هل اعتدت العيش في الحرب؟!

“كان لا بد أن يمر وقت ما حتى نعي حجم الكارثة وحدودها، قبل أن تتضح ملامحها ونتمثلها في نفوسنا وواقعنا المشهود، قبل أن نصوغ لها مصطلح “النكبة” نكبة فلسطين. وندرك أننا جيلها وشهودها وضحاياها، كان يجب أن يتحول ذلك الحاضر إلى ماضٍ، نعيش في امتداداته وتفاعلاته، قبل أن تعلن الذاكرة وحدها، أنا كنا نعايش نشوء النكبة، وضياع جزء عزيز من الوطن، أما في ذلك الحين، وفي غمرة التعامل مع التفاصيل الشخصية المفزعة، التي خلقتها الظروف المتجسدة كان الذهول هو الحالة السائدة، ذهول الدوامة التي تحتويك تماماً، وتشل وعيك حتى لا تستطيع أن تقدّر حدود ما أنت فيه، فقط حينما تخرج من الصدمة الأولى، حين يفصلك الزمن عنها تدرك أبعادها الكاملة المرعبة”.

يأتي هذا المقطع على لسان علي اليونس في مسلسل التغريبة الفلسطينية. كان المسلسل الاستنتاج الأول للحكاية الفلسطينية في ذاكرة مراهقة حين عُرض للمرة الأولى، وصار المسلسل الشاهد الوحيد أمامي، والمرجع لفكرة النكبة المرئية والواقعة والممتدة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية. يمر بخاطري هذا المقطع بالصوت نفسه، فيما أجلس على عربة يجرها “حمار” متعب، يسقط بعد خطوتين أو ثلاثة، يحاول أن يدفعه السائق “السائس” ليظهره أمام منافسيه السائسين أفضل حيوان. 

يدلّله تارة، ويضربه مرة، وتسمع من الركاب جملاً تشجيعية، الجميع يشارك في دفع الحمار نحو الطريق، في حالة من الذهول التي تجعلك شاهداً على مقامرة بحق هذا الحمار وغيره من الحمير، وسط غوغاء السائقين وضجيجهم، الذين يشاركون في مزاد التقاط العائدين إلى مواقعهم الخيام، البيوت، والبيوت المؤقتة. 

ومن الجنوب طريق العودة إلى البيت المؤقت، تطل أشجار النخيل في أكثر المشاهد سحراً حقيقياً تشهده عيناك. 

نخيل ممشوق القوام، أغصانها مجدولة على الجانبين خالية من ثمار البلح، لكنها تشارك في التمايل على بعضها بعضاً، تحركها نسمات الشتاء الخفيفة وقوامها ثابت منضبط من خلفها، يظهر لون الأرجوان العظيم للغروب في الشتاء، سحر عظيم تهديك إياه الطبيعة كاعتذار عن كل ما يُغرقك فيه الخراب. 

على العربة يمر هذا العبث، العربة يجرها حمار ضعيف البنية، على العربة أربع نساء ورجلان وثلاثة أطفال وأنا الخامسة، أتشارك مع الركاب التكدس، تتنازل عن تذمرك وتنشغل في سحر مشهد الغروب ولونه الأرجواني. يبدو ذلك وقتاً مناسباً لتفعيل حيلتي، منذ أن صارت العربات هذه بديلاً مفروضاً وأمراً واقعاً، استعرت حيلتي من إحدى دروس القراءة من قصة “ماما تحلق”، إحدى القصص التي نقدمها للطلاب، كدرس قيمي في تقبل الآخر وحقه في العيش، تحكي القصة باختصار حكاية طفل في الخامسة لأم مقعدة، على لسان الطفل تجري الحكاية أنه في صباح كل يوم يجر الأب الكرسي المتحرك، الذي تجلس عليه الأم، فيما الطفل يجلس على حجر والدته ويعرض من خلالها سحر الرحلة، وكأنها تطير به نحو الفضاء بواسطة كرسي الأم الخارق. 

كل مرة أتنازل عن تذمري بالطريقة ذاتها، أبدأ بأرجحة قدميّ بينما العربة تسير والشفق يظهر من الجنوب متداخلاً مع قوام النخيل الممشوق، ذاك فقط ما تبقّى ليظهر من الجنوب بعد دمار رفح وخانيونس، ومن الشمال يغطي الزحام والضجيج شكل العودة إلى هناك، صار ما يشدني الآن لون الأرجوان من الجنوب، تلك رحلة العودة إلى البيت من شمال دير البلح الآن نحو جنوب غربها، فيغص الخاطر بتلك العبارة: “الأجمل من البيت هو طريق العودة إلى البيت”، وأسأل: أي بيت؟! 

البيت المؤقت، تلك ما يقصده ويصلح لإسقاطه من قول علي اليونس بطل التغريبة: “أي أننا في غمرة التعامل مع التفاصيل الشخصية المفزعة كان الذهول هو الحالة السائدة”، حيث أعود كل يوم إلى البيت المؤقت، الذي أُتم فيه اليوم الشهر الثاني وأدخل نحو الشهر الثالث كبيت مؤقت “مستأجر”، وأسأل نفسي: هل بدأت اعتاد العيش في الحرب؟! 

“تلك الحالة التي لا تستطيع أن تقدر حدود ما أنت فيه” حقاً!

في آب/ أغسطس 2024 أصيب حاسوبي الشخصي “اللابتوب” بعد قصف قريب ومفاجئ، سقط على شاشته حجر بحجم حبة الحمص، أفقدته الشاشة وأحرقتها، وفي محاولتي لتصليحه، أرسلته مهرباً إلى مدينة غزة، لكن الحاجز منع إعادته وصادره، وبدا أمر استعادة مخزن ذكرياتي مستحيلاً، وصار جثة بعيدة عن يدي! 

خلال الأسبوع الثاني من كانون الأول/ ديسمبر استطعت شراء لابتوب جديد، بعد أن فقدت الأول بسبب الحرب التي ما زالت تقتل كل ما يخصني! 

اللابتوب الجديد بين يدي، وأفقد معه دهشة الحصول على شيء جديد، ليحل محل تلك الدهشة شعور عنوانه “الخذلان”، خذلان آخر لما كنت أمتلك وقتلته الحرب! 

وبدا أمر تعويض المفقود سهلاً إلى هذا الحد؟! 

كل الذكريات في قلب اللابتوب “الجثة المصادرة” صارت رماداً بعيداً! 

“شيء ما يشل وعيك” 

أنك تستبدل كل ما هو قديم بسرعة الحاجة والاضطرار. 

كأنك بدأت تعتاد العيش في الحرب وأيامها بعادية! 

والذهول هو الحالة السائدة! 

في الأسبوع ذاته جمعني لقاء بنساء من السودان عبر تقنية الزوم. 

كجلسة حكي نسائية يخص المدافعات عن حقوق الإنسان في ظل الحروب، التي تجتاح الحياة في الواقع العربي. 

في إحدى الشهادات التي تحدثت فيها كاتبة وباحثة سودانية أتشارك وإياها فعل النزوح واضطراراته، جاء فيها حول سبل إعادة الحياة إلى البيوت، البيوت المؤقتة حيث تشاركت وسيدة أخرى بتأثيث البيوت واستعادة ذكريات البيت! 

بدا الأمر وهما تتحدثان وكأن الحرب التي تدور وتقتل وتغتصب وتبيد، هي فعل طبيعي لا يعيق النساء عن حاجتهن إلى فكرة البيت! 

أنا أيضاً أشاركهن تلك الحاجة. 

فبعد أن تطول أيام الحرب تبدو سبل النجاة هي استعادة البيت أو شيء منه كي لا تفنى الذاكرة، بأن هذا الحاضر له ماضٍ حقيقي معاش، تفاصيل الحاضر الشخصية مفزعة إلى الحد الذي يجعلك ترى في الماضي نجاة من كل هذا.

ومن لهذه المهمة سوى النساء. كل البيوت التي دخلتها واستضافت نزوحي جنوب قطاع غزة، كان يتم فيها كل شيء وفق “الحدث المؤقت” منذ تشرين الأول/ نوفمبر 2023، ومحطة نزوحي الأولى خانيونس كلما منحت لي النساء شيئاً، ارتديته وقلت لنفسي: هذا فعل مؤقت! 

وأعيده كلما خرجت أو نزحت. 

كل شيء تمنحني إياه البيوت أعيده لأنهي اعترافي باستدامة الحال. 

لم أحتفظ من البيوت إلا بشالٍ يجمع بين اللونين الرمادي والزهري، أعطتني إياه ابنة خالي آخر ليلة لي في مدينة غزة، كلما ارتديته قلت: ذاك فعل الديمومة، أنا أرتدي المدينة الآن أو ما تبقى لي منها! 

هذا الشتاء الثاني الذي يتطلب مني أن أُعيد كل الأشياء الممنوحة لي لأصحابها، وأُعيد تأثيث حقيبتي والبيت المؤقت. 

كلما صارت حاجتي للإنكار أكبر فرضت حاجتي للعيش نفسها أمامي، وأبدو أمام شعور الإنكار كاذبة.

أنا أعيش واعتاد العيش في هذه الأيام! 

صار اللابتوب الآن بحاجة إلى طاولة اشتريتها، كي أستعيد من ذاكرة البيت صورة طاولة في غرفتي في البيت، تحت الشباك الغربي على يمينها أرجوحتي القماشية، وعلى اليسار يأتي انعكاس الشمس لحظة الغروب من باب البلكونة. 

الطاولة الجديدة أثاث جديد في البيت المؤقت، لكن لا شمس تؤنس الطاولة. 

ثم ما نفع كل هذا الأثاث الذي نجلبه، هل هي ملامح استقرار جديدة مفروضة في واقع النزوح؟! 

الآن أثاث شبه مكتمل من صورة الغرفة، أستعيد من طقوس البيت كل صوره القديمة “طقوس الصباح”، الأغنية بصوت فيروز “وأنا منسية بساحة رمادية”، الحليب يفور، القهوة تنتشر رائحتها. البيت المؤقت يستعير من البيت صورة، والحرب تدور… 

“دوامة تشل وعيك” لتسأل فيها: 

هل يبدو فعل الحرب فعلاً دائماً، إذاً؟! 

الحقيقة أن حيلتي وحيلة الكثيرات من النساء قد نتشاركها 

“لا أحد يلوي ذراع الحرب سوى النساء”. 

فنخدع الحرب بأننا اعتدنا فعلها فيما نؤثث البيوت، من دون إنكار لصور البيوت التي قتلتها الحرب. 

تلك تفاصيل شخصية ننغمس فيها لتظهر صورة الاستقرار في زمن الحرب صورة مرعبة. 

صورة الاعتياد كأسوأ تنازل نقدمه لأنفسنا ونشل وعينا، من دون إدراك لحدود ما نحن فيه، أن تعتاد العيش في الحرب!

ليسيطر عليك شعور الذهول من هول قدرتك على اختراع حيل دفاعية مستمرة منذ أربعة عشر شهراً… 

عن درج ميديا

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *