هل اقتربت نهاية حقبة نتنياهو؟

المشهد الداخلي المعقّد والمتشابك والمشرذم والشديد الحساسية في إسرائيل هو إلى حدّ بعيد انعكاس للوضع الإشكالي لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. تفاقم الوضع الداخلي وتزايد حدّة المواجهات بين أحزاب اليمين الحاكم والسلطة القضائية في إسرائيل دفعا أخيراً رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت إلى التحذير من أن إسرائيل على حافّة الحرب الأهلية، ففي خضمّ حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل بتوجيهات من نتنياهو ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة منذ أكثر من سنة ونصف السنة، وسياسة الاقتحامات والاغتيالات والتهجير، التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضدّ سكّان المخيّمات، في جنين وطولكرم في الضفة الغربية، والاعتداءات الإسرائيلية التي لا تتوقّف على جنوب لبنان بحجّة تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، ونزع سلاح حزب الله… في ظلّ هذا كلّه يخوض نتنياهو حرباً داخلية لا تقلّ شراسةً دفاعاً عن بقائه السياسي ضدّ خصومه في الداخل الإسرائيلي في أكثر من جهة.
أضيف إلى قائمة المُستهدَفين من نتنياهو أخيراً، الطيارون في الاحتياط الذين طالبوا بوقف الحرب وتحرير المخطوفين
والمُستهدَفون في حرب نتنياهو الداخلية كُثر، وفي طليعتهم المنظومة القضائية، سيّما المحكمة العليا، التي كانت حتى قبل نشوب الحرب على غزّة هدفاً لـ”الإصلاح القضائي”، الذي اقترحه وزير العدل في إسرائيل لتقليص صلاحيات السلطة القضائية، وتعزيز صلاحيات السلطة التنفيذية، وكان سبباً في اندلاع موجة احتجاجات شعبية ضدّ هذه الإصلاحات، وضدّ نتنياهو نفسه. الهدف الثاني ما يُطلق عليه نتنياهو اسم “الدولة العميقة”، وهم الموظّفون الكبار في الدولة، الذين في رأيه لا ينصاعون لإرادته وإملاءاته، ولا ينفّذون أوامره، وفي طليعتهم المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهاراف – ميارا، التي طلب إقالتها، ورئيس “الشاباك” (الاستخبارات العسكرية) رونين بار، الذي اتخذت الحكومة أخيراً قراراً بإقالته من منصبه، الأمر الذي أثار خلافات كبيرة بعد رفض المحكمة العليا قرار الحكومة بالإقالة واستمرار رئيس “الشاباك” في أدائه مهمّاته في ظلّ دعوات من وزراء في الحكومة بمقاطعته ومنعه من المشاركة في النقاشات الأمنية. وأضيف إلى هؤلاء أخيراً الطيارون في الاحتياط، الذين وقعّوا عريضةً طالبوا فيها بوقف الحرب وتحرير “المخطوفين”، الأمر الذي دفع نتنياهو إلى اتهامهم برفض الخدمة الذي يوازي “خيانة” في زمن الحرب. وبالطبع هناك أحزاب المعارضة الإسرائيلية الذين يتعرّضون إلى هجمات لا تتوقّف، وهناك بالطبع استمرار محاكمة نتنياهو بتهم رشى وفساد.
ولكن قائمة المُستهدَفين في حرب نتنياهو أوسع بكثير، وهي تطاول عائلات المحتجزين لدى المقاومة الفلسطينية الذين يتعرّضون بيد “آلة السموم” التي تعمل لصالح نتنياهو إلى الهجوم والتجريح الدائمَين، والذين يتّهمون بالمسؤولية عن إشاعة روح التخاذل والانهزامية من خلال دعوتهم إلى وقف الحرب، ويُحرَّض ضدّهم أهالي الجنود الذين قتلوا في أثناء الحرب في غزّة، وتصوّر المطالبة بوقف الحرب من أجل تحرير المخطوفين بمثابة “خيانة” للذين ضحّوا بحياتهم. ذلك كلّه يفاقم في انقسام المجتمع الإسرائيلي بين من يعتبر تحرير المخطوفين أولويةً وبين من يعتبر الانتصار في الحرب أكثر أهمّيةً من حياة المخطوفين بعد الخسائر الكبيرة البشرية التي مُني بها الجيش الإسرائيلي.
بالطبع، هناك الحرب التي يخوضها نتنياهو ضدّ الذين يطالبون بتشكيل لجنة تحقيق رسمية للتحقيق بالإخفاقات التي أدّت إلى هجوم 7 أكتوبر (2023) على إسرائيل، في ظلّ رفض نتنياهو الصارم الاعتراف بمسؤوليته عن هذا الإخفاق، وتحميله الجيش والأجهزة الاستخباراتية المسؤولية الكاملة. لكن قائمة المتاعب الداخلية لا تنحصر في جبهة خصومه، بل يواجه أيضاً مشكلة داخل ائتلافه الحكومي، الذي يعتمد على أحزاب اليمين القومي المتطرّف وعلى الأحزاب الدينية التي وعدها بإقرار قانون يعفي الشباب المتديّنين من الخدمة في الجيش الإسرائيلي، بينما تزداد النقمة الشعبية داخل إسرائيل ضدّ المتهرّبين من الخدمة، ومن عدم المساواة في تحمّل عبء القتال بين فئات الشعب الإسرائيلي كلّها، في ظلّ الحرب المستمرّة منذ أكثر من عام ونصف العام.
يخوض نتنياهو حرب بقائه السياسي مستعيناً بما أصبح متعارفاً عليه في إسرائيل “آلة السموم” التي بناها، وهي المؤلفة من الأبواق الإعلامية التابعة له من قنوات إخبارية وصحافيين ومزوّرين للحقائق، وجيوش إلكترونية يرفدها دعم كبير من سياسيين وأعضاء كنيست ووزراء من الليكود ومن اليمين المتطرّف الكهاني المسياني ومن اللوبي الاستيطاني. كما يعتمد نتنياهو، في ترسيخ وتدعيم صورته زعيماً أوحد للإسرائيليين، على الدعم غير المحدود الذي يحظى به من إدارة دونالد ترامب، وأيضاً على تأييد اليمين الأوروبي مثل نظام أوربان في المجر حيث حظي نتنياهو أخيراً باستقبال “ملوكي”.
يعتمد نتنياهو في ترسيخ صورته زعيماً أوحد للإسرائيليين على دعم ترامب غير المحدود
هذه البنية المعقّدة والمتشابكة، التي يعتمد عليها نتنياهو في حرب بقائه السياسي وفي تلميع صورته داخلياً وخارجياً، تعرضت إلى هزّة قاسية في الاجتماع الأخير الذي جمعه مع الرئيس دونالد ترامب، حين فاجأه الأخير بخبر البدء بالمفاوضات المباشرة مع إيران، الأمر الذي زعزع للمرّة الأولى منذ فترة ثقة نتنياهو بنفسه، وبمكانته لدى الرئيس الأميركي. ولقد انعكس هذا فوراً على صورته في الداخل الإسرائيلي، وزاد في حدّة الجدل بشأن سياساته وإدارته، فقد ظهر كأنّه تابع (وخاضع) للرئيس الأميركي، وغير قادر على قول كلمة واحدة اعتراضية خشية من أن تجرّ عليه غضب ترامب. ومرّة أخرى، انقسمت الآراء في الإعلام الإسرائيلي، بين من اعتبر الاجتماع “صفعةً” لنتنياهو ومن اعتبر أن نتنياهو كان “محظوظاً” مرة أخرى، وحظي بمعاملة خاصّة، لأنه التقى مرّتين مع الرئيس ترامب في غضون أشهر معدودة.
مَن يتابع النقاشات الإسرائيلية في ظلّ تفاقم الخلافات بين أطراف السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية وأطراف عديدة، يتكوّن لديه انطباع بأن الإسرائيليين تعبوا من مكائد نتنياهو وخلافاته ووعوده التي لم يفِ بها. فقد وعدهم منذ أشهر بأنهم على بعد مسافة قصيرة من النصر المطلق، الذي لم يحدث، كما وعدهم بإطلاق جميع المحتجزين الأمر الذي لم يتحقّق. وفي الأثناء، يعاني الاقتصاد الإسرائيلي جراء النفقات الهائلة للحرب، وأخيراً جرّاء الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب، وأغلبية الجمهور لا تعرف تماماً الهدف من عودة الجيش الإسرائيلي إلى القتال في غزّة، وإلى متى سيستمر ولا كيف سينتهي.
تفيد استطلاعات الرأي بأن حزب الليكود (برئاسة نتنياهو) ما يزال في الصدارة، لكن ثمّة تساؤلات كثيرة، حتى لدى مؤيّدي نتنياهو، بشأن إدارته لشؤون دولة إسرائيل، مع تزايد منسوب القلق وعدم اليقين. فهل اقتربت نهاية حقبة حكم نتنياهو؟