في العقود الثلاثة الماضية تلاحقت القيعان علينا بشكل مُذهل. كلما انتكسنا الى قاع عميق وصدمنا هول حالنا، فلسطينيا او عربيا، اكتشفنا ان ثمة قيعان أخرى بعد القاع الجديد. تسابقت الرسمية الفلسطينية مع الرسميات العربية في حفر القيعان التي سلمت قدر الفلسطينيين والمنطقة برمتها الى إسرائيل. تجميل الانحطاط الى كل قاع جديد كان يتم دوما، وكما شهدنا في قاع تطبيع معاهدات الاستسلام الابراهيمية، عبر مهرجانات واحتفاليات تبرر السقوط تارة بالعقلانية وتارة بالمصلحة وتارة ب “بعد النظر”. من مؤتمر مدريد على اقل تقدير وحتى التطبيع العربي الأخير وتلاحق القيعان هو المسار الذي تحكم عملياً في علاقتنا مع العدو. كل عقلانية وبراغماتية يكتشفها زعيم ارعن هنا او حاكم مراهق هناك كان تحفر قاعاً جديدا ينزل اليه المكتشفون الجدد، وهناك يجدون الحذاء الإسرائيلي فوق رؤوسهم يدوس عليهم اكثر ليحفروا اكثر.
في هودة القيعان ينغلق الأفق ويزداد الظلام. الامل الوحيد الذي يتبقى في عصر القيعان هو فشل القيادات والحكام المتسابقين الى القاع في جر شعوبهم اليه. تظل الشعوب فوق حكامها، ينصرف السفلة عن المشهد، يسقطون، يموتون، وتبقى الشعوب والاوطان. افق الشعوب هو الحق والعدل المتربعان فوق الاسقف المرتفعة، افق يرفض النزول الى القيعان مع من نزلوا. تغولت إسرائيل في تبجحها وسياساتها مع الانهيار الفلسطيني والعربي الرسمي. رفضت كل ما عُرض عليها من “مبادرات” سلام كانت تقدم في هذا القاع او ذاك، وظلت تطالب بالمزيد. الى ان وصلنا صفقة القرن التي مزقت ما تبقى من فلسطين وقدمت الى إسرائيل ما لم تحلم به، ونصح قادة عرب القاع الفلسطينيين بقبولها. خلال مسيرة القيعان المتلاحقة كانت إسرائيل تواصل القضم والاحتلال والاستيطان وفي كل مرحلة ترسم خطاً جديدا تعتبره خط البداية مع الفلسطينيين والعرب ولا يحق لهم الحديث عما سبقه. في النكبة احتلت أراض أكبر بكثير مما اقترحه قرار التقسيم بما فيها القدس واعتبرت ذلك هو الخط المرسوم لعلاقتها مع العرب والفلسطينيين حربا ام سلما. بعد حرب ١٩٦٧ ضمت كلا من القدس والجولان وثلث الضفة الغربية بما فيها غور الأردن، واعتبرت هذه “مكتسبات” وخطا جديداً يحدد علاقتها الجديدة معنا. بعد أوسلو تمددت اكثر، خلقت سلطة فلسطينية قائمة على فكرة حماية امن إسرائيل منذ سنة ١٩٩٣، في “إبداع” استعماري لم يحدث في تاريخ الشعوب، حيث الشعب الخاضع لبطش الاستعمار مطلوب منه حماية القوة الاستعمارية نفسها. واصلت توغلها حتى وصلت الى مضمون الكتب التعليمية في المدارس الفلسطينية، ومضامين اعلامهم وغدا تتدخل في احلامهم. مع كل قاع كنا نخسر أكثر واكثر، ارضا، وهوية، وكرامة، ووحدة.
الرهان الُمنقذ دوما من انحطاطات القاع هو رفض الشعب نفسه. الناس يثورون على ذل استنقاع القيعان، ويعيدون ترتيب البوصلة ورفع الاسقف. هذا هو تاريخ الشعوب، إذ ببساطة لا تقبل الانجرار الى القيعان. هذا ما رأيناه في هبة القدس والشيخ جراح وساحات الأقصى المجيدة، وتوسع ليشمل كل فلسطين الآن. إنه الهجوم المضاد للأسقف المتلاحقة والذي يصل الى قلب ساحة العدو وينقل المعركة الى حضنه. عندما تتنحى قيادات القيعان جانبا وتُترك طاقات الشعوب الخلاقة لتتفجر بحرية ومن دون إحتكار تتغير المعادلات، ويتم رسم خطوط جديدة على حساب العدو. واذا كانت سياسات القيعان، فلسطينيا، قد دمرت المشروع الوطني واحبطت الناس وفرغت الطاقة الثورية للشعب، وانتجت انقسامات وكيانات سقيمة، فإن نضال رفع الاسقف يحقق عكس ذلك كله، يعيد تجديد الثورة، يحرر الطاقات الخلاقة عند الشعب ويوحده، ويدوس على الحدود التي جزأته. نضال رفع الاسقف أعاد توحيد الشعب الفلسطيني بدءا من القدس الى قطاع غزة الى الضفة الغربية الى الداخل المحتل الى بلدان اللجوء والشتات. صار الفلسطينيون صوتا واحدا وهما واحدا وثورة واحدة حيثما كانوا. نضال رفع الاسقف أعاد الى الاجندة السؤال الاولي والابتدائي ونقض شرعية الكيان الاستعماري من أساسه، ودفع خطوطه التي ظل يرسمها وفي كل مرة يقضم ارضا وكرامة على حسابنا.
هل هذا الكلام عاطفي وبعيد عن السياسة في ظل المعطيات الواقعية وانسداد الأفق العربي والإقليمي؟ الجواب لا ليس عاطفيا بل هو في قلب السياسة اذا احتضنا قوة الشعب ومقاومته بكل الوسائل واقحمناها في قلب المعادلة. عندها نزحزح الاسقف. وكما كان الانحدار الى القيعان سيرورة طويلة، فإن رفع الاسقف سيرورة طويلة ايضا، وما نشهده اليوم جولة من جولاتها. حتى لو انتهت وتوقفت، فإن هذه الجولة تنقلنا الى فضاء جديد وسوف يلحقها جولات، لكن المهم هو عدم التخلي عن مركزية دور الناس ومشاركتهم. علينا ان نتذكر ان الشعوب في الربيع العربي هي التي قلبت المعادلات ورفعت الاسقف وفاجأت الجميع واسقطت أنظمة جبروتية. رهاننا الأكبر والاهم والاغلى هو الشعب الذي فشلت كل سياسات الصهيونية وإسرائيل في تحطيم بوصلته الوطنية، وتألقت اليوم واحدة وموحدة. صوت البوصلة الذي دق في القدس تردد صداه في يافا وحيفا وعكا واللد والناصرة وبئر السبع وغزة ورام الله ونابلس وجنين والخليل، وفي كل العالم. عندما نرفع الاسقف كفلسطينيين تنسحب ايضا فئران القاع وتجبُن، ولهذا اختنق رهط المطبعين بصمتهم وارتباكهم ولم نسمعهم. لكن عندما نسبقهم الى القاع فإننا نسوغ لهم سياسات القيعان وهناك يدوسون على حقوقنا وكرامتنا كما تدوس إسرائيل عليهم وعلينا.