“هنود من أجل فلسطين”… إرث غاندي في الوجدان الشعبي


بين أزقّة المدن الهندية وساحاتها العامة، يعلو صوتٌ شعبيٌّ حرّ ينادي بالسلام والعدالة والحرية، متضامناً مع فلسطين ومُديناً العدوان الإسرائيلي المستمرّ على غزّة. وكما في كلّ مرّة تستأنف فيها آلة الحرب الإسرائيلية استهداف غزّة، ينبض الشارع الهندي بمواقف تضامنية تعبّر عن دعمها لفلسطين. ففي مارس/ آذار 2025، شهدت العاصمة نيودلهي وقفةً احتجاجيةً حاشدةً نظّمتها قوىً يساريةٌ ومنظّماتٌ طلّابيةٌ ونقابيةٌ، عبّرت فيها عن تضامنها مع نضال الفلسطينيين من أجل التحرّر، وندّدت بحرب الإبادة الجماعية على غزّة، مطالبة بوقف فوري للحرب.
وفي 5 إبريل/ نيسان، نظّم حزب العمّال الثوري الهندي مظاهرة جماهيرية بمشاركة اتحادات طلابية ومنظّمات مدنية، سلّطت الضوء على الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزّة، مطالبةً بحراك عالمي. وفي السياق ذاته، أطلقت اللجنة التنفيذية المركزية لاتحاد طلاب الهند حملةً تضامنيةً تحت شعارات مثل، “طلاب من أجل فلسطين حرّة” و”أوقفوا الإبادة الجماعية في غزّة”، داعيةً إلى تنظيم سلسلة احتجاجات وطنية من 8 إلى 15 إبريل 2025، وقالت إن “الصمت تواطؤ”.
يستند التحول في موقف الهند التقليدي تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، إلى إرث الكفاح السلمي للمهاتما غاندي
لم تحظَ موجات التضامن الشعبي مع فلسطين في الهند باستجابة موحّدة من السلطات المحلية، بل كشفت تباينات حادّة تعكس الانقسام السياسي العميق في البلاد. ففي الولايات التي يحكمها حزب بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب الهندي) اليميني، الحاكم على المستوى الفيدرالي، تعرّض المتضامنون مع فلسطين، خلال مراحل مختلفة من العدوان على غزّة، لتضييق أمني تمثّل باعتقالات واستدعاءات بحقّ نشطاء وطلّابٍ جامعيين، لمجرّد رفعهم العلم الفلسطيني أو تنظيمهم فعّاليات تضامنية. وشهدت ولايات مثل أوتار براديش شمال البلاد، وغوجارات غربها، إجراءات قمعية صارمة، تضمّنت توجيه تهم مثل “تهديد النسيج الاجتماعي” و”إثارة الفتنة الطائفية”. في الوقت ذاته، سُمح بتنظيم مظاهرات مؤيّدةٍ لإسرائيل من دون قيود تُذكر، في مفارقة لافتة تكشف ازدواجيةَ حزب بهاراتيا جاناتا في التعامل مع حرّية التعبير داخل الولايات الهندية.
على النقيض، اتسمت استجابة السلطات في الولايات التي تديرها أحزاب المعارضة (حزب المؤتمر الوطني، والأحزاب اليسارية والاشتراكية…) بمزيدٍ من الانفتاح إزاء التعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. ففي ولاية كيرالا، التي يحكمها الحزب الشيوعي الهندي، نُظّمت فعّاليات ومظاهرات مؤيّدة لفلسطين بشكل منتظم منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزّة.
تحوّل سياسي
ويأتي هذا التباين في المواقف المحلّية في إطار تحوّل سياسيٍّ أوسع على مستوى السياسات الرسمية للهند، تجلّى بوضوح في موقف الحكومة المركزية بقيادة رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، الذي سارع، عقب انطلاق عملية طُوفان الأقصى، إلى إعلان “تضامن بلاده مع إسرائيل”، واصفاً العملية “بالهجمات الإرهابية”. وهو تصريح مثّل تحولاً لافتاً في موقف الهند التقليدي تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وقد أثار هذا التحوّل في الخطاب الرسمي موجةَ انتقادات واسعة بين الأوساط الشعبية وداخل دوائر المعارضة الحزبية؛ إذ اعتُبر خروجاً عن الإرث التاريخي للهند ما بعد الاستعمار، وعن مواقف زعماء الهند وقادتها الذين دعموا قضايا التحرّر العالمي وحركاته. وقال إم إيه بيبي، القيادي في الحزب الشيوعي الهندي، لقناة الجزيرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023: “المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو، كانا يعتبران أن الفلسطينيين يخوضون حركة استقلال شبيهة بكفاح الهند ضدّ الاستعمار البريطاني”، مضيفاً: “شعب كيرالا، في تضامنه مع فلسطين، يقتدي بنضال الهند التاريخي من أجل الحرّية. ربّما نسي مودي تضحيات قادتنا العظماء، لكنّنا لن ننسى، وسنواصل تقليدهم”.
ولا يمكن فصل الحملات القمعية التي استهدفت المتضامنين مع فلسطين عن مسار التحالف الاستراتيجي المتصاعد بين الهند وإسرائيل، والذي تعزّز بشكلٍ لافتٍ منذ وصول مودي إلى الحكم عام 2014، عبر شراكات أمنية وعسكرية وتقنية، انعكست بوضوح في مواقف نيودلهي خلال الحرب على غزّة.
إرث غاندي
ومثّل ذلك التصريح تحولاً لافتاً في موقف الهند التقليدي تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي يستند إلى إرث الكفاح السلمي الذي أرساه المهاتما غاندي، وشكّل جوهر الهُويَّة الوطنية الهندية في مسيرتها نحو التحرّر والاستقلال.
لقد شكّلت الهند واحدةً من أبرز النماذج العالمية في مقاومة الاستعمار بالطرق السلمية، حين طوّر موهانداس كرمشاند غاندي (1869–1948)، الملقب بـ”المهاتما” (الروح العظيمة) فلسفة “الساتياغراها”، القائمة على اللاعنف والتمسّك بالحقيقة قانوناً حيّاً للحياة. وكانت من أبرز تجلّيات هذا الفكر، حركة “بهارات تشودو”، تعني (اتركوا الهند)، التي انطلقت في أغسطس/ آب 1942، تحت شعار “افعل أو مُتْ”، لتتحوّل إلى واحدة من أعظم الثورات الجماهيرية في تاريخ الهند، ومقدّمةً لنيل استقلالها من الاستعمار البريطاني.
وفي ضوء هذا الإرث التحرّري، ومع استمرار المآسي التي تشهدها فلسطين، يُستعاد موقف غاندي من القضية الفلسطينية، كما عبّر عنه في مقاله الشهير بعنوان “اليهود”، ونشر في صحيفة “هاريجان” في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1938، إذ أكّد بوضوح أن “فلسطين عربية، وهي تنتمي إلى العرب مثلما تنتمي إنكلترا إلى الإنكليز وفرنسا إلى الفرنسيين. ومن الخطأ والظلم الإنساني أن نفرض اليهود على العرب في فلسطين”. وأضاف غاندي أن ما يجري في فلسطين آنذاك “لا يمكن تبريره تحت أيّ مسمّيات قانونية أو أخلاقية”.
وفي مقال لاحق نُشر في 21 يناير/ كانون الثاني 1946، بعنوان “اليهود وفلسطين”، عبّر غاندي عن موقفه بشكل أكثر حدّة، موضحاً أن “اليهود ارتكبوا جرماً شنيعاً حين سعوا إلى فرض أنفسهم بالقوة على الشعب الفلسطيني، بمساعدة أميركا وبريطانيا، والآن يسعون إلى تحقيق ذلك عبر الإرهاب الممنهج”.
لا يمكن فصل الحملات القمعية التي استهدفت المتضامنين مع فلسطين عن مسار التحالف الاستراتيجي بين الهند وإسرائيل
تعكس هذه التصريحات التاريخية الرؤية الأخلاقية والإنسانية الواضحة لدى غاندي، في دفاعه عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، ورفضه المطلق لاستخدام القوة أو الإرهاب وسيلةً لتبرير الاحتلال. وعليه، فإن مشاهد التضامن الشعبي التي تشهدها الهند اليوم مع فلسطين، تمثّل امتداداً حيّاً لذاكرةٍ نضاليةٍ متجذّرة في وجدان المجتمع الهندي، وامتداداً طبيعياً لإرث غاندي وفلسفته التحرّرية، التي شكّلت جوهر القيم التي قامت عليها الدولة الهندية مثل، المقاومة السلمية، والعدالة، ورفض الظلم بكلّ أشكاله.
تُعد ولاية كيرالا، الواقعة في جنوب الهند، نموذجاً حياً للوعي الشعبي والسياسي المتقدّم في مناصرة فلسطين من أجل التحرر، إذ شهدت بعضاً من أكثر الفعّاليات التضامنية حيوية وزخماً على مستوى البلاد. ففي الشهر الأول من حرب غزّة (أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، نظّمت حركة الشباب التضامني (SYM)، التابعة لـ”جماعت إسلامي هند” (JIH)، مسيرةً جماهيريةً حاشدةً في مدينة مالابورام تضامناً مع الشعب الفلسطيني، واشتملت على مداخلة افتراضية للرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خالد مشعل، ما أثار موجةً من الانتقادات الحادّة من حزب “بهاراتيا جاناتا” في الولاية، والذي وصف الحدث بأنه “مثيرٌ للقلق” و”غيرُ مقبولٍ”، متوعّداً باتخاذ إجراءات ضدّ منظّمي الفعّالية والمشاركين فيها.
ورغم ذلك، أعلنت حركة الشباب التضامني عزمها مواصلة تنظيم فعاليات مماثلة، مؤكّدةً أن القضية الفلسطينية تُمثّل بالنسبة لها قضيةً إنسانيةً عادلةً، لا ينبغي التراجع عن دعمها. ولم تقتصر مواقف ولاية كيرالا على الأنشطة الشعبية فقط؛ ففي يناير/ كانون الثاني 2024، أقرّ مجلس الولاية قراراً رسمياً أعرب فيه عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، داعياً إلى “انسحاب فوري لإسرائيل من الحرب المدمّرة على غزّة”. وكان هذا القرار واحداً من عشرة قرارات مُماثلة أقرّها المجلس لتأكيد الموقف الثابت للولاية في دعمها لفلسطين.
مؤتمر الحزب الشيوعي
وفي أحدث محطة لتضامن كيرالا، في إبريل/نيسان الحالي، شهدت الولاية حدثاً بارزاً تمثّل في انعقاد المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي الهندي، بحضور رئيس وزراء الولاية، ومسؤولين كبار وشخصيات عامّة. وفي لفتة تضامنية، توشّح الحضور بالكوفيةَ الفلسطينية، وجدّد الحزب موقفه الثابت من دعم الشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة.
وعلى امتداد مشهد التضامن الشعبي في الهند، لم تكن كيرالا استثناءً، بل شكّلت جزءاً من موجة تضامنية أوسع امتدّت إلى ولايات ومدن عدة، وقادتها نقابات عمالية، وجمعيات مدنية، ومنظّمات حقوقية، إلى جانب اتحادات طلابية. هؤلاء جميعاً أعلنوا رفضهم الحرب الإسرائيلية على غزّة، وندّدوا بتواطؤ الحكومة الهندية مع إسرائيل خلال الحرب.
وكانت اتفاقية إرسال عمالة هندية إلى إسرائيل المبرمة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، خلال الحرب على غزّة موجة غضب واسعة، فقد اعتبرت النقابات العمّالية البارزة، مثل مركز نقابات العمّال الهندية (CITU)، ومؤتمري نقابات عمّال عموم الهند (AITUC)، ونقابات العمّال الوطني الهندي (INTUC)، هذه الخطوة تواطؤاً مع إسرائيل في محاولاتها لاستبدال العمّال الفلسطينيين، وهو ما اعتبرته النقابات تورطاً في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني، وطالبت الحكومة بإلغاء الاتفاقية مع إسرائيل.
من أجل فلسطين
وفي تطوّر لافت، أعلنت نقابة عمّال النقل المائي الهندية، في فبراير/ شباط 2024، التي تمثل 11 ميناء رئيسياً في البلاد، في بيان لها رفضها تحميل أو تفريغ شحنات الأسلحة من إسرائيل أو أيّ دولةٍ أخرى تتعامل مع هذه الشحنات من المعدّات العسكرية والبضائع المرتبطة بالحرب في فلسطين. وذلك ردّاً على تقاريرَ صحافية عن صفقة لتصدير طائرات مسيّرة من الهند إلى إسرائيل، ما اعتبرته النقابة بالنسبة إليها، تورّطاً غير مباشر في الحرب على غزّة.
وبالمثل، في فبراير/ شباط 2024، أطلقت منظمة “الهندوس من أجل حقوق الإنسان”، مبادرةً لتشكيل جمعية غير رسمية باسم “هنود من أجل فلسطين”، حيث عقدت أول اجتماع لها تحت عنوان “المحكمة الدولية والعدالة في غزّة”. ودعا المشاركون، وهم مجموعة من السياسيين والخبراء في السياسة الخارجية والدبلوماسيين، حكومة بلدهم إلى تأييد قرار محكمة العدل الدولية (الصادر في يناير/ كانون الثاني 2024)، الذي يدعو إسرائيل إلى منع أعمال الإبادة الجماعية، واتخاذ موقفٍ واضحٍ ضدّ انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة. كما طالبوا بوقف فوري لإطلاق النار، ووقف أيّ تواطؤ هندي مع إسرائيل.
واستمراراً لحملة “هنود من أجل فلسطين”، عقدت المجموعة في مارس/ آذار 2024، لقاءً في نادي الصحافة الهندي في العاصمة نيودلهي، طالبت خلاله برفع الحصار عن غزّة.
مشاهد التضامن الشعبي التي تشهدها الهند اليوم مع فلسطين، امتداد حيّ لذاكرةٍ نضاليةٍ متجذّرة في الوجدان الهندي
وفي ذكرى مرور عام على بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة، نُظّم اجتماع عام في مومباي، الواقعة في غرب الهند، شارك فيه مئات النشطاء من مختلف الأحزاب والمنظّمات الاجتماعية للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني، وإدانة الإبادة الجماعية في غزّة. وجاء هذا الحدث في إطار نداء وطني أطلقته الأحزاب اليسارية في البلاد، وكان من أبرز المشاركين فيه توشار أرون غاندي، حفيد المهاتما غاندي، من الجيل الرابع في التسلسل العائلي، الذي جدّد تأكيد موقف جدّه المعارض لتأسيس إسرائيل بالقوّة، مستشهداً باقتباسات مطوّلة من كتاباته التي ترفض الاحتلال وتناصر حقّ الشعوب في تقرير مصيرها.
خاتمة
قراءة مشهد التضامن الهندي مع فلسطين اليوم هي قراءة في ذاكرة نضالية لا تزال حيّةً وممتدّةً، تجسّدت في سلسلةٍ من المظاهرات والفعّاليات التي عمّت مختلف الولايات والمدن الهندية. وتُثبت هذه الموجة الشعبية أن الصوت الهندي، رغم محاولات القمع، لا يزال وفيّاً لقيم التحرّر والمناصرة، ومتمسّكاً بإرث غاندي ووصاياه الأخلاقية والسياسية.
وأمام هذا المشهد، يُصبح من الضروري فلسطينياً الاستثمار في هذا الإرث الحيّ، وتعزيز العلاقة مع القوى السياسية والمدنية الهندية الداعمة، بما يشكّل أداةَ ضغطٍ داخليةً على الحكومة الهندية في ضوء تواطئها السياسي والأمني مع إسرائيل، خاصّةً خلال الحرب على غزّة.
عن العربي الجديد