هل ستقوم إسرائيل بإحصاء الفلسطينيين في الضفة الغربية سنويًا؟
بتاريخ 23 كانون الثاني الماضي، اجتمع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، والوزير الثاني في وزارة الدفاع بتسلئيل سموتريتش، مع رؤساء مجالس المستوطنات في الضفة الغربية. إحدى النقاط التي تم التطرق إليها هي “ضرورة” عودة إسرائيل إلى إحصاء الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو على الأقل أخذهم بعين الاعتبار عند تقديم الخدمات الحكومية الإسرائيلية. برز هذا الموضوع أثناء الحديث عن تطبيق بنود الاتفاقيات الائتلافية التي تخص الاستيطان في الضفة الغربية التي وُصفت بأنها “ستحدث انقلابا نوعيا في تعامل إسرائيل مع المشروع الاستيطاني”. تنظر هذه المقالة في: 1) تاريخ علاقة إسرائيل الإحصائية بسكان الأراضي المحتلة، 2) دوافع إسرائيل من وراء العودة للحديث عن ضرورة قيامها بمسح سكان الضفة الغربية وتعدادهم بعد 30 عاما على توقيع اتفاقيات أوسلو.
من يقوم بإحصاء الفلسطينيين في الضفة الغربية؟
ثمة جدل سياسي يتعلق بإحصاء عدد السكان بين النهر والبحر. بالنسبة لإسرائيل، فإن أحد أهم مخرجات اتفاقيات أوسلو كان يتمثل في “إخفاء” الفلسطينيين عن الخارطة من خلال تحويل عمليات إحصائهم، ودراسة خصائصهم الديمغرافية، إلى السلطة الفلسطينية. مثلا، جرت العادة أن يضم كتاب الإحصاء السنوي الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الإسرائيلي فصلا خاصا بسكان “يهودا والسامرة وقطاع غزة” (عادة يكون الفصل 27). استندت هذه الإحصائيات إلى التعداد السكاني الذي أجراه الجيش الإسرائيلي في أيلول 1967، وشكل الأساس لمراقبة حياة الفلسطينيين، وتنظيمها إداريا. في كل عام، كانت الإدارة المدنية تقوم بالتنسيق مع طاقم تابع لجهاز الإحصاء الإسرائيلي، ومختص في “يهودا والسامرة وقطاع غزة”، بوضع جداول إحصائية تغطي الخصائص الديمغرافية، والاقتصاد الفلسطيني، والتعليم، والصحة، وكل مناحي حياة الفلسطينيين بشكل شامل. كل هذه الجداول المفصلة و”الدقيقة” كانت توضع سوية في الفصل 27 (وهو الفصل الأخير) من الكتاب السنوي للإحصاء، بحيث تُفصل بيانيا عن إحصائيات سكان إسرائيل، لكنها (وهذا الأهم) كانت تدخل في حسابات كل الوزارات الإسرائيلية التي تقوم بالتخطيط. على سبيل المثال لا الحصر، عند التخطيط المركزي لشق طريق عام داخل الضفة الغربية لخدمة المستوطنين، أو إنشاء بنية تحتية لربط التجمعات السكانية (الفلسطينية والاستيطانية) بشبكة صرف صحي، فإن التعداد السكاني للفلسطينيين في الضفة الغربية كان بطبيعة الحال يدخل في حسابات المخططين الإسرائيليين لمعرفة حجم الاستخدام، توزيع الاستخدام جغرافيا وإثنيًا، وغيره.
منذ العام 1989، أضاف الكتاب السنوي العبارة الآتية: “بسبب الأحداث في يهودا والسامرة وغزة [المقصود اندلاع الانتفاضة الأولى في نهاية 1987]، كانت هناك صعوبات منذ بداية العام 1988 في جمع البيانات الإحصائية. ونتيجة لذلك، فإن جودة البيانات أضعف في عدد من النواحي مما كانت عليه في السنوات السابقة”. أما في كتاب الإحصاء السنوي للعام 1995 (والذي يغطي العام 1994)، فقد وردت العبارة الآتية: “في أيار 1994 تم نقل السيطرة على منطقة غزة ومنطقة أريحا إلى السلطة الفلسطينية. لذلك، فإن بيانات 1994 لا تشمل هذه المناطق”.[1] هذا يعني أن هناك عددا من السكان الذين يسكنون بين البحر والنهر (المقصود هنا سكان مدينة أريحا وقطاع غزة) قد اختفوا من الإحصائيات سواء لدى جهاز الإحصاء الإسرائيلي (الذي نقل صلاحيات هؤلاء السكان إلى سلطة فلسطينية لم تتمأسس بعد في حينه) أو لدى جهاز الإحصاء الفلسطيني (الذي لم يتأسس بعد في حينه). الأمر تكرر في السابق، عندما تم استثناء الإسرائيليين من سكان العريش ابتداء من العام 1979 بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفيد. وبشكل معاكس، فإن المقدسيين يظهرون بعد اتفاق أوسلو في كتابين بشكل متزامن، مرة في الكتاب السنوي للإحصاء الفلسطيني، ومرة في الكتاب السنوي للإحصاء الإسرائيلي، بحيث أن كل كتاب يعكسهم بشكل مختلف من حيث الخصائص الديمغرافية، والاقتصادية والاجتماعية. هذا يذكرنا بكتابات عالمة الاجتماع الفلسطينية أريج صباغ خوري، التي تدعو إلى تبني تحول منهجي بحيث ننتقل من اعتبار الأرشيف مصدر معلومات (أو في حالتنا كتاب الإحصاء السنوي) إلى اعتباره “موضوع بحث”، بحيث أن أسلوب جمع البيانات، والسكوت عن بعضها أو التشديد على البعض الآخر، وطرق الفصل بين الجداول قد تشكل مادة مهمة لفهم علاقة المستعمِر بالمستعمَر، وإلقاء الضوء على بعض أدوات المستعمِر في ضبط وإدارة السكان.[2]فسكان الأرض المحتلة من الفلسطينيين كانوا، مثلا، بين الأعوام 1967-1995 أفراداً موجودين بين النهر والبحر، ويدخلون ككتلة بشرية في حسابات التخطيط، الإعمار، الضبط، الاستهلاك… إلخ، وفي الوقت نفسه تم استثناؤهم كمواطنين أو مقيمين من خلال حشرهم في جداول خاصة بهم توضع بنهاية الكتاب الإحصائي ولا تختلط مع سكان إسرائيل.
ومهما يكن من أمر، فإن آخر مرة ظهر فيها الفصل 27 في كتاب الإحصاء السنوي الإسرائيلي كان في كتاب الإحصاء السنوي رقم 47 للعام 1996 (الذي يغطي العام 1995 الذي وُقعت في نهايته اتفاقية أوسلو 2). في اتفاقية أوسلو 2، والموقعة في كانون الأول 1995، تم توسيع صلاحيات السلطة الفلسطينية لتشمل كل المدن الفلسطينية بالإضافة إلى نحو 450 قرية في الضفة الغربية وقطاع غزة. في المادة الثالثة – البند الرابع، نص الاتفاق على أنه “يجب على السلطات الإسرائيلية تقديم كل المساعدة اللازمة [للسلطة الفلسطينية] بما في ذلك الوصول إلى المكاتب والسجلات والملفات والأنظمة والمعدات وجميع المعلومات والبيانات والإحصاءات اللازمة لنقل الصلاحيات والمسؤوليات”. وعليه، ضم الاتفاق المادة 34 المتعلقة بعمل جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني الذي سيشرف على “جميع مراحل التخطيط والإنتاج والنشر والأرشفة للإحصاءات من التعدادات والمسوحات في جميع مجالات الإحصاء”.
لكن عملية إحصاء السكان الفلسطينيين وتعدادهم ومسحهم في مناطق السلطة الفلسطينية لم تتحول إلى عملية مستقلة منفردة. بل إن مخططي أوسلو من الإسرائيليين كانوا على دراية بأهمية وجود سكان مستوطنين يعيشون في المكان الجغرافي نفسه الذي تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية إدارته. وبالتالي، نصت المادة 34 أيضا على أن الإدارة المدنية الإسرائيلية (التي كانت تشرف على تعداد الفلسطينيين قبل أوسلو) “ستنقل إلى الجانب الفلسطيني جميع المواد اللازمة للحفاظ على النظام الإحصائي [الذي كان متبعاً قبل مجيء السلطة] وتشغيله، بما يشمل إجراءات التقدير، ونماذج الاستبيانات، والكتيبات، وكتيبات الترميز، وإجراءات ونتائج مقاييس ضبط الجودة، وتحليل المسوح، الخرائط الإحصائية، أسلوب أخذ العينات، بما في ذلك قوائم الأسرة”.
أخيرًا، نصت المادة 34 على أن “الجهاز المركزي للإحصاء الإسرائيلي والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني سيحافظان على علاقات عمل جيدة وسيتعاونان في المسائل الإحصائية”. بيد أنه من غير المعروف ما إذا استمر هذا التنسيق أم لا، أو إذا كان قائمًا حاليا أم لا، وعلى أي مستويات. لكن المعروف أن هناك خلافات نشبت بعد تشكيك الجانب الإسرائيلي بمهنية جهاز الإحصاء الفلسطيني على الرغم من أنه معروف، حسب المجتمع الدولي والمراقبين ذوي الشأن، بالرصانة والمهنية العاليتين. مثلا، ما يعرف في إسرائيل على أنه “فجوة المليون”، يشير إلى خلاف ما بين التقديرات الإسرائيلية والتقديرات الفلسطينية حول عدد السكان الفلسطينيين، وهو خلاف ينبع من وجود فارق يصل إلى حوالي مليون في عدد السكان الفلسطينيين! ففي العام 2004، قدرت إسرائيل عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بحوالي 2.49 مليون بينما أن جهاز الإحصاء الفلسطيني قدره بحوالي 3.8 مليون.[3] لهذا السبب، ما تزال إسرائيل تتعامل على أن عدد سكان الضفة الغربية حاليا (أي في العام 2022) هو 2 مليون فقط وليس 3.2 مليون كما يقدر جهاز الإحصاء الفلسطيني.
لماذا تريد إسرائيل العودة إلى إحصاء الفلسطينيين؟
حسب ما أوردته صحيفة “يسرائيل هيوم“،[4] فإن المنطق وراء تعداد فلسطينيي الضفة الغربية يكمن في الحاجة إلى تخطيط مركزي واسع النطاق، يتعلق بالبنى التحتية، الشوارع، شبكات صرف صحي، وغيرها. ولفهم حجم هذا التخطيط المنوي القيام به في عهد الحكومة اليمينية الاستيطانية الحالية، راجع/ي نصوص الاتفاقيات الائتلافية كما ترجمها ونشرها مركز مدار (انظر/ي الرابط في الهامش).[5] وعندما تريد إسرائيل التخطيط على هذا النحو فإن العدد الحقيقي للأشخاص الذين يسافرون على الطريق أو يستخدمون تلك البنية التحتية لا ينحصر بطبيعة الحال في المستوطنين، لكنه يشمل أيضًا الفلسطينيين. والقرار بالبدء بتعداد الفلسطينيين وإحصائهم من قبل الأجهزة الإحصائية الإسرائيلية، في حال تم قبوله وتنفيذه، سيعتبر بمثابة “ضم مصغر” إذ إنه يعني إداريا بأن الفلسطينيين سيتلقون خدمات من دولة إسرائيل في مناطق معينة، وإن كان بشكل غير مباشر. يعتبر هذا من “تناقضات” البنية الاستعمارية الاستيطانية بحيث أنه، من جهة، يتم غض النظر عن الفلسطينيين الأصلانيين سياسيًا وديمغرافيًا (من خلال محوهم من التعداد السكاني والمسوحات الإحصائية الإسرائيلية وتحويلهم إلى جهاز الإحصاء الفلسطيني) لكن من جهة أخرى يتم استدعاؤهم من جديد ككتلة سكانية لها خصائص اجتماعية وديمغرافية، وهي كتلة حاضرة في الحيز المكاني الذي تسيطر عليه إسرائيل وتستخدم معظم البنى التحتية وشبكات الطرق الاستيطانية.
من الواضح أن المأزق الذي تقع فيه إسرائيل بعد انتهاجها نهج “انتهاء حل الدولتين” يكمن في عدم قدرتها على المدى المنظور في إحكام نظام الأبارتهايد على مستوى التخطيط الحيزي والبنى التحتية بسبب تداخل الخرائط وتشظي التقسيمات الإدارية بحيث أن فلسطينيين يستفيدون من الخدمات التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهذا يشمل ليس فقط الشوارع والبنى التحتية (وهي القضية التي أثارت هذا النقاش) وإنما أيضا المناطق الصناعية، النظم الضريبية، الخدمات الزراعية، وغيرها. مثلا، يمكن طرح الأسئلة الآتية: هل سيتمكن الفلسطينيون من العلاج في مستشفى إسرائيلي في حال تمت إقامة مستشفى في الأراضي المحتلة؟ وهل تجهيز هكذا مستشفى يأخذ بعين الاعتبار السكان الفلسطينيين؟ هل يقوم المستثمرون الإسرائيليون بأخذ الفلسطينيين بعين الاعتبار ككتلة شرائية عند إقامة مراكز تجارية (مثل رامي ليفي)؟ أو منتجعات ترفيهية (مثل مسابح غاليا)؟ كيف وصلت إسرائيل إلى قناعة بأن السماح للفلسطينيين باستخدام مطار رامون قد ينقذه من أزمة مالية تهدد بإغلاقه بدون أن تقوم بمسح لسكان الضفة الغربية من الفلسطينيين، وأنماط سفرهم، ووجهاتها، ومواسمها، والأهم دخلهم وأنماط صرفهم؟
أخيرًا، في ظل عدم وجود محضر اجتماع للقاء المذكور بين “وزيري” الدفاع ومجالس المستوطنات، فإنه من غير المعروف ماذا تعني إسرائيل بضرورة تعداد سكان الضفة الغربية واعتبارهم، من ناحية تقديم الخدمات، حوالي 2.5 مليون وليس فقط 500 ألف (وهو عدد المستوطنين). مثلا، من المستبعد أن تدخل طواقم جهاز الإحصاء الإسرائيلي إلى مناطق السلطة الفلسطينية للقيام بمسوحات. في المقابل، إسرائيل الرسمية لا تعترف بالأرقام التي يصدرها جهاز الإحصاء الفلسطيني (انظر/ي “فجوة المليون” أعلاه). لكن المتفق عليه هو أن تقديم خدمات واسعة النطاق للمستوطنين عليها أن تأخذ بعين الاعتبار السكان الفلسطينيين ليس فقط كرقم جاف، وإنما كبيانات كاملة تتيح التفكير والتخطيط بناء على خصائص السكان الفلسطينيين الديمغرافية الكاملة.
[1] “الكتاب السنوي لإسرائيل 1995″، كتاب رقم 46، الجهاز المركزي للإحصاء الإسرائيلي. أنظر/ي الرابط التالي:
[2] Sabbagh-Khoury, A. (2022). Settler colonialism and the archives of apprehension. Current Sociology, 0(0). https://doi.org/10.1177/00113921221100580
[3] مايكل ويز وآخرون، “ديماغوغرافيا”، 2006. أنظر/ي الرابط الآتي: https://tchelet.org.il/article.php?id=326&page=all
[4] ماتي طوخفيلد، “سيادة مصغرة، محور يتخطى وزارة الدفاع ومئات الآلاف من المستوطنين: الحكومة تخطط لثورة في يهودا والسامرة”، يسرائيل هيوم، 25 كانون الثاني 2022. أنظر/ي الرابط الآتي:
[5] راجع/ي الرابط التالي (ملف خاص):
عن المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية – مدار