هل ستسود العدالة في فلسطين حقاً؟!وما هي مسؤولياتنا لإعادة الأمل للناس؟
أخيراً، ولأول مرة منذ نكبة فلسطين وأهلها، يبدو أن دماء وحياة أهل غزة وأطفالها باتت قادرة على تحدي سيف الإجرام الذي جلبته الحركة الصهيونية لهذه البلاد، حيث وعلى مدار ما يزيد على سبعة عقود لم تتوقف جريمتا الإبادة والتطهير العرقي، رغم أنهما، ومنذ حوالي أربعة شهراً، باتتا تمارسان بصورة وحشية غير مسبوقة، الأمر الذي حرك الضمير العالمي، و شاهدنا تعبيرات ذلك في مظاهرت حاشدة عمت عواصم ومدن العالم، منددة، ليس فقط بما ترتكبه حكومة عصابة تل أبيب، بل، وبمن يساند جرائمها، خاصة في واشنطن، أو من يصمت عليها في عواصم الأنظمة التي تسير في فلكها، وتأتمر بأوامرها.
إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو و لوزير حربه السابق يوآف جالانت كشف حقيقة ما تمارسه الولايات المتحدة من تغطية وحماية لقادة اسرائيل . فما أن أصدرت المحكمة قرارها، و قبل أن يجف حبره، انتفضت واشنطن قبل تل أبيت، منددة بالمحكمة ، وخرج بعض أركانها مهدداً أبرز حلفائها في باريس ولندن وبرلين و أتاوا من مغبة التعاون مع هذا القرار، وذلك ليس فقط كمجرد تحدٍ للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، بل و مرتعشة بأن هذه السابقة، وكما قال السيناتور ليندسي جرام، بأن تطبيق ذلك سيعني أن واشنطن و قادة دول حلفائها لن يسلموا منها.
لا يُمكن إنكار حاجة أهل غزة ولو لمجرد كلمة تنصف مأساتهم المتفاقمة، فما بالنا بقرار من محكمة الجنايات الدولية يؤشر إلى المجرم المسؤول عن هذه المأساة ويطالب باعتقاله . فبالنسبة لهم و رغم أهمية هذا القرار التاريخيّ الذي يفرك أنف الغطرسة الصهيونية، التي تتصرف كأنها فوق القانون ، وما يُمثله من انتصار معنوي لشعبنا وكل شعوب الأرض، فإن ما يحتاجه أهل القطاع هو قرار فوري وملزم بوقف جريمة الإبادة المتواصلة .
دون أي مقارنة بين هذا القرار ، و قرارات أخرى صدرت عن ذات المحكمة، إلا أن الملفت في ردود الفعل حول مثل هذه القرارات هو العنصرية الكريهة التي لا تميز بين متهم وآخر فحسب، بل فإن هذه العنصرية تظهر مدى الاستخفاف بالدم الفلسطيني وأرواح الأبرياء التي أُزهقت وتُزهق فقط لأنها دماء وأرواح فلسطينية، وأن المجرم هو ربيب هذا المشروع العنصري، إلا أن ذلك و في نهاية المطاف يؤشر على أن قبضة واشنطن، التي بالتأكيد قامت بكل ما تستطيع لمنع صدور هذا القرار، لم تعد قادرة على احكام سيطرتها على الضمير الإنساني، بل، فإنها تضع نفسها في مواجهة معه، ومع ما يمثله من إرادة شعبية كونية . فالقرار يشكل خطوة مهما كانت تبدو صغيرة وأولية، فهو تعبير واضح عن تمرد شعوب الكون ضد الظلم المزمن الذي يتعرض له شعبنا الفلسطيني، وأنه لم يكن ليصدر لولا وقفة هذه الشعوب من أجل العدالة في فلسطين، وأن استمرار تغييبها بات مقلقاً لجهة المخاطر المحدقة بقيم العدالة وحقوق الإنسان، و بمضمون الحق في تقرير المصير .
هذا القرار، وانتفاضة شعوب الكون على أهميتهما، فإنه لا يعفينا كشعب وحركة وطنية أن نسأل أنفسنا عن مدى ما كان يمكن أن نفعله لرد هذه الجريمة لنحور مرتكبيها، والتصدي السياسي الموحد لأهدافها، التي بالتأكيد أصبحت ظاهرة للعيان، ولا يُمكن تعميتها ، والمتمثلة بمخططات حكومة الحرب والضم لتصفية ليس فقط قضية شعبنا وحقوقه، بل، و تصفية وجوده على أرض وطنه. فهل يُخرِجُ مثل هذا القرار القيادة المتنفذة عن ترددها في المضي بمتطلبات مضمونه حتى النهاية، وفي مقدمة هذه المتطلبات، الانتصار للضحايا، و بالتالي وضع حد لمن يحملونهم المسؤولية عما يُرتكب بحقهم من جرائم متواصلة، كما صرّح وزير الخارجية المرتقب لإدارة ترامب ، فمثل هذه الأصوات للأسف تتسرب أحياناً من بين ظهرانينا، فقط لمجرد تصفية حسابات ضيقة أو للتغطية على حالة العجز التي تسيطر عليهم، دون أن يدركوا أنهم بذلك يضعون أنفسهم في ذات الخانة التي ترتكب الجرائم و/ أو تساندها .
لا شك أن هناك تحولات دولية، وأن خروج محكمة الجنايات الدولية عن صمتها ازاء مدى بشاعة ما يتعرض له شعبنا، هي واحدة من مؤشرات هذا التحوّل، والسؤال الآخر هو إذا كانت مثل هذه المذبحة المفتوحة قد أحدثت هذا التحول في الرأي العام والمؤسسات الأممية ذات الصلة، فلماذا حتى اللحظة ما زال هناك من يعاند الحاجة الوجودية للقيام بما تستدعيه اللحظة ومخاطر التحديات من تحوِّلٍ جذري في متطلبات استنهاض طاقات شعبنا، وقدرته على الصمود والبقاء ؟ وهل من أولوية تعلو على بلورة استراتيجية عمل وأطر وطنية جامعة قادرة على متابعة تنفيذها، بما في ذلك ملاحقة المجرمين كي يجلبوا للعدالة ؟والأهم وقف المذبحة المفتوحة ضد شعبنا في مجمل الأرض المحتلة، وخاصة في قطاع غزة .
العالم بات يدرك أن استقرار و أمن المنطقة برمتها يبدأ بتحقيق العدالة في فلسطين، فهل سنكون على قدر المسؤولية التي وضعت بين أيدينا؟ ففلسطين لم تعد مجرد مظلومية، بل مفتاح لانتصار العدالة الإنسانية هنا في بلادنا، وفي أرجاء المعمورة . العالم يتغيّر بسرعة، والتضحيات غير مسبوقة فهل سنكون أوفياء للضحايا، و نستطيع أن نمنع التفريط بتضحياتهم الهائلة ؟ نعم نستطيع. والطريق لذلك واضح .فمتى سنعود لشعبنا، وننصاع لارادته بالوحدة وحاجته الوجودية لها ؟!