هل يجرؤ المدعي العام أن يصدر مذكرات اعتقال ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين؟
أقيمت محكمة الجنايات الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب من الأفراد الذين يرتكبون أو يساهمون في ارتكاب إحدى الجرائم الأربع الأساسية التي تدخل تحت ولاية المحكمة: جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة العدوان وجريمة الإبادة الجماعية. وهناك تفاصيل كثيرة يمكن الرجوع إليها في نظام روما الأساسي الذي اعتمد عام 1998 ودخل حيز الإنفاذ في تموز/يوليو 2002. والمحاكمة تجري في حال فشل النظام القضائي الداخلي لجنسية المجرم من محاكمة المتهم محاكمة عادلة، أو في حال عدم توفر النية من قبل سلطات الدولة المعنية بمحاكمة من ارتكبوا مثل هذه الجرائم. وهذه النقطة هي التي دعت العديد من الدول الفاعلة والمهمة والعدوانية إلى عدم الانضمام للمحكمة مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وإسرائيل وإيران وتركيا وكل الدول العربية ما عدا تونس والأردن. ويبلغ عدد أعضاء المحكمة الآن 124 دولة من بينها فلسطين التي انضمت إلى المحكمة رسميا عام 2015. والجمعية العامة للمحكمة المكونة من الدول الأعضاء هي التي ترسم سياسات المحكمة وتراقب أداء القضاة وتساهم في الميزانية وتنتخب المدعي العام لمدة تسع سنوات لمرة واحدة.
ويجوز للمدعي العام أن يفتح تحقيقاً في ارتكاب واحدة من الجرائم الأربع في ثلاث حالات:
– عندما تتم إحالة حالة ما من قبل دولة طرف في نظام روما الأساسي؛
– عندما تتم إحالة حالة ما من قبل مجلس الأمن الدولي للعمل على معالجة تهديد للسلام والأمن الدوليين كما حدث عندما أحيلت قضية الرئيس السوداني السابق عمر البشير؛
– وعندما تأذن الدائرة التمهيدية للمدعي العام بفتح تحقيق على أساس المعلومات الواردة من مصادر أخرى، مثل الأفراد أو المنظمات غير الحكومية، وهذه هي الحالة الأكثر قربا مما يجري في غزة الآن.
يقوم المدعي العام للمحكمة بدراسة ما إذا كانت الشكاوى تتمتع بمقدار من المصداقية والتوثيق ويقر التحقيق في تلك الجرائم. وبعد استيفاء كافة التحقيقات ذات المصداقية والتي قد تأخذ سنوات عديدة، وتتوصل هذه التحقيقات إلى دلائل ثابتة ووثائق مؤكدة من أن هناك أشخاصا ارتكبوا واحدة أو أكثر من تلك الجرائم التي ينص عليها نظام روما الأساسي، تبدأ جلسات المحاكمة سواء حضر المدعى عليه أم لم يحضر. وإذا لم يحضر تصدر المحكمة «مذكرة توقيف» بحق المتهم ويصبح لزاما على جميع الدول الأعضاء في المحكمة القبض على المتهم في حالة دخوله حدود تلك الدول وإحالته إلى لاهاي لاستكمال المحاكمة.
منذ أن عقدت المحكمة الجنائية الدولية جلستها الأولى عام 2006 بشأن اتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد توماس لوبانجا دييلو، أمير الحرب الكونغولي المتهم بتجنيد الأطفال، وصدرت إدانته لاحقا عام 2012 فتح مكتب المدعي العام اثني عشر تحقيقا رسميا ويجري تسعة تحقيقات أولية إضافية وكلها من القارة الأفريقية: فقد وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات لعشرات الأفراد، من بينهم زعيم المتمردين الأوغندي جوزيف كوني، والرئيس السوداني السابق عمر البشير، والرئيس الكيني أوهورو كينياتا، والرئيس الليبي معمر القذافي، ورئيس ساحل العاج لوران غباغبو.
بين أوكرانيا وفلسطين
في 17 آذار/مارس 2023 أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمفوضة الرئاسية لحقوق الطفل في روسيا ماريا لفوفا-بيلوفا. كانت التهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بسبب نقل مجموعة من الأطفال (نحو 550 طفلا) من أوكرانيا إلى الأرض الروسية. لقد كانت هذ المذكرة من أسرع المذكرات التي أصدرتها المحكمة وبعد سنة وثلاثة أشهر من بدء الحرب على أوكرانيا. وليس خافيا على أحد أن هذا القرار كان مسيسأ تماماً وأثلج قلوب القادة الغربيين جميعهم من بايدن إلى ماكرون وشولتز وبقية الدول الأعضاء في الناتو.
محكمة الجنايات الدولية رائعة ومهمة وعادلة عندما تلاحق الأفارقة والمناهضين لسياسة الهيمنة والغطرسة الأمريأوروبية. أما إذا تعلق الأمر بجرائم الولايات المتحدة والكيان الفاشي الذي تحول في مجمله إلى آلة قتل وإبادة وتطهير عرقي وعقوبات جماعية وتجويع متعمد واستهداف للمرافق الصحية والتعليمية وقتل عمال الإغاثة والموظفين الدوليين والصحافيين، آنذاك تصبح المحكمة في مرمى نيران الحكومات الغربية وخاصة الولايات المتحدة.
كريم خان والقضية الفلسطينية
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فكريم خان شخص آخر معادٍ للقضية حيث دفن رأسه في الرمال في جريمة اغتيال الصحافية الشهيرة شيرين أبو عاقلة، وهي الجريمة الواضحة المعالم والموثقة بالصوت والصورة، والتي تدخل ضمن اختصاصه. كما ظل صامتا صمت القبور على ما ارتكب من جرائم في مواجهات أيار/مايو 2021. أما عن حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من سبعة شهور وذهب ضحيتها أكثر من 120 ألفا بين شهيد وجريح ومفقود، عدا عن الدمار والجرائم الكبرى التي مررنا على ذكر بعضها، فهو بارد كقطعة ثلج ما دعا السفير الليبي طاهر السني، أن يقرعه بشدة أمام مجلس الأمن الدولي يوم الثلاثاء الماضي. ظل كريم خان صامتا حول المجازر التي تجري في غزة ثم قام بزيارة شخصية يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر 2023 لمعبر رفح على الحدود المصرية بعد 22 يوما من صمته المطبق على العدوان والقصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة.
لم يذكر خان وهو على المعبر شيئا عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة واحتلاله منذ عام 1967 لكنه صرح من دون تدقيق أو تحقيق رسمي بصحة الفيديوهات والصور المفبركة التي تم تداولها ومصدرها الإعلام الإسرائيلي. وقال: «إن ما شاهده من صور مرعبة من إسرائيل يوم السابع من أكتوبر، تتعلق بالحرق والاغتصاب والذبح وأخذ الرهائن، لا يمكن ان تمر بدون عقاب، وهي جرائم خطيرة بموجب القانون الدولي الإنساني» وهنا يظهر أن خان ذهب للمعبر لا ليعبر عن تضامنه مع آلاف الضحايا الفلسطينيين بل ليتضامن مع إسرائيل ويدين المقاومة الفلسطينية فأظهر بشكل سافر انحيازه المسبق لرواية الإعلام الإسرائيلي المفبركة. ثم قام بزيارة لإسرائيل في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر استمرت ثلاثة أيام بدعوة من عائلات إسرائيلية لبعض الأسرى فقبل الدعوة على الفور علما أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة. ثم أطلق تصريحات قوية مستبقا التحقيقات قائلا إن لديه «سببا للاعتقاد» بأن الأعمال التي تم تعريفها على أنها جرائم وفقا للقانون الدولي قد ارتكبتها حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. وأبدى تعاطفه مع أسر المختطفين والمحررين الإسرائيليين ولكنه لم يتطرق إلى فظائع إسرائيل في غزة وتدمير أكثر من 70 في المئة من المنازل، وتشريد أكثر من ثلثي سكان غزة، وقتل ما يزيد عن 16 ألف فلسطيني فيها آنذاك. وقال خان حول ما حدث يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر: «لم تكن هذه جرائم قتل عشوائية» مشيرا إلى أن حماس «طاردت الناس» وأن «الأطفال اختطفوا من أسرهم». وذكر أيضا أن العديد من النساء وكبار السن قد قتلوا، بمن فيهم الناجون من المحرقة. وقال خان إن مكتبه سيكون سعيدا بالتعاون مع إسرائيل في التحقيق في أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأنه لن يرتدع عن إجراء تحقيق حتى لو استمرت إسرائيل في سياستها الحالية المتمثلة في عدم الاعتراف باختصاص المحكمة وعدم التعاون معها. وأضاف أن عائلات الرهائن الإسرائيليين الذين دعوه لزيارة البلاد «لا يتوقعون التعاطف فحسب، بل العمل». أما ما يجري من مجازر في غزة فلا نسمع منه شيئا إلا تمتمة خافتة حول الضحايا من المدنيين.
لذلك، نؤكد أن كريم خان لن يصدر أي مذكرة اعتقال لا بحق نتنياهو ولا غالانت ولا هاليفي، لكن مكتبه أو أحد القضاة سرّب خبر «النية في توجيه مذكرات اعتقال» من أجل أن يثير ردات فعل عنيفة من الولايات المتحدة خاصة ليبرر صمته بحجة أنه مهدد ليس في موقعه بل في عائلته شخصيا كما جاء في مذكرة أعضاء الكونغرس الأمريكي الإثني عشر من الحزب الجمهوري الذين وجهوا رسالة تهديد قوية للمحكمة وقضاتها والمدعي العام، مؤكدين في نهاية الرسالة «لقد حذرناكم» وهو ما يذكرنا بتهديدات الرئيس السابق عام 2019 عندما طرح موضوع التحقيق في جرائم الولايات المتحدة في أفغانستان.
مسرحية إصدار مذكرات اعتقال انتهت والتهديد الأمريكي كان المخرج. والمحكمة لا دور لها إلا إذا تعلق الأمر بجرائم يرتكبها المناهضون لسياسة البلطجة الأمريكية وحليفتها الأكثر توحشا وفاشية. فلا ينتظرن أحد أن تأتي العدالة طوعا من محكمة قرارها في يد كريم خان.
عن القدس العربي