هبة باب العامود في إطار تثبيت الوجود الوطني الفلسطيني في المدينة
شكلت انتفاضة عام ٢٠٠٠ آخر محاولة فلسطينية كفاحية شاملة لتحقيق الاستقلال الوطني الفلسطيني في دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران عام ١٩٦٧. ويلوح الآن في الأفق بوادر حملة كفاح فلسطيني شامل جديدة.
بعد تلك الانتفاضة إنتقل الكفاح الوطني الفلسطيني إلى المحلية ، ليتخذ شكل هبات في مواقع بعينها ، فيما تقوم المواقع الاخرى بدور الاسناد . جاء هذا التطور في ضوء عوامل مختلفة بعضها موضوعي : كخروج الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة عام ٢٠٠٥ مما جعل استمرار الاشتباك الانتفاضي الشعبي المباشر معه غير ممكن ، وانكفاء قوات الجيش الاسرائيلي إلى خارج المدن الفلسطينية في الضفة قبل ذلك ، وتحول الجيش الاسرائيلي إلى استخدام الأبراج المحصنة وسيارات الجيب المؤمنة في مواجهة المظاهرات الفلسطينية التي استمرت في مواقع محددة مثل كفر قدوم وبلعين ونعلين وأم سلمونة وقرى الاغوار وقرى مسافر يطا. وترافق ذلك مع العوامل الموضوعية في الجانب الاقتصادي حيث بينت محاولات الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي في الضفة عدم قدرة على التنفيذ بسبب الإجراءات الاسرائيلية الكابحة لأي خروج عن بروتوكول باريس الاقتصادي لعام ١٩٩٤ والذي يتعامل مع فلسطين المحتلة عام ١٩٦٧ واسرائيل في إطار اتحاد جمركي واحد ، ومن الامثلة على فشل تجارب الانفكاك تجربة التوقف عن استيراد العجول من إسرائيل عام ٢٠١٩، وما تلاه من وقف إسرائيل لاستيراد المنتجات الزراعية الفلسطينية ومنعها لفلسطين من استيراد عجول من دول بديلة ، وفي النهاية عادت فلسطين لاستيراد العجول من اسرائيل ، كما عادت عن كل قرارات الانفكاك الاقتصادي عنها.
يضاف للعوامل الموضوعية الكابحة للفعل الانتفاضي الفلسطيني الشامل ، عوامل ذاتية لعل أولها يتمثل في عدم القدرة على تطوير رؤية لانتفاضة فلسطينية ثالثة تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الظروف عن الانتفاضات السابقة من حيث انسحاب الجيش الاسرائيلي خارج المدن الفلسطينية في الضفة وخارج غزة ، ومشكلات المقاطعة الاقتصادية لمنتجات الاحتلال في ظل حاجة غزة المغلقة من جميع الجهات إليها ، وعدم التركيز على الزراعة وتطوير بدائل وطنية للمنتجات الاسرائيلية في الضفة ، وعدم اعتماد نهج التنمية المبني على المجتمع المحلي لتعزيز الاعتماد على الذات اقتصاديا. ولعل من العناصر الهامة لتطوير مقاومة فلسطينية شاملة القيام ببنائها على ستة أسس: كفاحية وميدانية ، واقتصادية تنموية ، وقانونية ، ودبلوماسية سياسية ، ومعرفية ، واعلامية ، بحيث تشمل هذه الأسس الست مشاركة كل قطاعات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده فيها ، وبمشاركة مناصري وقوى التضامن والبرلمانات المساندة فيها ، وقبل كل ذلك مشاركة وتحقيق التناغم والتنسيق بين الجهود الرسمية والجهود الشعبية فيها بتنظيم من قبل منظمة التحرير الفلسطينية .
بعض جوانب هذه الرؤية الجديدة للمقاومة الفلسطينية الشاملة قائمة وموجودة في نشاطات حركات المقاطعة والعقوبات وسحب الاستثمارات ، وفي حراكات الجاليات الفلسطينية وقوى التضامن ، وفي النشاط الدبلوماسي السياسي والقانوني في المحافل والهيئات الدولية ، ولكن هذه الجوانب ينقصها التنظيم والتكامل ودور المايسترو الذي ينسج اتساقها معا ممثلا في منظمة التحرير الفلسطينية بعد تفعيلها ومعالجة حالات الانقسام والتشظي داخلها ، وكذلك في صفوف الشعب الفلسطيني ولاجئيه وجالياته في كل ارجاء الارض.
لا تعيش الحياة النضالية الفلسطينية في فراغ إلى حين بزوغ الرؤية الشاملة للكفاح الفلسطيني وتفعيل قيادتها المنظمة ، ولكن ما حصل هنا أن الكفاح الشعبي الفلسطيني سيما في الداخل قد تشظى، وأصبح محليا ، كما أن لم يعد متعلقا بشعارات كبرى التحرير الوطني والاستقلال ، بل أصبح يمثل حالات من الهبات التي تمثل ردود أفعال على إجراءات احتلالية استيطانية استعمارية محددة بهدف إلحاق الهزيمة بها، وتعزيز تثبيت الوجود الفلسطيني على ارض وطنه . لا يقلل هذا التحول من بطولة الفاعلين على الأرض ولا من نبل افعالهم و إخلاصهم وتضحياتهم ، ولكنه ربما يزيد من قيمة هذه البطولات كونها تتم بجهود محلية في ظل غياب استراتيجية مقاومة منظمة شاملة. ويمثل النجاح في دحر ترحيل فلسطينيي الخان الاحمر ، والمعارك المستمرة لتثبيت وجود العراقيب وغيرها من القرى غير المعترف بها اسرائيليا في النقب ، وكفاح اليافاويين ضد يبع عقاراتهم من قبل شركة عميدار الاسرائيلية ، وكفاح قرى الأغوار ومسافر يطا المستمر أمثلة على هذا الكفاح البطولي المثابر والمنقطع النظير.
في القدس ، يكتسي تثبيت الوجود الفلسطيني معنى اضافيا خاصا ، حيث مركزية القدس كعاصمة لفلسطين وأهميتها الدولية ، والسعي الصهيوني لتحويلها بناء على ذلك إلى مفتاح لتنظيم كل الحجيج الدولي والعربي والإسلامي إليها من خلال البوابة الاسرائيلية ، اضافة للمساعي الإسرائيلية المحمومة لتهويدها واسرلتها بشكل شامل مكانا وارضا واقليما وفضاءا ومشهدا، فلا يكاد يمر يوم دون الإعلان عن خطة إسرائيلية جديدة لتهويد المدينة . كل ذلك يجعل حياة المقدسي الفلسطيني اليومية حكاية صمود يومي ، فالدفاع عن الوجود اليوم ، لا يكفي لحماية هذا الوجود في اليوم التالي ، ففي اليوم التالي عليك كمقدسي أن تعيد خوض معركة تثبيت الوجود من جديد وهكذا كل يوم. هذا ما أصبحت عليه الحالة المقدسية: حالة دفاع مستمر عن الوجود ، مجرد الوجود.
في هذه المعركة لحفظ الوجود يتحرك المقدسيون لدى استشعارهم للخطر وكرد على عدوان إسرائيلي ، وفي اطار هذا الاستشعار حققوا الانتصار في منع تركيب البوابات على مداخل المسجد الاقصى عام ٢٠١٧، ومنعوا تحويل مصلى باب الرحمة إلى كنيس يهودي عامي ٢٠١٨ و ٢٠١٩، ومنعوا الاحتلال من إغلاق باب العامود الشريان الحيوي للقاء المقدسيين اصدقاءا ونشاطات ثقافية وفنية، تماما كما كانت ساحة ‘ اغورا’ في أثينا القديمة، وشارك المقدسيون بكلهم في تحقيق هذه الانجازات بشيبهم وشبانهم ، ورجالهم ونسائهم ، وبفصائلهم الفلسطينية والمستقلين عنها ، وبمسلميهم ومسيحييهم ، بالمساواة وبدون استثناء أحد ، ولا سطوة أحد على الآخر. وبهذا ارسلوا رسالة للعالم وللمطبعين الجدد من العرب بأن القدس فلسطينية عربية لا بالشعار ولكن من خلال اهلها الذي يصنعون الصمود يوميا فيها.
وللحق فإن لباب العامود حكاية تتطلب تسليط الاضواء على بعض جوانبها وان لم يكن كلها مما يتطلب مقالة خاصة ، فبعد مسيرة أوسلو حول الاحتلال باب الخليل المؤدي إلى البلدة القديمة بابا لدخول اليهود بشكل خاص إليها لقربه المباشر للقدس الغربية ، كما حول باب المغاربة إلى باب لدخول المتطرفين اليهود والافتجليكانيين المسيحيين إلى المسجد الأقصى ، وحتى السنة الماضية بقي باب العامود وسائر أبواب القديمة مفتوحة لدخول الجميع ، وفي الممارسة كان باب العامود وباب الجديد وباب الساهرة هي الأبواب الثلاثة الرئيسة التي يستخدمها الفلسطينيون مسلمين ومسيحيين للنفاذ إلى البلدة القديمة بدون أن يمنع ذلك دخول اليهود أيضا من هذه الابواب . هكذا كانت الحال حتى تشرين أول / أكتوبر عام ٢٠٢٠ ، حيث قام الاحتلال بوضع لافتة معدنية على مدخل باب العامود باسم ” هدار وهداس ” وذلك تكريما منه لمجندتين قتلتا عامي ٢٠١٦و ٢٠١٧ هما هدار كوهين وهداس ملكا . ولذلك لم يكن صدفة أن قام الاحتلال بإغلاق باب العامود في بداية رمضان الجاري لمنع التجمهرات الفلسطينية فيه بذريعة ” تسهيل وعدم عرقلة حركة المرور “، فهذا الإجراء الذي طرح على أنه مجرد إجراء تقني أراد استكمال خطوة اكتوبر الماضي باعادة تسمية باب العامود بأسماء يهودية ، وبالتالي البدء في حصر حرية وجود الفلسطينيين فيه . أدرك شباب القدس هذا الخطر ، فهبوا لمنعه ونجحوا في ذلك ، ولكن لا ضمانة أن لا يعيد الاحتلال الكرة من جديد مستقبلا ، فالحياة في القدس هي كر وفر مع الاحتلال بشكل يومي.
وإذ نجح المقدسيون حتى الآن في تثبيت منع التقسيم المكاني والزماني للمسجد الاقصى ، ومنع تهويد باب العامود ، فإن معارك الكر والفر مستمرة ضد الترحيل في الشيخ جراح ، ومواقع سلوان : البستان وبطن الهوى ووادي الربابة . الملاحظة هنا أن الكفاح من أجل الدفاع عن الأقصى وباب العامود اتخذ طابعا مقدسيا شاملا، أما الكفاح للحفاظ على الشيخ جراح ومواقع سلوان فيقتصر على سكان تلك المواقع ، ومشاركة محدودة ممن يقطنون في أحياء القدس خارجها ، اضافة لمشاركة نشطاء ونشيطات يساريين يهود واجانب. ويتطلب الأمر هنا التساؤل حول الكيفية التي يمكن من خلالها جعل الكفاح ضد الترحيل من مواقع القدس شاملا كما هو الكفاح بشأن قضايا الأقصى وباب العامود. كما يتطلب الدعوة للحماية الدولية الفورية للمقدسيين ضد إجراءات الترحيل الداهمة.
حاولت السطور السابقة وضع كفاحات المقدسيين في السنوات الاخيرة في اطار هو حفظ الوجود الوطني الفلسطيني في المدينة وهو أمر في غاية عالية من الاهمية . هي هبات تبدأ بمفجر لها ، وتنتهي مع انتهاء هذا المفجر ، ولكن يبقى المقدسيون بعدها دائما على يقظة وعلى أهبة الاستعداد بانتظار المفجر الاحتلالي القادم . ولهذه الكفاحات نجاحات بطولية في قضايا الاقصى وباب العامود، ولكن لها ايضا محدوديتها في سلوان والشيخ جراح حيث ضعف المشاركة في النشاطات الاحتجاجية في تلك المواقع ، لذا يجب عدم تحميلها أكثر مما تحتمل، بل السعي إلى جعلها مقاومة فلسطينية شاملة وفق المكونات الست المطروحة آنفا . و حينها ، وحينها فقط يمكن طرح مطالب شاملة باتجاه الحرية والاستقلال لا يستطيع شباب القدس لوحدهم/ن تحقيقها .
بقيت كلمة أخيرة حول الانتخابات الفلسطينية ، فالهبات المقدسية لا علاقة لها بها ، وعموما لا يهتم المقدسيون العاديون بالانتخابات قدر اهتمامهم بالحفاظ على وجودهم في المدينة من خلال هباتهم وهو الاهم . في المقابل اهتمت بالانتخابات النخب المقدسية التي بعضها غير مندمج بمجتمعه المقدسي بشكل كاف.
لهذا الانفصال بين النخبة وبين قطاعات الشعب الواسعة حديث في مقال آخر، ولربما يكون المدخل لنقاشه هو المتعلق بالسؤال: هل الأولوية في القدس تحت الاحتلال هي للكفاح الوطني أم للبناء الوطني ؟ وما هو موقع الانتخابات الفلسطينية في إطار ذلك ؟ وكيف تكون هذه الانتخابات رافعة اضافية لتعزيز الكفاح الوطني في المدينة ، وليس مجرد عملية فنية اجرائية؟