هل تنتفض فتح الوطنية … على فتح السلطة والتنسيق الأمني؟
![](https://www.palestineforum.net/wp-content/uploads/2023/11/اشتباكات.jpg)
![](https://www.palestineforum.net/wp-content/uploads/2020/11/خالد-الحروب-1024x927.jpeg)
احتلت فكرة وآلية وممارسة المقاومة قلب تكوين الشرعية السياسية للحركات والقيادات الفلسطينية منذ زمن الاستعمار البريطاني وحتى الآن. مقابل شرعية المقاومة كان هناك شرعيتان تحومان دوماً حول شرعية المقاومة، إما بالتوازي والتكامل، أو بالتنافس ومحاولة الاستبدال وهما، شرعية “القبول” من قبل النظام الإقليمي العربي ثم الدولي، وشرعية الانتخابات. في الوضع المثالي تتحد الشرعيات الثلاث هذه، ولا تتناقض او تتنافس، وإثرها تتبلور حالة وطنية صلبة يصعب على الآخرين تجاوزها او الاستهانة بها. لكن عندما تتشظى أوجه الشرعية تلك وتتوزع على قوى مُتنافسة في الحالة الوطنية يندرج في حالة من الإنهاك المُتبادل، يكون العدو الرابح الوحيد فيها.
دخلنا حالة التشظي هذه على نحو أو اخر منذ ثلاثين عاما، هي عمر أوسلو، ومعه دخلت فلسطين ومنظمة تحريرها وشعبها حقبة من التيه السياسي المدمر. تعمق ذلك التيه في الانقسام الفلسطيني سنة ٢٠٠٧، حيث انفصلت جغرافية وديموغرافية الأرض التي كان من المفترض ان تكون دولة فلسطينية، ومع الانقسام صار هناك شرعيتان واحدة “مقاومة” وأخرى ذات “قبول إقليمي ودولي”، وكلاهما، مع مرور السنوات، افتقدتا شرعية الانتخاب او تجديدها. حدث ذلك، قبل الانقسام وبعده، في سياق المشروع الصهيوني الاستيطاني والعنصري الذي لم يكن يهمه من اوسلو سوى وقف المقاومة، وتخليق نظام اداري يحمل عنه عبء الاحتلال، ويحظى القبول الدولي والإقليمي.
الحرب الحالية تقودنا كفلسطينيين الى مُفترق طرق: إما توحيد الشرعيات وإما تعميق انقسامها. توحيد الشرعيات معناه انتاج قيادة فلسطينية مُوحدة لا تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة فحسب، بل وتعبر عن الفلسطينيين في كل مكان (وحدة الشعب، ووحدة الأرض، ووحدة القضية والمستقبل). تعميق انقسام الشرعيات معناه الانتقال الى مرحلة ابشع من الانقسام والتذري، تعيد انتاج مواقف وسياسات ما قبل أكتوبر 2023 حيث تقديم الحزبي على الوطني، وصب الحب في طاحونة العدو. تواصلُ انقسام الشرعيات يحمي ويحافظ على الانقسام الجغرافي والسياسي، يضعف الجميع دفعة واحدة، ويستفرد بكل طرف على حدة، انهاكا واستنزافا.
هل من بداية جديدة، وهل يمكن للفلسطينيين ان يلتقطوا زمام مبادرة مستقبل فلسطينهم وشعبهم وقضيتهم بعد ان يهدأ جنون حرب الإبادة التي نراقبها؟ من أين نبدأ وكيف؟ يكمن الانسداد الكبير في المشروع الوطني الفلسطيني كما تبدى خلال السنوات الماضية في القيادة الحالية المُتنفذة لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة فتح – ذات القيادة وذات الشخوص. أي تحليل موضوعي منصف ينطلق من اية زاوية، وبعيدا عن أي مماحكات سياسية، يوصل الى نفس نقطة الانسداد. ولوضع النقاط على الحروف ومن دون أي رتوش او دبلوماسية فارغة، هذه الطبقة يمثلها أبو مازن ومن حوله من قيادات. أبو مازن هو المسؤول الأول عن تجميد وشلل المنظمة والمجلس الوطني، ومسؤول بشكل مباشر عن شل حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، ومسؤول عن تحويل السلطة الفلسطينية الى مجرد وكيل للإحتلال. هذا كله، وطيله ثلاثة عقود اوسلوية عجاف، استنزف ودمر شرعيات المنظمة وحركة فتح القائمة على تاريخ طويل وناصع من المقاومة والتمثيل الإقليمي والدولي. ظلت هناك جيوب فتحاوية رافضة، واصوات تحاول تصويب المسار، لكن وطأة الاتجاه المُتحكم به مالياً وأمنيا لم تترك أية فرصة لتلك الجيوب او الأصوات كي تتبلور تنظيميا وكيانيا في ظل الاستبداد والتفرد الداخلي. لقد فشلت دعوات التغيير المُتدرج داخل فتح والمنظمة، وما رأيناه في السنوات القليلة الماضية كان عكس ذلك، حيث المزيد من الاستفراد العباسي بكل المؤسسات الفلسطينية السياسية والتلاعب بها: الغاء المجلس التشريعي، تجميد المجلس الوطني، شل منظمة التحرير، التلاعب في تكوين مجلس القضاء الأعلى، التعيينات العشوائية والمزاجية، توسيع بطانة المنتفعين والفاسدين، وسوى ذلك كثير. في هذ الانحلال السياسي والأخلاقي المرعب ضاعت فتح كمؤسسة وحركة، وضاع تاريخها، وشرعيتها. ظل مخلصون كثر يتحرقون حسرة، ويختنقون الماً، لكن تطحنهم سياسات الزعيم الاستبدادية.
الآن وفي هذه اللحظة التي تُستعاد فيها النكبة الأولى 1948 على شكل حرب إبادة في غزة، على فتح ان تختار واحداً من أمرين: إما ان تنهض وتعيد رسم التاريخ، او الخروج منه. على فتح وعلينا ان نتذكر ان الأحزاب والحركات التي أسست دولة الكيان المحتل لم تعد موجودة، ولم تعد ذات صلة لأنها فقدت شرعياتها، وتجاوزتها الاحداث. ليس من المعقول ان تظل قيادات فلسطينية كهلة هي من تقود شعبا شابا وتواقا ومندفعا. عندما كان أبو مازن (الشاب) يؤسس حركة فتح مع بقية الرواد الأوائل في العواصم العربية وقطاع غزة في أواخر عقد الخمسينيات واوائل الستينيات، كان بن غوريون رئيسا لوزراء إسرائيل. بن غوريون شبع موتا، وجاء بعده أكثر من خمسة عشر رئيسا للوزراء، وتبدلت في أوساط الإسرائيليين تيارات وايديولوجيات وتفككت أحزاب وقامت أخرى، بينما يتربع على رأس القيادة الفلسطينية واحد عاصر بن غوريون!
اين هي نقطة البداية؟
يبدو ان هذه النقطة تتمثل في انتفاض حركة فتح على ذاتها وضرورة قيام المخلصين فيها بحركة تصحيحية وانقلاب ابيض (ليس فيه نقطة دم واحدة) يعمل على تنحية القوى المتنفذة في مصائر، وقيادة الحركة والمنظمة والسلطة. وتحديدا وبعيدا عن التعمية والغموض والنداءات الفضفاضة، على فتح ان تُقيل محمود عباس وكل بطانته وعلى رأسها حسين الشيخ وماجد فرج، وكل الدائرة التي جلبت على فتح والمنظمة وفلسطين كلها الشلل والعجز والشعور بالخزي الذي يغشانا جميعا الان. على فتح الوطن والوطنية ان تستلم زمام الحكم من فتح التنسيق الأمني والانسياق مع ما تريده إسرائيل. لقد مضى أكثر من شهر على مجزرة الإبادة التي تقوم بها إسرائيل وامريكا والغرب ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، ولم نر تحركا فتحاوياً يليق بماض وتاريخ الحركة ولا موقعها في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية. كلنا يعرف ان الأطر والقيادات الفتحاوية المُخلصة إما مُكبلة، وإما مهمشة، وإما في السجون، وإما مُترددة وتخشى انفلات الأمور. وهذه الفئة الأخيرة الناقمة على الوضع القائم من جهة، والتي تريد تغييرا آمناً من جهة اخرى، تواجه موقفا بالغ الصعوبة والدقة. لكن النهج الذي اتبعته طيلة السنوات الماضية ثبت عقمه، فلا هي أحدثت التغيير الآمن، ولا بدلت من الوضع القائم. كلنا نعرف صعوبة الخيارات ودقتها، وكلنا نعرف ان أي مغامرة غير محسوبة قد تكون نتائجها عكسية، لكن مع ذلك على فتح الوطنية ان تتحرك وتنفض نفسها وتقيل قيادتها العاجزة، لأن هذه هي اللحظة المناسبة، على خطرها الكبير، كي تعيد فتح تأسيس شرعيتها الوطنية والكفاحية، وتخط مساراً مستقلاً عن الارتباط الوظيفي، عبر السلطة وتحت ظلها، بما تريده إسرائيل وتمليه. هناك فتحاويون ابطال يستشهدون كل يوم في كل مدن الضفة الغربية، سواء أكانوا افرادا، ام من كتائب الأقصى، او الأجهزة الأمنية، لكن هؤلاء تدفعهم حميتهم الوطنية ويفور دمهم الغاضب الذي يتخطى كل ما هو مرسوم، ولا يمثلون استراتيجية فتحاوية تثور على مسار التآكل الوطني الذي استمر ثلاثين سنة على الأقل، منذ التوقيع على أوسلو عام 1993.
انقاذ فتح، وإنقاذ الجميع
ليست هذه دعوة لإنقاذ فتح فحسب، بل وللقفز وطنيا الى الامام نحو تشكيل قيادة فلسطينية ولو مؤقتة تضم الجميع الفلسطيني بما فيهم حماس، تكون هي العنوان المُوحد للفلسطينيين. انقلاب فتح على ذاتها وانتفاضها سوف يعمل على امتصاص النقمة الجماهيرية المتصاعدة الآن في الضفة الغربية، ويعيد موضعة النقمة في اتجاه البوصلة الحقيقية، ضد العدو، عوض الانحدار الى صدامات داخلية، او سيناريوهات مظلمة ومخيفة. وسوف يربك كل حسابات إسرائيل ويضغط عليها بشكل جدي كي توقف حرب الإبادة المجنونة على شعبنا في القطاع، لأن تغييرا فتحاويا جذريا يعني ضربة كبيرة توجه الى معادلة الامن التي صممتها اسرائيل طوال ثلاثة عقود. وسوف يعطي املاً للفلسطينيين في كل مكان، وفي الضفة الغربية اولاً، بأن الوضع القائم المهترئ الذي يعتمد على إسرائيل انتهى، وهناك دماء ومنظومة وطنية قيد النهوض، وإرادة لشق مسار وطني جديد لا يسير وفق املاءات العدو وتهديداته. وسوف يطلق طاقات فتح الكبيرة والمقموعة ويعيد توحيدها ولملمة اجنحتها، وتجديد روحها الثورية، ويعيد اليها القرار فيما يتعلق بمستقبلها. وسوف يفتح افقا جديدا وكبيرا لإنهاء الانقسام الفلسطيني المدمر والمخجل، وينتج قيادة موحدة تكون في موقع الصدارة ضد ما يُخطط له الآخرون خلال وبعد الحرب القائمة، بدلا من مواصلة تهميشنا. وبداية ونهاية، سوف يدفع كل الأطراف الإقليمية في المنطقة إلى إعادة حساباتها إزاء فلسطين ودورها، وعدم التفكير في تخطيها.
اما إذا انتهت الحرب وبقيت طبقة أبو مازن في السلطة وفتح والأمور على ما هي عليه فسوف نتجه جميعا الى ما هو أسوأ مما كان قائما قبل أكتوبر. كيف يمكن ان نتوقع قبولاً من حماس وقوى المقاومة في غزة بقيادة جماعية تحت رئاسة أبو مازن، الذي اختفى وبطانته طيلة المعركة؟ سوف يتعمق الانقسام أكثر، وتزداد حدته، لأن صدام الشرعيات بين السلطة وفتح من جهة وحماس من جهة ثانية سوف يستعر. وسوف تتآكل شرعية السلطة وفتح أكثر واكثر ويلتصق مشروع السلطة عضويا مع إسرائيل وعلى نحو اعمق، بينما تصعد شرعية حماس على نحو اقوى وعلى قاعدة مقاومتها وصمودها في الحرب ضد إسرائيل، وتكرس علاقاتها الاقليمية. اما الذين يعتقدون ان هذه الحرب سوف تنهي حماس وبالتالي يأتون لحصاد اليوم التالي فهم واهمون بالفعل. التاريخ الفلسطيني الحديث، كما التاريخ عموما، يقول لنا ان من ينتهي فعلاً في حروب المقاومة والتحرير هو من يقف متفرجا، وان من يقاوم يخرج منتصرا حتى ولو بعد حين، وما معركة الكرامة ودور فتح فيها عنا ببعيدة.