هكذا تحافظ إسرائيل على تفوقها النوعي على أعدائها في العصر التكنولوجي الجديد
منذ قيامها ، بنت إسرائيل تفوقها العسكري على تفوق تكنولوجي صرف . فقد أدرك بن غوريون أن إسرائيل تواجه تهديدًا غير متماثل – فأعداءها أكبر منها من الناحية الكمية ويحيطون بها، لذلك هناك حاجة إلى تفوق نوعي في البشر والتكنولوجيا والعلاقات مع قوة عالمية للتعويض عن النقص الكمي .
وفر الاستثمار الاستراتيجي المستمر في مجال البحث والتطوير الدفاعي في جبهة التكنولوجيا العسكرية العالمية إلى جانب خطوات أخرى وفر لإسرائيل تفوقا كبيرا على مدى عقود . فأنظمة مثل الطائرات المسيرة الهجومية ومنظومة حيتس “السهم” ومنظومة “القبة الحديدية” و دبابة”ميركافا 4″ والمنصات الاستطلاعية شكلت دلالة على القدرات الخاصة للصناعة الأمنية الإسرائيلية.
وقد أوضحت أحداث 7 أكتوبر لماذا لا يجب الاعتماد على التكنولوجيا فقط، رغم أن قوة إسرائيل التكنولوجية لعبت دوراً مهماً في الإنجازات الهائلة التي حققها الجيش الإسرائيلي على الجبهة الشمالية، ومن أجل عدم العودة إلى واقع 6 أكتوبر، يتعين على إسرائيل أن توفر ردا بعيد المدى على التحدي – المتمثل بالرد على التهديد التكنولوجي غير المتماثل . هذا التحدي جاء نتيجة ثلاثة نجاحات لأعداء إسرائيل، في المحور الذي تقوده إيران وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن والأسد في سوريا والميليشيات الشيعية في العراق وبالطبع المنظمات الفلسطينية:
- نجح أعداء إسرائيل في إبراز تفوقهم الكمي في ساحة الحرب الأوسع ومواجهة التهديد غير المتماثل السلبي لإسرائيل بواسطة إنشاء إطار إقليمي ضد إسرائيل، كما ظهر خلال الحرب.
- تعميق الفجوة الكمية من خلال الاعتماد على الأسلحة الرخيصة مقارنة مع الأسلحة الإسرائيلية – القذائف الصاروخية و الصواريخ “الغبية” وحتى الطائرات المسيرة الرخيصة التي يمكن إنتاجها وشراء كميات كبيرة منها وأكثر من الأسلحة الإسرائيلية المتطورة باهظة الثمن.
- تستثمر ايران بشكل مركز في تطوير مجموعة واسعة من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز وطائرات مسيرة ، على حساب الاستثمار في المجالات العسكرية “التقليدية”. والأمر يتعلق بوسائط قتالية متطورة – ولكنها سهلة التشغيل نسبيًا، ولا تحتاج طاقة بشرية ماهرة ومكلفة (على عكس طياري الطائرات المقاتلة). ورغم أن هذه القدرات لم تصل بعد إلى مرحلة النضج التي تشكل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل، إلا أن الاتجاه الحالي للتعاظم الإيراني يشكل خطراً على إسرائيل .
- تآكل التفوق التكنولوجي الإسرائيلي من خلال الاستثمار في البني التحتية وفي القدرات التكنولوجية العسكرية، وخاصة من جانب إيران وحتى بالتعاون مع روسيا والصين . ومن الأمثلة على ذلك تقدم إيران في تصنيف الإبداع التابع لمنظمة الأمم المتحدة للملكية الفكرية، والذي يقيس الاستثمار في البني التحتية التكنولوجية ــ تقدم ب42 مكانا في التصنيف بين عامي 2012 – 2023 . واضح بأن انتشار التكنولوجيات المتقدمة هو ظاهرة عالمية لها آثار هائلة على ساحة المعركة الحديثة. فالتكنولوجيات التي كانت في السابق ملكية حصرية للجيوش المتقدمة، مثل أنظمة إلكترونيات الطيران، والحرب الإلكترونية، ومنصات الاستخبارات القائمة على الذكاء الاصطناعي، أصبحت في متناول الجهات الفاعلة غير الحكومية أيضا. ويتجلى ذلك في الاستخدام الواسع النطاق للطائرات المسيرة التجارية ، وأنظمة توجيه الصواريخ المتقدمة، وأنظمة الاتصالات المشفرة القائمة على الشبكة.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك قدرة الحوثيين – وهم تنظيم فقير في بلد ضعيف – على تهديد إسرائيل بالصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة ، بعضها بقدرات دقيقة متقدمة يحصلون عليها من إيران . ويجب على الرد الإسرائيلي على هذا التحدي أن يجمع بين التقنيات المتقدمة و بين الحلول البسيطة ولكن الفعالة .
على ضوء ذلك فإن استراتيجية تطوير وإنتاج منظومات الأسلحة المتطورة بشكل مستقل هو أمر حيوي وضروري، لكنه لم يعد وحده يوفر تفوق استراتيجي واضح يضمن التفوق النوعي لإسرائيل . والمطلوب مفهوم جديد يقوم على عدة مبادئ: - بناء قوة موجهة في المقام الأول إلى القدرات المتنوعة – التي يمكن ملائمتها بسرعة في الساحات والمهام المختلفة .
- التركيز على رخص مشتريات منظومات الأسلحة من التطوير الذاتي، دون الإضرار بالقدرات والأداء – بواسطة تأهيل المطورين، وتغيير مفهوم الشراء في الهيئة الأمنية ، وتقديم التعويض المناسب عن تخفيضات الأسعار بين مرحلة الانتهاء من التطوير و مرحلة الدخول في الإنتاج النظامي والشراء متعدد السنوات بكميات كبيرة .
- التزود بأسلحة رخيصة واقل تطوراً، والتي يمكن التزود بها بكميات كبيرة وبحيث تكون صيانتها رخيصة، مقابل أهداف وغايات محددة، خاصة في الساحات التي تعاني فيها إسرائيل من تدني كمي كبير وتحدي معارك وحروب قد تدوم لفترة طويلة (على سبيل المثال، ضد لبنان وإيران).
- إزالة العوائق أمام الصادرات الامنية (بهدف توسيع قدرات الصناعة المحلية) والتعاون مع الدول الأجنبية الصديقة التي ستشارك في تكاليف التطوير.
- التشخيص السريع للتقنيات الحديثة – القادرة على متابعة التطوير في الأسواق المدنية للتكنولوجيات ذات الاستخدام المزدوج.
- الاستيعاب المرن للقدرات الجديدة – صياغة أساليب سريعة للتأهيل وتفعيل وتكييف الهياكل التنظيمية لأداء المهام الجديدة بسرعة.
- التكامل الفعال للأنظمة – تطوير أنظمة الإدارة والتحكم بالإضافة إلى قواعد البيانات المفتوحة التي تتيح المجال لدمج منظومات خارجية بشكل سريع .
تنفيذ هذا المفهوم يتيح قدرًا أكبر من المرونة التشغيلية في مواجهة التهديدات المتطورة، والاستخدام الفعال للتكنولوجيات التي تم استثمار معظم الأموال في تطويرها من أموال القطاع الخاص لأنها لا تستخدم حصريًا للأغراض الأمنية مع تقليل تكاليف التطوير. وتعزيز التآزر بين الصناعة الامنية والقطاع المدني.
تعد القدرة على تحديد التقنيات الجديدة وتنفيذها وتكييفها بسرعة ميزة تنافسية كبيرة في حد ذاتها، ومع ذلك، فإن تحقيق هذا المفهوم يتطلب أيضًا تغييرًا إدراكيًا بين صناع القرار، الذين اعتادوا على عمليات الشراء والتطوير طويلة الأجل وموجهين نحو نحو حلول متطورة ورائدة فقط.
إن إسرائيل، بفضل نظامها البيئي التكنولوجي المتطور، والعلاقة الوثيقة بين المنظومة الامنية والصناعة، والخبرة العملياتية الغنية، هي في وضع فريد لتطبيق هذا النموذج الجديد. ومع ذلك، فإن هذا سيتطلب تغييرًا في عملية صنع القرار، وفي الثقافة التنظيمية للمؤسسة الامنية ، وفي نماذج أعمال الصناعات الامنية .
في الختام، وكما في جوانب أخرى كثيرة – فإن أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2023 ستجبر دولة إسرائيل على العودة إلى المبادئ والمفاهيم التي أرشدت الجيل المؤسس في العقود الأولى بعد قيام الدولة – مع تكييفها مع الواقع، والفرص والتحديات في القرن الحادي والعشرين. وفي هذا السياق، لا بد من العودة إلى تقييم بن غوريون للاستثمار في رأس المال البشري والتكنولوجي في إسرائيل باعتباره بوليصة تأمين ضد التفوق الكمي لأعداء إسرائيل. مطلوب من إسرائيل في عام 2024 أن تتبنى نهجا أكثر مرونة ، يركز على التحديد السريع، والاستيعاب المرن والتكامل الفعال للتكنولوجيات الجديدة. وبهذه الطريقة فقط ستتمكن إسرائيل من الحفاظ على تفوقها النوعي في عصر أصبح فيه الإبداع التكنولوجي ملكية مشتركة.
المصدر: موقع واللا العبري