هل انتهى زمن منظمة التحرير؟

 

بات البحث في مسألة منظمة التحرير الفلسطينية، مكانتها التمثيلية، ودورها الكفاحي، من الموضوعات العتيقة، أي المتقادمة، او البالية، التي لم تعد تعني شيئا ملموسا، سوى الحنين إلى الماضي، تبعا لما وصلت إليه اليوم، بعد 58 عاما على نشوئها (علما إنها تأسست في 28 أيار/مايو 1964).

ثمة أسباب عدة ترجح ذلك، أولاً، بحكم التحولات الحاصلة، فتلك المنظمة نشأت في زمن الكفاح المسلح، وفي الخارج، وفي زمن عربي ودولي مختلف، في حين لم يعد لديها اليوم أي غطاء أو وجود في الخارج، وباتت من دون أي صلة بمجتمعات اللاجئين خاصة في الأردن ولبنان وسوريا، لأسباب عديدة. ثانيا، بواقع التغير في معنى ومبنى الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ أضحت مجرد سلطة على شعبها، في الأراضي المحتلة (الضفة والقطاع)، مع تهميش، أو إزاحة، المنظمة، التي باتت مجرد كيان شكلي أو استخدامي. ثالثا، بسبب اختزال قضية فلسطين، من السردية المتأسسة على حدث النكبة (1948)، المتمثلة بإقامة إسرائيل، وولادة مشكلة اللاجئين، وحرمان الفلسطينيين من كيانيتهم وهويتهم الوطنية، إلى السردية المتمثلة بالاستقلال في دولة في الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران (يونيو 1967)، علما إن تلك الحركة كانت انطلقت قبل ذلك الاحتلال؛ وتلك هي السردية الرسمية للقيادة الفلسطينية بعد التحول إلى سلطة (راجع مقررات المجلس الوطني والمجالس المركزية سيما في السنوات الأخيرة).

ومع تأكيد أن العوامل الموضوعية لعبت دورا كبيرا في تهميش المنظمة واستبعادها، او تحويلها إلى كيان بلا معنى، فإن ذلك لا يحجب، أو لا يغطي، على مسؤولية القيادة الفلسطينية في هذا المسار، فهي التي سهلت وأسهمت، أكثر من غيرها، في تهميش المنظمة، بسياساتها وخياراتها وطرق إدارتها للعملية الوطنية الفلسطينية.

الآن، في السجال حول مسألة المنظمة، مكانتها ودورها وضرورتها، وإصلاحها أو إعادة بنائها، ثمة أربعة تساؤلات تتمحور حول قضايا: الإنجاز، والشرعية، والتمثيل، والبديل، تحدد الموقف من المنظمة.

أولا، فيما يتعلق بالإنجاز، فمما لا شك فيه أن إنشاء المنظمة، ونيل الاعتراف العربي والدولي بها، ككيان سياسي للشعب الفلسطيني، بفضل كفاح هذا الشعب، في أواسط السبعينيات، أي قبل حوالي أربعة عقود، كان انجازا تاريخيا بامتياز، للحركة الوطنية الفلسطينية. بيد إن هذا الانجاز لم يجر البناء عليه، وتدعيمه، وتطويره، كي تصبح المنظمة فعلا ممثلة لكل الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، بطريقة تمثيلية ومؤسسية وديمقراطية. وكما شهدنا فإن المنظمة أضحت إطارا للفصائل، وفق نظام “الكوتا”، على حساب تحولها إلى كيان سياسي فاعل، وعلى حساب مكانتها التمثيلية في مجتمعات الفلسطينيين، سيما أنه مع الزمن، باتت معظم تلك الفصائل فاقدة لفاعليتها ولمكانتها ولدورها. بالنتيجة فإن ذلك الانجاز المتحقق في أواسط السبعينيات، تآكل، أو بات من الماضي، بانتهاء العمل الوطني الفلسطيني من الخارج، ومع إقامة السلطة (1993)، وانحسار مكانة اللاجئين، ومع الانقسام الفلسطيني الحاصل. وأخير فإن تلك المنظمة باتت مجرد يافطة لتغطية السياسات التي تنتهجها القيادة الفلسطينية، والتي تتناقض مع المفهوم الذي قامت عليه المنظمة لجهة وحدة الشعب والأرض والقضية، بل إن المنظمة باتت أداة طيعة للسلطة، التي ضيعت، أكثر من غيرها، هذا الانجاز، أي إن ذلك الانجاز المتحقق في الماضي، لم يعد انجازاً اليوم.

ثانيا، في ما يخصّ التمثيل، فقد كان من المفترض أن ثمة تطابق بين المنظمة التي تمثل الشعب الفلسطيني، في كل أماكن وجوده، والخيارات والرؤى السياسية التي تتبناها قيادة المنظمة، إلا أن ذلك الأمر لم يتوفر من الناحيتين. فالمنظمة ليس فقط لم تستطع استيعاب تمثيل فلسطينيي 48 في داخلها، حتى بعد تحولها نحو الحل السياسي، والكفاح الشعبي، ووضعها الكفاح المسلح جانبا، وإنما هي أيضا لم تعد تستوعب تمثيلات مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين أيضا، ناهيك عن الخلل الكبير في التمثيل، الذي لا يتم بالطرق الديمقراطية، وإنما وفق حسابات فصائلية.  أما على صعيد الرؤى، فكما قدمنا فإن قيادة المنظمة ذهبت نحو خيار حل لجزء من الشعب في جزء من الأرض مع جزء في الحقوق، أي باتت تفتقد لرؤية وطنية جامعة، تتمثل المطابقة بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، ما ينتقص من مكانتها ودورها.

الفكرة هنا أن القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، تكيفت مع ما تريده اسرائيل، باختزال الشعب الفلسطيني، أو بالتعاطي معه ليس بدلالة وحدته كشعب، ووحدة قضيته، وإنما بدلالة اعتبارات إسرائيل له، في حين إن هذه (إسرائيل) تتعامل، من الناحية العملية، مع الشعب الفلسطيني وقضيتة كوحدة واحدة، وكعدو، وإن بسياسات مختلفة تقوم على الازاحة والتهميش والمحو.

 ثالثا، الشرعية. لعل أكثر شيء يحاجج فيه من يعتقدون أنه يدافعون عن المنظمة كإنجاز هو أنها الكيان الذي يحظى على شرعية عربية ودولية، لكن هؤلاء يتناسون أن تلك الشرعية كانت تأتت للمنظمة بعد نكوصها عن روايتها المؤسسة، وبعد تحولها نحو البرنامج المرحلي (1974)، وبعد أن أضحت بمثابة نظام من الأنظمة، ومع تماهيها مع الرؤية العربية الرسمية والدولية لقضية فلسطين، كقضية أراض محتلة عام 1967. كما يتناسى بعض أخر من هؤلاء أن شرعية المنظمة أعطيت لها من النظامين العربي والدولي، ونتيجة استجابتها للمعايير السياسية المطلوبة، مع كل الاحترام للنضالات والتضحيات، فهذا شأن أخر.

المعنى هنا أنه لا يمكن لأحد، سيما في الظروف الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية الراهنة أن يأخذ، أو أن ينتزع، الاعتراف، لذا لا جدوى، وليس ثمة امكانية لأحد لمصارعة القيادة الفلسطينية في ملعبها، أي مصارعتها على شرعية ممنوحة لها، أو مستمدة، من النظامين العربي والدولي. والفكرة هنا أن من يريد أن يصارع على بناء المنظمة، أو بناء الكيان الفلسطيني الجامع، مهما كان اسمه، عليه أن يتحرر من فكرة الصراع على الشرعية الدولية والعربية، أو الاستحواذ عليها، لأنه في ذلك يتحرر من قيود تلك الشرعية.

باختصار فإن المسألة هنا تتعلق بتعريف ماهية القضية الفلسطينية، وماهية المشروع الوطني، فإذا كانت القضية اقامة دولة في الضفة والقطاع، ونسيان قضية فلسطين، وأن إسرائيل هي المستوطنة الأم، فإن ذلك ينسجم مع العمل للصراع على الشرعية العربية والدولية، ومنازعة أبو مازن عليها، والبقاء عالقين معه في ذات الصندوق؛ وهذا أكثر ما يريحه في الواقع.  أما إذا كان المشروع الوطني الفلسطيني ينطلق من وحدة الشعب والارض والقضية والرواية التاريخية فهنا يصبح الأمر مختلفا، ويتعلق ببناء المعطيات التي تمكن من انتزاع ما امكن من الشرعية.

 رابعا، كل تلك المقدمات ليس الغرض منها الحديث عن بديل، وكأن ثمة بديل في الجيب، أو على الدفتر، ولكن الغرض منها الإضاءة على تعقيدات وإشكاليات الواقع الفلسطيني، وضمنه المكانة الحرجة التي أضحت لمنظمة التحرير. أما بخصوص البديل فثمة عدم يقين في ما هو المطلوب لدى كثر ممن يطرحون ذلك. ومثلا، هل المطلوب إصلاح المنظمة؟ لكن كيف؟ ومن يملك القدرة أو القرار غير قيادة المنظمة، وهي لا تريد ذلك؟ ثم أية منظمة يفترض استعادتها، هل هي المنظمة الواقعية أم المنظمة المتخيلة؟ هل مطلوب استعادة المنظمة التي كانت، أم المنظمة التي نرغب، أم المنظمة الممكنة؟

المطلوب في هذا الزمن، وفي المعطيات الدولية والعربية والفلسطينية الراهنة، الحث على خلق مسار جديد يتأسس على التحرر، أو القطع، مع الصندوق المفاهميي والكياني الذي تم اسر العمل الوطني الفلسطيني، والذي تستغله القيادة اسوأ استغلال، والذي بات يضر الشعب وقضيته، وإعادة بناء البيت الفلسطيني على أسس وطنية وتمثيلية وديمقراطية، ووفق رؤية تستعيد المطابقة بين الشعب والقضية والأرض والرواية التاريخية.

حاشية أخيرة لابد منها، وهي أن الخوف على منظمة التحرير لا يأتي من منتقدي القيادة، وانما من القيادة ذاتها، التي ترى نفسها كسلطة، أكثر من كونها قيادة حركة تحرر وطني، سيما أنه هي، كصاحبة القرار، أكثر طرف اضعف المنظمة وأضر بها.

عن درج

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *