هل تعتقد المعارضة الاسرائيلية أن خطر الأصولية اليهودية سيقتصر على الشعب الفلسطيني؟!

الملفت  عند  متابعة  الجدل  الداخلي الاسرائيلي خصوصا والصهيوني عموما ، بشأن  تطور  الأحداث منذ  تولي  الائتلاف  اليميني الديني الصهيوني مقاليد الحكم في المستعمرة الصهيونية قبل أربعة أشهر، وردود الأفعال الامريكية والغربية على مجرياتها، العجز  الكامل عن إدراك الخطر الوجودي الكامن فيما  لو تمكنت القوى الأصولية اليهودية من حسم الصراع  الداخلي لصالحها . والتي لن تقتصر  تداعياته  – كما  تأمل  قوى المعارضة الصهيونية  على اختلاف  أطيافها ، وحلفائهم الامريكيين والغربيين  – على الشعب الفلسطيني وحده  .

فالصراع  المحتدم في الساحة الاسرائيلية  للشهر الرابع على التوالي لا يماثل الصراعات  الداخلية  المألوفة  بين  مراكز  القوى على القيادة والنفوذ . وعليه فلن تقتصر نتائجه  كما  تعتقد المعارضة ومناصريها  على أنماط الحياة ومنظومة القيم الديموقراطية الغربية التي يتشاركها يهود إسرائيل مع الغرب . وهم ذاتهم الذين سبق وأن لفظتهم المجتمعات الأوروبية المأفونة بالعنصرية وعقدة تفوق العرق الآري وأحقيته في تسيد العالم ، واقتلعتهم بالقوة  قبل ثمانية عقود من أوطانهم الأصلية ، وأعادت توطينهم في فلسطين لتحقيق طموحاتها  الاستعمارية التوسعية وبسط سيطرتها الكونية. 

وتوافقت ، آنذاك ، مع  القوى الرأسمالية اليهودية المتنفذة على تبادل المنافع ، عبر مقايضة حاجة القيادات الأوروبية الضاغطة لتصدير المسألة اليهودية المتنامية خارج أوروبا بفعل تفاقم العنصرية  . بحاجة القيادات اليهودية لاحتكار حق تمثيل وقيادة يهود العالم، من خلال توظيف الأساطير الدينية لإنشاء مركز استعماري استيطاني لليهود في فلسطين ، يقوم  بدور وظيفي كقاعدة استعمارية غربية متقدمة للسيطرة على عموم المنطقة العربية – الإسلامية الممتدة ، التي تقع في مركز العالم ، وتشرف على خطوط  التجارة والملاحة والاتصالات الدولية ، وتمتلك ثروات طبيعية ومعدنية وفيرة ، ووقود أحفوري يمثل عصب الاقتصاد الدولي .

ثم قامت بعد انتصارها  في حربين كونيتين ، بإدراج  تنفيذ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الخاص – باستبدال فلسطين بإسرائيل، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني بالمستوطنين اليهود المقتلع غالبيتهم الساحقة بالقوة من أوطانهم الأصلية لإحلالهم مكانهم – بالمشروع الاستعماري الغربي العام  للاستيلاء على إرث الامبراطورية العثمانية الآيلة للسقوط .

واستحدثوا معا كيانا  استعماريا  استيطانيا صهيونيا يرتكز على منظومة فكرية وقيمية عنصرية  توجهها عقيدة التفوق العرقي للجنس الأبيض / الآري- الانغلو ساكسوني/. والتفوق اليهودي على الأغيار .

وتعاون العنصريون الغربيون وضحاياهم  اليهود  في إقامة نظام يحتكم إلى ذات الأسس  الفكرية والعقائدية العنصرية الغربية. وينتهج أساليب الإبادة والتطهير العرقي ذاتها بحق السكان  الفلسطينيين الأصليين المستهدفين بالاقتلاع  من وطنهم، والتنكر لحقوقهم الوطنية والتاريخية والإنسانية .

واللافت في خروج مئات آلاف الاسرائيليين إلى الشوارع للدفاع  عما أسموه الديموقراطية الاسرائيلية، ضد سعي الأصوليين اليهود لتوظيف نتائج الانتخابات الأخيرة لتأبيد سيطرتهم على الحكم . والتدخل الامريكي والغربي السافر وغير المسبوق في الصراع المحتدم  بين القوى المتصارعة داخل المستعمرة الصهيونية بدعوى الحفاظ على النظام الديموقراطي الصهيوني . ما يبدو  وكأنه صحوة  مفاجئة على  حقائق  جديدة . رغم  إسهامهم جميعا  في تشكيل وقائعها على مدى أكثر من قرن . من خلال تسييس الدين  اليهودي وتوظيف الأساطير التوراتية لخدمة الأهداف السياسية. وعبر رعاية أجيال مأفونة  تعتقد بأن الخالق اصطفاها  على سائر خلقه وكلفها بإخضاعهم. وتدريبهم وتزويدهم بالسلاح والمال وتوفير الحماية الرسمية لاعتداءاتهم  المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني الأصيل ، والاستيلاء على أراضيه وممتلكاته واستباحة دمه .

وكأنهم لم يدركوا  أن إخراج  المارد الأصولي – الذي صنعوه  بأنفسهم   ورعوه على مدى أكثر من قرن وما يزالون – من القمقم . سيطال ، أيضا ، كل من يقف في طريقه .

فلم  يتبصروا  الخطر  الماثل عندما قتل الأصوليين اليهود رئيس  وزرائهم اليهودي المنتخب  إسحق رابين ، لاعتقادهم  بتنفيذ تكليف إلهي  يقتضي  محو  كل من يعتقدونه  عقبة أمام استكمال تنفيذ مشروعهم التوراتي . ولم يلحظوا ، حينذاك،  أن كل فتاوي حاخامات اليهود بحرمة الدم اليهودي  لا تمنع سفك دماء من يعترض طريقهم حتى لو كانوا يهودا  .

ولم  يؤد  تنامي وتراكم المؤشرات الدالة على تزايد الثقل الديموغرافي والتوسع الجغرافي للأصوليين اليهود  وتنامي قوتهم  التدميرية  إلى صحوة  يهود إسرائيل ورعاتهم الدوليين ، لاعتقادهم جميعا  بأنهم  يؤدون  دورا حيويا  مرغوبا  في  توسيع  حدود  المستعمرة الصهيونية . ولم تر الغالبية الساحقة من يهود إسرائيل في السلطة والمعارضة على السواء . وداعميهم الامريكيين والغربيين  غضاضة في  تواصل تنامي التيار الأصولي ، طالما أدى دوره  الوظيفي الاستعماري الاستيطاني المرغوب في استئصال  وتغييب وإخضاع  نقيضه الفلسطيني .

وتظهر  نتائج متابعة الجدل الاسرائيلي والغربي حول تطورات الصراع  المحتدم في المستعمرة الصهيونية ، أن  جل  ما  يقلق  الولايات المتحدة الامريكية والغرب الاستعماري واليهود العلمانيون في سيطرة الأصوليين اليهود والصهيونية الدينية على نظام الحكم في المستعمرة الصهيونية . لا يطال من قريب أو  بعيد حرب الإبادة والتطهير العرقي الجارية بتسارع ضد الشعب الفلسطيني على امتداد مساحة فلسطين  الانتدابية . ولا  المشروع  التوسعي الذي  يعلن عنه قادتهم  ويستهدف  تمدد المستعمرة  الصهيونية جغرافيا في الجوار العربي  أو ما يسمونه ” أرض إسرائيل” التي تمتد حدودها من الفرات إلى النيل  وتشتمل بالإضافة لفلسطين الانتدابية كامل المملكة الاردنية الهاشمية واراض مصرية وسعودية  وسورية ولبنانية. والتي بالمناسبة لا يعترض عليها الأمريكيون وعموم الغرب ، طالما حافظوا على روابطهم الاستعمارية ، واحتفظوا بالدور الوظيفي  المناط بهم  . بمعنى أن القلق  لا يطال جوهر المشروع  التوراتي الذي يحظى بتوافقهم جميعا . ولا يتعدى الصراع  التنافسي البيني على الدور القيادي ومناهج تنفيذ  ذات المشروع  الاستعماري التوسعي بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا .

ما  يقلقهم  ويستنفرهم جميعا  ويحفزهم للنزول  إلى الميادين بمئات الآلاف ، بروز النزعة الاستقلالية المتنامية للأصولية اليهودية  بعد التنامي المتسارع  لقاعدتها الديموغرافية ، وتعاظم امتداداتها  الخارجية في الولايات المتحدة الامريكية وعموم الغرب ، وشروعها بالتمرد على منشئيها ورعاتها العلمانيين ، بعد استنفاذهم للمهمة الرئيسية بإنشاء الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني وتثبيته وتمكينه في فلسطين خلال القرن الماضي . والذي بات يمتلك  قوة  عسكرية واقتصادية وازنة ، وسلاحا نوويا لا يخضع  للرقابة  الدولية ،  ما يؤهله  بتقديرهم  للتقدم بثبات باتجاه تحقيق مشروعه التوراتي والتسيد الإقليمي ، والتأهل للشراكة المتساوية مع القوى الدولية المتنفذة.

وما تزال النخب الإسرائيلية والأمريكية والغربية خصوصا ، والدولية  عموما  عاجزة  عن فهم  وإدراك المخاطر  الوجودية للصراع المحتدم  في المستعمرة الصهيونية ،على الرغم من توفر  الدلالات على اختلافه جوهريا  عما عرفه التاريخ الإنساني المدون من صراعات سياسية واقتصادية واجتماعية وطبقية، وإن وظفها ببراعة بالغة . ويتمايز  عما ألفته البشرية  من تمرد الأجيال الجديدة على الأسلاف – عند توفر موجبات التمرد وشروطه الذاتية والموضوعية – فتتيح  الفرصة عند استكمال جاهزية الجديد لتولي القيادة  وتبادل الأدوار  بإجبار القديم على التنحي والخضوع للجديد ، كما حدث عند  انقلاب المستعمرة الأنغلو – ساكسونية في الولايات المتحدة الامريكية على الامبراطورية البريطانية . وكما شهدناه  فلسطينيا بانقلاب السلطة الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية ، وانقلاب حماس عليهما معا  .

فالصراع  المحتدم في المجمع  الاستيطاني الصهيوني ، وإن بدى  ظاهره سياسيا  وتنافسيا  على الحكم ،  مغاير  لما اعتدناه في الصراعات بين مراكز القوى . وهو بالمقام الأول صراع عقائدي ذو بعد كوني شديد الشبه بالنموذج  الداعشيي . مع فارق جوهري بأن المشروع الأصولي اليهودي يختلف جذريا عن النموذج الداعشي  لجهة استقلاله الذاتي وتشعباته الكونية ، ما يحرره من دائرة السيطرة  التي خضعت لها داعش تخطيطا وتنظيما وسلوكا ، وأبقاها ، بذلك ، في دائرة  وحدود الدور الوظيفي عندما تحتاجه القوى الإمبريالية لتحقيق أهدافها ،  وتوفرت بذلك إمكانية إنهائه عندما يستنفذ أغراضه . 

وهذا الفارق  المهم. هو  الذي  يكسب الصراع الجاري في المستعمرة الصهيونية  طابعا وجوديا  ، يجعل من المتعذر  مهادنته  والوصول إلى حلول وسطى معه  عبر الحوار  . وهو ما   تزال تعجز عن إدراكه  جميع قوى المعارضة الاسرائيلية والقوى الدولية الداعمة لها .  و ما تزال  تعتقد  بإمكانية محاصرة أخطار التيار الأصولي اليهودي عبر مساومته بإطلاق يده ضد الشعب الفلسطيني . واسترضائه  بمليشيات  مسلحة تشرعها وتمولها الدولة ، وقوانين تقرها  الأغلبية الساحقة  لاستثناء  7 مليون فلسطيني  في فلسطين الانتدابية ، ليس فقط من نفاذ القانون الدولي  والإنساني  كما هو جار  حاليا . وإنما ، أيضا ، من نفاذ القانون الاسرائيلي  ذاته ، رغم  ما يتضمنه من منظومة قوانين عنصرية .

والملفت استمرار   عجز النخب الصهيونية  واليهودية العلمانية  والمفكرين  الذين  يحتجون  بمئات الآلاف  للأسبوع الثالث عشر على التوالي ،  وإخفاقهم  في فهم  أبعاد الخطاب الصريح   والشعارات والأهداف التي  يجاهر  بها  الأصوليون  اليهود  ، ومواصلة تجاهلهم  حقائق الواقع الذي آلت إليه المستعمرة  الصهيونية ، والمخاطر الوجودية التي  باتت تتربص بهم  ، أيضا ، وليس فقط بالشعب  العربي الفلسطيني . الذي يتوافقون  مع التيارات الأصولية  على اعتباره  عدوا وجوديا  يتوجب استئصاله ، ويعتقدون بإمكانية  التعاون  معه لإنجاز  المهمة والنجاة  بأنفسهم .

ولا يتعظون من  حكم التاريخ  رغم دلالاته التي تؤكد على حقيقة ” أكلت يوم أكل الثور الأبيض ” وأن من لا يستشعر  تشابه مصيره بمصير غيره ،  يقع بعد فوات الأوان  في ذات المصير .

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *