاني” من المشتركة، الذي يبدأ برأيي عام 2017– أي عامين بعد بداية تجربة المشتركة- وهو العام الذي بدأ فيه الصّراع على معنى المشتركة وعلى استراتيجيات عملها، في الانكماش واتجه إلى حسم لغير صالح الرّؤية الاستراتيجية ومفهوم المواطنة وحدود العمل السياسي- أو على الأقل بعض أهم بديهياتها- التي يمثلها التّجمع، أقول تراجع التّجمع بعدها! بسبب هزة عميقة في الثّقة بالنفس على أثر مسار منهجي داخل المشتركة تم فيه تعريف التّجمع “لاعب متمرد ومعيق للمسار”، وحاربت فيه تلك القوى صوت التّجمع ودوره في محاولة تثبيت رؤية استراتيجية أو بعد واضح مستقل عن الأحزاب الصّهيونية وغير محتكم لسقف شرعيتها، ومرتبط استراتيجيًا بالقضيّة الفلسطينيّة الأم وبمفهوم محاربة النّظام الصّهيوني وتطوير بديل له.

لقد شخصت أغلبية مركبات المشتركة في بدايات تجربة المشتركة دور التّجمع وخطابه وتعامله الجوهري مع المواطنة كعلاقة لا تسثنى من الصّراع مع الدّولة، كأمرٍ “إشكالي” أو “مضر لشعبنا” على حد تعبير البعض، كما تعاملوا مع وجدانيات الصّدام والاغتراب والاستعداد لإدارة علاقة متوترة مع الأحزاب ومع المجتمع الإسرائيلي بيساره ويمينه، كعلاقة تهدّد المشتركة وإمكانية “إنجازاتها”. وقد شارك توجه مركبات المشتركة في ذلك مجموعة من الأصوات غير الحزبية الّتي دعمت نهج أيمن عودة وراهنت عليه، متوجة دعمها بدعم التّوصية على غانتس التي تدافع عنها حتى هذه اللحظة، وها نحن الآن وبعد أن نجحت عمليات تهميش دور التّجمع تلك، بتعاون التّجمع نفسه، نرى تلك الأصوات تتباكى على أن المشتركة لم تحمل مشروعًا استراتيجيًا، ضمن غياب أدنى حس من النّزاهة والمحاسبة الذّاتية.

من جهة أخرى، اتضح– طبعًا ليس للذين يريدون الدّفاع عن موقفهم بعض النظر عن كارثيته الواضحة- بعد 6 سنوات من تجربة المشتركة أن المشتركة كانت الخاسر الأكبر من ضعف التّجمع ومن ضعف ومحاصرة ما يمثله، فقد فشلت المشتركة برلمانيًا كما فشلت في التّوسع وفي تطوير ذاتها كحالة شعبية خارج برلمانية، وكحالة تعبئة سياسية كاملة. أما من ربح من هذا المسار– مسار الفشل كما مسار المفاهيم الكارثية التي

نجحت المشتركة نفسها في تثبيتها- فهو منصور عبّاس الذي استأنف على هيمنة المشتركة لكن من الاتجاه المعاكس. لكن سيتضح قريبًا أيضًا أن لا معنى استراتيجي لجماهيريته ولا لمكاسبه الانتخابية.

لكن المشتركة الآن أصبحت تاريخًا لم يعد بالإمكان إلّا الكتابة عنه، لأن فشلها وترددات الانهيارات التي خلفتها يحتم علينا، وعلى التجمع تحديدًا إعادة صياغة مشروع استراتيجي، وإعادة احتساب دوره البرلماني بحكمة وإصرار، والبدء في مراجعة كاملة وجذرية للتجربة ولتجربته خاصة، وإعداد العدة لمرحلة قادمة ستكون مختلفة جدًا عما عهدناه، اختلافًا لم نرَ أوجهه أو تبعاته بعد. من جهة أخرى، لن يمنى منصور عبّاس هو الآخر إلا بفشل ذريع، الأمر الذي يؤكد أن القضية ليست قضية أننا لا نعرف فن الممكن، كما يقول أنصار الواقعية، بل أننا لا نعرف فن الممكن فعلًا.

بقي أن نؤكد جزئية هذا الاجتهاد، الذي يختزل المشهد ل 46% من شعبنا، أي على أقل من نصف شعبنا في الدّاخل، ما يختزلها على الأحزاب البرلمانية كفاعلٍ سياسي حصري، بالتالي هي مراجعة ليست فقط جزئية، إنما مشوهة لكونها جزئية، في واقع يتجه فيه المشهد السّياسي إلى تثبيت دورًا أقل للنخب وللأحزاب، ودورًا أكبر للحراكات وللأفراد، لكن لذلك المقال مقام آخر.

عن فارءة معاي


About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *